الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل انتصر داريوش شايغان؟

هل انتصر داريوش شايغان؟
15 ابريل 2015 21:59
عندما شاهدت فرحة الإيرانيين والإيرانيات في شوارع طهران كرد فعل عفوي على الاتفاق النووي بل وكانفجار شعبي عارم أحسست وكأن داريوش شايغان قد انتصر في نهاية المطاف على الأصولية الإخوانية في نسختها الشيعية الإيرانية. ربما كنت أبالغ قليلا ولكن هذا هو احساسي الأولي. ومعلوم أنه أشهر مفكر ايراني في الوقت الحاضر. وكان قد نفى نفسه طوعا احتجاجا على وصول الخميني الى السلطة عام 1979. ولم يعد الى مسقط رأسه في زيارة خاصة الا بعد أحد عشر عاما. كانت هذه هي طريقته في الرد على الثورة الخمينية الكهنوتية. لا يؤمن شايغان بثورة دينية ترجع بنا الى الخلف وانما بثورة تنويرية تقذف بنا الى الأمام. انه يعمل من أجل اسلام عقلاني مختلف عن الإسلام المذهبي القديم الراسخ الجذور. ولذا فلم يضع وقته في باريس عبثا. فقد استغل حياة المنفى وحريات باريس لكي يؤلف بعضا من أفضل الكتب التي ألفها مثقف مسلم في هذا العصر. ولو أنه عاد الى طهران في تلك الظروف الهيجانية الملتهبة لما استطاع أن يفتح فمه مجرد فتح. فالشارع كان محتلاً كلياً من قبل الهتافات الثورية والشعارات الديماغوجية المعادية ليس فقط للغرب السياسي وانما أيضا للغرب الفكري والثقافي والحضاري. وهي شعارات مهترئة عانينا منها نحن في العالم العربي زمنا طويلا وأخرت نهضتنا الكبرى واقلاعنا الحضاري عشرات السنوات. بل ولا نزال نعاني منها حتى اللحظة. فالنظام القديم للفكر في العالم العربي - أقصد النظام المؤدلج العقيم - لا يزال سائدا وان كان قد فقد مصداقيته الى حد كبير. ثورة معاكسة من بين الكتب التي ألفها داريوش شايغان في تلك الفترة نذكر أولا كتابه الشهير: «ما معنى ثورة دينية»؟ هل هناك شيء اسمه ثورة دينية؟ ألا يوجد هنا تناقض في المصطلح؟ فالثورة تكون عادة انقلابا على التقاليد الدينية والطائفية العتيقة لا عودة اليها. هذا ما علمتنا اياه الثورة الفرنسية مثلا. فقد أطاحت بالأصولية الكاثوليكية البابوية وركعتها. وبالتالي فثورة الخميني ليست ثورة في الواقع وانما انتكاسة الى الخلف. أو قل انها كانت عملاقة سياسيا وقزمة فكريا. لماذا؟ لأنه لم يرافقها أي تجديد فكري أو تنوير عقلي للتراث الاسلامي في نسخته الشيعية. وهذا على عكس الثورة الفرنسية التي سبقها ورافقها تنوير هائل للفكر المسيحي في نسخته الكاثوليكية. هنا تكمن المشكلة الأساسية للثورة الإيرانية وللانتفاضات العربية ككل. لا ريب في أن عدائية الشاه الفجة تجاه تراث شعبه وكذلك طغيانه ومخابراته المرعبة ساعدت كثيرا على انتصار الثورة الدينية الإيرانية. في ذلك الوقت كان هناك تعطش كبير الى الهوية والالتحام بالجذور. ولولا ذلك لما نجح الخميني. ولكن الآن وبعد مرور سنوات طويلة على هذه الثورة فإن الشعب الإيراني يكاد يختنق. انه يطمح الآن الى ثورة معاكسة إاعادة التوازن: أي ثورة علمانية تنويرية تحريرية. لقد شبع من الأصولية والأصوليين. انه يريد العودة الى الغرب والحداثة والحرية. انه متعطش للانفتاح على العالم. وهنا يكمن مكر العقل في التاريخ كما يقول هيغل. بمعنى: لكي يقتنع الشعب الايراني بضرورة التنوير كان ينبغي أن يمر بالحكم الديني الثيوقراطي ويكتوي بحر ناره على مدار أربعين سنة متواصلة. ما أقوله هنا عن الثورة الإيرانية ينطبق أيضا وبشكل