السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استراتيجية التقويض

استراتيجية التقويض
15 ابريل 2015 22:06
لا نقول: «نقد الميتافيزيقا»، فالأمر لا يتعلق هنا بما اعتدنا أن نسميه نقدا، ذلك أن التفكيك يطال مفهوم النقد ذاته. من أهم المآخذ التي يأخذها دريدا على النقد المتداول كونه ظل عند معظم الممارسين له نقداً «خارجياً» يدّعي أن باستطاعته تفسير النصوص وتأويلها، بل ومحاكمتها، بردها إلى الشرائط الخارجية التي توجد من «ورائها». يتساوى في هذا النقد «الفكري» والنقد الأدبي أو الفني. وقفَ دريدا عند مفهوم «الخارج» هذا فرأى أن التمييز الأوّلي بين الخارج والداخل لا يخلو من نفحة وضعية. بل إنه التمييز الذي كرسته الميتافيزيقا الغربية عبر تاريخها. وهذا بالمعنى العام للفظ الميتافيزيقا وليس من حيث هي فرع من فروع الفلسفة، وإنما من حيث هي حياة تحاول فيها مجموعة من القيم أن تؤكد ذاتها مهما اختلفت الحقول. لذا فإن التفكيك لا يكتفي بأن يتعقب مختلف الثنائيات الميتافيزيقية في تاريخ الفلسفة، وإنما يتعرض لها في اللسانيات(الكلام والكتابة)، والتحليل النفسي (العقل والجنون)، والأدب (الحقيقة والمجاز)...  ثنائية الخارج/ الداخل يبدأ التفكيك بأن ينصبَّ على الثنائي خارج/ داخل. يعتقد دريدا أن الخارج «الممكن» لا يمكن أن يقوم إلا «داخل» كل نص. ولا يكفي «تفسير» النصوص بردها إلى عوامل «خارجة» عنها. من هنا تحُل المقابلة بين الهامش والمركز محل التقابل الوضعي بين الداخل والخارج. شريطة إعادة النظر في المعنى «المكاني» الذي كان يُعطى لمفهوم الهامش. فالهامش ليس هو ما يوجد «خارجاً»، وإنما هو النقطة التي تتخلخل عندها المركزية. الهامش بؤرة استراتيجية، وليس موقعا مكانيا. ذلك أن كل نص ينطوي على قوى عمل هي في الوقت ذاته قوى تفكيك للنص. وما يهم التفكيك هو الإقامة في البنية غير المتجانسة للنص، والوقوف على توترات (لا نقول تناقضات) داخلية يقرأ النص من خلالها نفسه ويفكك ذاته، في النص قوى متنافرة تأتي لتقويضه يكون على استراتيجية التفكيك أن تعمل على إبرازها. فكأن المفكِّك ليس هو عين القارئ الخارجية التي تمتلك مفاتيح فك ألغاز النصوص، وردها إلى محدداتها، والتمكن من أسرارها. فليس النص مفعولا لذات تمتلك القدرة على «التأليف» والتوليف والفهم والتأويل. ذلك أنّ النصّ، كما يدل على ذلك اشتقاق اللفظ الفرنسي texte، نسيج عنكبوتي، وهو لا يكون نصّا إلا إذا أخفى عن النظرة الأولى «قانون تركيبه وقاعدة لعبته، وهو يظل لامدركا على الدوام»، غير أن هذا التحجّب لا يعود لنقص في قدرات قارئ، ولا لـ «تعقد» لغوي، وإنما هو محاكي للنص بما هو كذلك. من هذا المنظور تتساوى كل النصوص. فليست هناك نصوص صعبة عسيرة الفهم، وأخرى في المتناول، وليست هناك نصوص أكثر «يسارية» من غيرها. بل إن دريدا يذهب عكس ذلك تماما. فهو يحاول أن «يخلق» الصعوبة حتى في النصوص التي تبدو «في المتناول»، كما أنه يسعى إلى الكشف عن اليمين في كل نص «يساري»، هذا إذا سلمنا بمعنى لهذا الثنائي في فكره. وعلى أية حال فإن «ضحاياه» الكبار لم يكونوا من «اليمين» الفلسفي والأدبي التقليديين، وهو لم «يفكك» نصوص برانش?يك أو آرون، وإنما آرطو ويابيس ولاكان وباتاي ولي?ي-ستروس ولي?يناس، بل وفوكو. وربما كانت التفرقة ذاتها بين يمين ويسار غير ذات شأن كبير في إطار فكر دريدا. فالتفكيك لا يكاد يفاضل بين النصوص. وعلى أيّة حال فلا يتعلق الأمر مطلقا بتفكيك نصوص «يمينية» من موقع يساري، أو نصوص «رجعية» من موقع تقدمي، أو نصوص تقليدية من موقع حداثي، أو نصوص علمية من موقع فنيّ، أو نصوص إيديولوجية من موقع فلسفي. إن استراتيجية التفكيك لا تتبنى التصنيف التقليدي للأجناس، وهي لا تفاضل بين النصوص. بل إنها تنصبّ على ذاتها. وهذه صفة من الصفات التي تقرّب دريدا من هايدجر، وتجعل «التفكيك» يضاهي «التقويض» الهايدجري. فكلاهما لا يرحم حتى نفسه. يتساءل هايدجر في كتابه عن كانط: «ألا يتستر مجهودنا نحن كذلك وراء أشياء لا ندركها». نحن في سياق فكري يتسم أساسا بافتراض خداع ملازم، وسوء تفاهم أصلي، يجعل الفكر فاقدا الثقة حتى بنفسه. من هذا المنظور يمكن اعتبار التفكيك سليل «فلسفات التوجس» التي طبعت القرن السابق، والتي تضم، حسب ريكور، كلا من ماركس ونيتشه وفرويد. ال ثنائيات لعل هذه إحدى النقاط الهامة التي تفصل التفكيك عن النقد المتداول. فبينما يتوهم الناقد أنه منزه عما يقع فيه الآخرون من «أخطاء» وما ينخدعون به من أوهام، بينما يدّعي «الناقد» أنه يرى في النص ما لم يره حتى صاحبه و«مؤلفه»، بينما يُنَصِّبُ الناقد نفسه عادة قاضيا يتكلم باسم الحقيقة، ويضع نفسه جهة الصّواب والحق، بينما يعتقد الناقد أنه صرّاف ماهر يتقن التمييز بين النقود، بينما يترعرع النقد داخل ميتافيزيقا اليمين واليسار، فإن التفكيك يعتبر أن الحدّ بين ما للميتافيزيقا وما ليس لها، يمرّ عبر كل النصوص، فالأمر يتعلق باستراتيجية شاملة تتجنب الوقوع في فخ الثنائيات الميتافيزيقية وتقيم «داخل» الأفق المغلق لتلك الثنائيات عاملة على خلخلته. وعلى ذكر الثنائيات، ماذا ينبغي أن نفهم من تفكيك الثنائي الميتافيزيقي عند دريدا؟ فهل يتعلق الأمر بإدماج الطرفين؟ أم إعلاء أحدهما على حساب الآخر؟ أم إلغائهما معا؟ يجيبنا دريدا بأن الأمر لا يعني لا هذا ولا ذاك. إنه يرمي بالأوْلى إلى تحرير السلب من هيمنة الكل وعدم توقيفه بفعل أي تركيب، أو سجنه داخل منطق التعارض. يتم ذلك بإعادة تحديد، بل وإعادة كتابة الاختلاف على نحو لم يُسبق إليه، وجعل المباينة différance إرجاءً يأخذ بعين الاعتبار الزمان والقُُوى في عملية تقتضي حسابا اقتصاديا ولفا ودورانا وتأخرا، ولا تطابقا «يقتضي مسافة وبونا وابتعادا». المباينة إذن هي حركة توليد الفوارق. إنها ما يجعل حركة الدلالة غير ممكنة اللهم إلا إذا كان كل عنصر «حاضر» متعلقا بشيء آخر غيره، محتفظا بأثر العنصر السابق، فاتحا صدره لأثر علاقته بالعنصر الآتي. وعلى رغم ذلك فلا نستطيع أن نقول إن المباينة مبدأ وأساس. إنها ليست هي الأصل الميتافيزيقي. فتفكيك الحضور يطال مفهوم الأصل ذاته، إنه يعيد النظر في مفهوم الزمان الميتافيزيقي، ويقحم العود الأبدي «داخل» الكائن. إذا فهمنا الاختلاف على هذا النحو نكون قد أقحمنا الثنائية داخل كل حد، ولن يعود السلب، كما كان عند أصحاب النقد، حتى الجدليّ منه، لن يعود هو هذا الذي يجيء من خارج ليتعارض مع الذات، وإنما ذاك الذي ينخرها من «الداخل» (إن صح الكلام عن داخل). السلب هنا هو الحركة اللامتناهية التي تبعد، ليس طرفي الثنائي، وإنما تبعد الذات عن نفسها، تبعد الهوية عن نفسها. فكل مساواة، والحالة هذه، كل هوية، تنطوي على حركة «داخلية» لامتناهية تبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته وتقرّب بينهما بفعل ذلك التباعد نفسه. المباينة شرخ يقيم «داخل» الهوية. والتفكيك بالضبط هو إثبات هذا الابتعاد الذي يقرب فيما بين الطرفين اللذين يشكلان الثنائي الميتافيزيقي. هذا ما قام به نيتشه، على سبيل المثال، فيما يتعلق بالثنائيات: باطن/ظاهر، حقيقة/خطأ، عمق/سطح... فأرسى بذلك مفاهيم جديدة كل الجدة عن الظاهر والحقيقة والأعماق والسطوح. إلا أنه أرسى أيضا مفهوما جديدا عن الجدل وعن السلب وعمله. هذا المفهوم عن السلب هو الذي من شأنه أن يجعل التفكيك في نظر دريدا الطريق الأضمن إلى «بناء» الهوية. أقول «بناء»، لأن التفكيك ليس هدما، ولأن التفكيكية ليست مطلقا فلسفة عدمية. وربما كان العكس هو الصحيح. فدريدا ينطلق من افتراض أننا نعيش على فيض من الحقائق، فيض ما ينفك يتوالد. فما دمنا نتكلم اللغة، ونستخدم المفهومات، ونخلق الوحدات، ونركن إلى التقليد، ونطمئن إلى التشابهات، ونحنّ إلى التطابق والوحدة، فإننا لا بد أن نعيش على الحقائق. إلا أن الأمر لا يتعلق بتقويض تلك الحقائق باسم حقيقة ما، باسم حقيقة مضادة، باسم«الحقيقة». وهذا بالضبط ما يطبع النقد المتداول، إذ إنه يتم دوما من موقع حقيقة ما، هذا إن لم يتم من موقع «الحقيقة». أما التفكيك فهو لا يدّعي تكذيب موقف باسم آخر، وهو لا يتجاوز الميتافيزيقا بمهاجمتها و«محاكمتها»، وإنما يسعى إلى أن يبين أنها لم تتوفر قط على ما تدعيه من اكتفاء ويقين. ليس التفكيك ادعاء لامتلاك حقيقة، وإنما هو فضح لامتلاء مزعوم، فضح لادّعاء، فضح لوهم ادّعاء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©