الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

امرأة الصخب الرائع

امرأة الصخب الرائع
4 سبتمبر 2008 01:31
كما لو أنها تعطي الأمر للكاميرا بالتوقف عن التصوير أغمضت رندا الشهال عينيها ورحلت· الفتاة المشاغبة التي كانتها ذات عمر قررت فجأة أن تدخل في هدوء لم تعرفه طيلة حياتها الصاخبة، حياة لم يمنعها قصر أيامها، واقتصار عدد سنيها على الـ55 من أن تكون بالغة الفعالية والتأثير· برحيلها وجد الكثير من معارفها أنفسهم أمام إحدى مفاجآتها المتكررة: رندا المرأة المتمردة المتحفزة دوماً لإثارة الشغب الرائع كانت تتعايش مع مرض عضال استوطن أحشاءها، لكنه لم يحظ منها بالكثير من الانتباه، استمرت رغم مرضها على القدر نفسه من التحفز والتوثب، والرغبة الجامحة في إثارة عواصف الأسئلة، دائماً كان هاجسها أن تدير الكاميرا بالاتجاه الصحيح، وهو بالنسبة لها من اليمين إلى اليسار تماماً كما تنتظم الحروف العربية لتصنع ألق اللغة· انتحال صفة كانت مخرجة سينمائية، هكذا يفيد سجلها المهني، لكنّ عارفيها سرعان ما تبيّن لهم أنّ الأمر لا يتجاوز كونه انتحال صفة، إذ إنها في العمق إنسانة حقيقية منحازة لجوهر البعد الإنساني، وحريصة على تنقيته من شوائب شتى علقت به، أمّا اللعبة السينمائية فلم تتجاوز كونها إحدى وسائل النفاد صوب ذلك العمق البهي من الوجود، كانت تصنع الأفلام كما لو أنها ترتكب إحدى مشاكساتها العذبة، ولا تتردد في إضفاء بعض الرعونة على أعمالها عند اقتضاء الحاجة· المخرجة كانت دائماً في صلب الكادر، هي أدركت ربما أن الحياة أقصر من أن نضيع بعض دقائقها الثمينة على الهامش، تأسيساً على هذه الرؤية تحولت رندا إلى إحدى العلامات النادرة في سجل الحياة· عشق المختلف سيدة الصخب الجميل هي، يعرفها أصدقاؤها، بقدر ما يعرفون أنّ اقتحامها الجلسات الدافئة من شأنه أن يرفع منسوب الحميمية فيها، لكنه لابد سيمنحها المزيد من التألق والغواية المعرفية المغايرة للمألوف، كانت تبدي انحيازاً صارخاً نحو المختلف، بقدر ما كانت رافضة للانضواء في إطار السائد، كانت تبدو دوماً كما لو أنها مقبلة على مغامرة خطيرة ستغير ما هو قائم، وأحياناً كانت تصرفاتها تشير إلى كونها عائدة لتوّها من المغامرة نفسها· على حافة الجنون قبل أربعين عاماً قررت رندا الشهال خوض غمار السينما، مدفوعة نحوها بتوق غامض لجعل القصص حقائق مرئية، كانت تجمع إخوتها وأبناء الجيران وتوزع عليهم الأدوار، ثم تتولى مراقبة أدائهم بعين متفحصة، مرّ زمن شعرت خلاله أنّ حماسها للشاشة قد تلاشى، تصرفت لبرهة كالابنة المطيعة، ووافقت والدها على دراسة علم الصيدلة سعياً خلف مستقبل آمن، لكن ستة أشهر كانت كافية لإيقاظ الحنين الكامن داخلها نحو السحر السينمائي، فكان أن اتخذت قراراً على حافة الجنون، تركت الصيدلة لتنخرط في دراسة السينما في جامعة ''فانسان'' الباريسية، قبل أن تواصل إعدادها العلمي في ''معهد لوي لوميير''· الصورة في مواجهة الموت لم يمض وقت كثيرة حتى حزمت حقائبها عائدة إلى لبنان الذي كان يشتعل بنار الحرب، هناك حملت المخرجة المبتدئة كاميرتها لترصد بها القذائف المتساقطة كمطر في ليلة عاصفة، بدت كما لو أنها تحصّن الحياة بالصورة في مواجهة الكثير من الموت الذي كان يجري دون حساب· كان ذلك في العام 1978 وقد خرجت المخرجة الناشئة من ذلك الحراك العفوي بفيلمها الوثائقي الأول ''خطوة خطوة''· بعد مرور سنتين على إنجازها البكر كانت رندا على موعد مع فيلم وثائقي آخر هو ''لبنان أيام زمان''، على وقع صوت الشاعر طلال حيدر· لحظة نادرة إثر ذلك قادتها الأقدار نحو باريس مجدداً، هاربة مع زوجها إيلي بيار صباغ من جحيم الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام ،1982 وفي كواليس مسرح ''الأماندييه'' التقت الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في خروجهما الأول من معتقلات الأمن نحو رحابة العالم، بدا الحدث مثيراً للاهتمام من زاوية العين الباحثة عن اللحظات النادرة في مسيرة الزمن، لم يمض وقت طويل حتى كانت رندا الشهال تضع توقيعها على فيلم وثائقي ثالث حمل عنوان ''الشيخ إمام''· عام ،1984 كان الأمر يتجاوز حدود التأثر بمغن ملتزم نحو إيقاظ كوامن الذاكرة الفتية، ذلك أنّ أغاني الشيخ رافقت تفتح الوعي لدى رندا الشهال التي تربت في بيت تهمين على مناخه إرهاصات اليسار، وتداعيات شعاراته الملتصقة بتفاصيل العيش· الروائية كان على وقت طويل أن يمر وعلى أحداث ومفارقات شتى أن تعيد تشكيل رؤية المخرجة التي تجاوزت الهواية نحو الاحتراف، قبل أن تقرر رندا موعد التحول من الأعمال الوثائقية باتجاه السينما الروائية، خاضت في البدء نقاشاً مع الروائية اللبنانية حنان الشيخ بهدف تحويل روايتها ''مسك الغزال'' إلى عمل سينمائي، دون أن تنجح، وكان أن قادها حسّها المشاغب نحو كتابة عملها بنفسها، هكذا صار لرندا الشهال نتاج إبداعي شاهده الناس على الشاشة عام 1991 تحت عنوان ''شاشات الرمل''، وفيه ترصد آثار الطفرة النفطية على سلوك بعض النماذج البشرية من خلال متابعة سلوك ''سارة'' المطلّقة الثريّة التي تشعر بأن كل شيء بمتناولها، وعلاقتها بـ''مريم'' الآتية من الحرب اللبنانيّة· إيقاع أنثوي متناغم برغم اختلاف عناصره، وتباين مقاصد المرأتين اللتين يربط بينهما نمط عيش قائم على الثراء والمحاذير وجموح الرغبة· أثار الفيلم بعض الانتقادات، وكان هناك من قال بافتقاره إلى الترابط بين مفاصله الأساسية، لكنّ وجود الممثلة ماريا شنايدر، التي أعادتها الشهال إلى التوهج بعد فترة من انحسار الضوء عنها، منح العمل السينمائي الكثير من عوامل التميز· عام 1995 كانت الحرب اللبنانية قد وضعت أوزارها، لكنّ آثارها كانت لا تزال راسخة في ذهن المخرجة التي عاشت تفاصيلها بكثير من الخوف والإحساس بالخسارة، وسرعان ما أزالت ركام الماضي عن الذاكرة المتقدة وأخرجت فيلمها العميق الأثر ''حروبنا الطائشة''، وهو فيلم وثائقي فائق الحميمية إذ يعتمد على حوارات أجرتها رندا مع والدتها العراقية فيكتوريا وأختها نهلة وشقيقها تميم، وتمحورت حول مشاهد الحرب التي كانت تحتفظ بأرشيف لها، العمل شكل مخزوناً وثائقياً ثرياً لتفاصيل الحرب، كما انطوى على مقاربة لها من موقع النقد والمساءلة، مجدداً لم يكن الإنجاز خارج إطار النقد، إذ كان من رأى فيه استعادة لأيام مشؤومة ينبغي العمل على طمسها ودفعها نحو هاوية النسيان· كواليس مظلمة في العام 1997 كانت رندا على موعد مع فيلم تلفزيوني أنجزته بالتعاون مع تلفزيون (arte) وحمل عنوان ''كفّار'' اخترقت من خلاله كواليس الأصولية الإسلامية، عبر حكاية الإسلامي المصري فريد الذي تخلى فجأة عن انتمائه الأصولي، وقرر التعاون مع السلطات الفرنسية من خلال تقديم المعلومات لها عن شبكة أصولية، مقابل الإفراج عن أحد أصدقائه المعتقلين لديها، وكانت مفاجاة جديدة بانتظار مشاهدي الفيلم، إذ إن الصلة التي جمعت فريد بالملحق الثقافي الفرنسي في القاهرة سرعان ما أخذت منحى مغايراً، حيث خيم عليها شبح الانجذاب المثلي· السير في الممنوع الفيلم الروائي الثاني في مسيرة رندا الشهال أُنجز عام 1998 وحمل عنوان ''متحضرات'' وهو أيضاً حظي بضجة واسعة، تُوجت بمنعه من العرض، إذ لم تتمكن الرقابة من تجاوز ما تضمنه من فجاجة في اللغة، وجرأة في المواقف· عابرة بين الألغام في العام 2003 حظيت رندا الشهال بفرصة الإنصاف الإبداعي إذ أخرجت عملها الروائي الثالث '' طيارة من ورق'' لينال قبول كبار النقاد العالميين في ''مهرجان البندقيّة/ فينيسيا''، ويحوز جائزة ''الأسد الفضي''، إضافة إلى جائزة لجنة التحكيم الخاصة· قاربت رندا في الفيلم إشكالية الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وما ينطوي عليه من تحويل للعيش عن مساره البديهي نحو منعرجات شائكة، بحيث يصير البديهي أمنية عسيرة المنال، تدور أحداث الفيلم حول المراهقة ''لميا'' وهي تلاعب الرياح بطائرتها الورقيّة· عند الحدود اللبنانية الفلسطينية، سيكون عليها أن تجتاز تلك الحدود للمرة الأولى مرتدية ثياب الزفاف لملاقاة زوج لا تعرفه، ولم يكن لها دور في اختياره، لكنها تقرر لاحقاً أن تجتازها مجدداً، بإرادتها هذه المرة، عابرة نحو لقاء جندي عربي في الجيش الإسرائيلي وقعت في غرامه من بعيد· عند هذا الحب المستحيل والعبور نحو المجهول، وعلى إيقاع أصوات الرصاص والتحذير من الألغام التي تفصل بين الحدود الساخنة، ينتهي الفيلم مثيراً عاصفة من التساؤلات عن مصير لميا التائهة بين التدابير الأمنية للاحتلال وبين التقاليد العشائرية التي لا تتردد في تزويج فتاة من المجهول تكريساً لسلطتها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©