شبه حرفي على ما يدعى بثورات «الربيع العربي». بل وينطبق أيضا على تركيا المحكومة اخوانيا أيضا. كل العالم الاسلامي مدعو الى القيام بالثورة الحداثية يوما ما. فهي التي ستحل مشاكله وليس الانكفاء على الماضي. هذا ما نستشفه من مؤلفات داريوش شايغان المتتابعة. بالإضافة الى الكتاب السابق كان قد أصدر مجموعة كتب هامة نذكر من بينها: «النظرة المبتورة أو الشيزوفرينيا الثقافية: البلدان التراثية في مواجهة الحداثة». وفيه يقول لنا إن الأصولية الإيرانية المعاصرة وبقية الأصوليات تقدم نفسها كبديل عن النموذج الغربي. انها ترفض فكرة الحداثة وتحارب الغرب بكل ضراوة من جهة. ولكنها من جهة أخرى تبدو مسحورة بهذا الغرب الذي تمقته وتحاربه. من هنا الانفصام السيكولوجي (الشيزوفرينيا) الذي أصيبت به النخب الاسلامية الإيرانية والعربية والتركية الخ... فهي مسحورة بالمختراعات التكنولوجية للغرب ولا تتردد عن أخذها وتبنيها واستخدامها بكل براعة. ولكنها ترفض الأفكار التجديدية والفلسفات العقلانية التي أدت اليها. هذه المعضلة المحيرة لايزال التيار الاسلامي يتخبط فيها حتى الآن. ولكن «النور سيأتي من الغرب» كما قال شايغان في كتاب آخر شهير. وهذه المرة لن نأخذ منه قشوره فقط وانما جوهره العميق. الطريق الى الحرية على الرغم من كل الاعتراضات والمزايدات فإن الحضارة الغربية كما يقول داريوش شايغان أصبحت جزءا لا يتجزأ من الحضارة الكونية. لقد انتشرت في شتى بقاع الأرض ولم تعد محصورة بالنطاق الغربي الأوروبي-الاميركي. وبالتالي فرفض الأنوار من قبل المسلمين لن يؤدي في نهاية المطاف الا الى السقوط في أحضان الظلاميات الدينية كما حصل للشعب الايراني عام 1979 وكما هو حاصل لبقية الشعوب العربية والاسلامية. وهو يقصد بالنور هنا أنوار القرن الثامن عشر. فهذا القرن يمثل في رأيه منعطفا حاسما وعلامة فارقة في تاريخ البشرية. فلأول مرة يستشعر الانسان بحريته وحقوقه وانسانيته وكرامته. لأول مرة يصبح تواقا للانعتاق من وصاية مزدوجة تضغط عليه بحسب مقولة كانط فيلسوف التنوير الاكبر: وصاية السلطة بكل عظمتها وجبروتها، ووصاية رجال الدين بكل الهيبة القدسية التي يخلعونها على أنفسهم. وبالتالي فلكي تتفتح طاقات الانسان، لكي يزدهر ويحقق المعجزات على هذه الأرض، فإنه ينبغي أن يعيش في مجتمع مدني علماني لا مجتمع تقليدي أصولي يكبل الطاقات ويخنق الحريات. بل- ويا للمفارقة!- فلكي يزدهر دينيا وروحانيا ينبغي أن يعيش في مجتمع علماني حر لا مجتمع أصولي ارهابي خانق للحريات على طريقة الخميني أو سواه. ولذا فكل الشعوب أصبحت تواقة للعيش في ظل دولة القانون بحماية المؤسسات العقلانية الديمقراطية التي لا تحاسبك على دينك أو مذهبك أو مكان ولادتك. لقد انتهى عهد قراقوش: أي حكم التعسف والاعتباط. لهذا السبب يقول المفكر الايراني الشهير ما يلي: أعتقد أن الحداثة كانت بمثابة حركة ضخمة لتحرير الانسان من كوابيس الماضي المعتم المظلم. وهي الكوابيس التي حاول الخميني اعادتنا اليها مرة أخرى بعد أن كنا قد اعتقدنا أننا تجاوزناها الى غير رجعة. وهي ذات الكوابيس التي تحاول الحركات الاصولية العربية اعادتنا اليها ايضا. وبالتالي فالحل لن يكون في الانتقال من أصولية سنية الى أصولية شيعية أو العكس وانما في تفكيك كلتا الأصوليتين. متى سيفهم المثقفون العرب هذه الحقيقة؟ ومن أفضل من داريوش شايغان للقيام بذلك؟ ألا يجمع في شخصه بين كلا المذهبين الكبيرين للاسلام؟ أليست أمه سنية وأبوه شيعيا؟ أكاد أقول: لقد جمع المجد من طرفيه ووحد الاسلام كله في شخصه. ثم يردف داريوش شايغان قائلا: نلاحظ أن التدين التقليدي القسري الاكراهي يتسلط أكثر فأكثر على حياة الانسان في عالم الاسلام. انظر ملل الايرانيين من أداء الطقوس والشعائر الدينية بعد انتصار الثورة الخمينية وحكم رجال الدين. يقال إن نسبة الإلحاد ازدادت أضعافا مضاعفة في أوساط الشبيبة قياسا الى عهد الشاه. هذا في حين أنه لا وجود لهذا التسلط في المجتمعات الأوروبية المتقدمة التي تحررت من ضغط الأصولية المسيحية بشكل كامل. ولهذا السبب ينبغي الاعتراف بأنه اذا لم يحصل فصل بين الايمان الاعتقادي من جهة/والمعرفة العلمية الفلسفية من جهة أخرى، فإننا لن نتوصل أبدا الى مجتمع حر في الشرق: أي مجتمع متحرر من التراكمات التراثية العميقة. ثم يقول لنا شايغان: ينبغي أن تعلموا أن مغامرة الحداثة لها وجهان: الوجه الأول ايجابي جدا، والوجه الثاني قمعي، توسعي، استعماري. لماذا نقول إن الوجه الأول ايجابي جدا؟ لأنها حررت الانسان من استعباد وصايتين كما ذكرنا آنفا: الأولى هي وصاية رجال الدين، والثانية هي وصاية السلطة الاستبدادية. وكثيرا ما تكونان متلازمتين. فعلى مدار التاريخ كان رجال الدين هم الذين يخلعون المشروعية الالهية على السلطات والسلالات الحاكمة. وبالتالي فلولا المغامرة «الفاوستية» للغرب لما أصبح الانسان ذلك الكائن الحر الذي نعرفه. كنا بقينا رعايا خانعين لا مواطنين أحرارا: أقصد رعايا للدولة الكهنوتية القروسطية المسيحية، أو لمثيلتها الاسلامية. يوجد هنا اختراع للغرب لا يقدر بثمن. لقد أصبح الانسان ذاتا حرة لأول مرة في التاريخ بعد الثورات الانجليزية والأميركية والفرنسية. فهي التي جسدت المثل العليا لفلاسفة الأنوار: كالقضاء على الطائفية واحترام كرامة الانسان أيا يكن، وكالفصل بين السلطات السياسية والقضائية والتشريعية، وكبلورة مفهوم المواطنة العابر للطوائف والمذاهب، وكضمان حرية المعتقد والضمير لأي شخص كان، وكالمساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن أديانهم أو أعراقهم ومذاهبهم... الخ.. هذه هي المبادئ التنويرية التي شكلت الحداثة. نحن جميعاً غربيون في مناسبة ما طرح بعض الصحفيين الفرنسيين على داريوش شايغان هذا السؤال: في أحد كتبك تقول هذه العبارة: «نحن جميعا غربيون». ماذا تقصد بذلك؟ فأجابهم: ينبغي أن أعترف لكم أني في أعماق أعماقي أشعر بأني شرقي. ولكن في ذات الوقت أشعر بأني غربي من حيث التعلق بالروح الفلسفية النقدية واعتناقي للقيم الكونية التنويرية. أنا خريج الجامعات السويسرية والانجليزية والفرنسية. وبالتالي فأنا شرقي وغربي في آن معا. أستطيع أنا شخصيا أن أوقع على هذا الكلام بأصابعي العشرة كما يقال. ولا أعتقد أني الوحيد. ينبغي أن نعتبر ذلك غنى للشخصية العربية لا مشكلة درامية ولا خطرا على الهوية التاريخية. فثقافة الحداثة أصبحت جزءا لا يتجزأ منا، بل وتغلغلت الى أعماقنا دون أن نشعر تقريبا. أخيرا سأقول ما يلي بخصوص الاتفاق النووي مع ايران: بدلا من أن نتنفس الصعداء ونتفاءل بمستقبل المنطقة بعد انفتاح هذا الانسداد ماذا أجد؟ أجد أن الكثيرين من المثقفين العرب قلقين، خائفين، مذعورين! بل وأجد بعضهم يدعو للحرب المذهبية صراحة. هل فقدت الناس عقولها؟ أين نحن؟ هل يعقل أن يكون المثقفون العرب بمثل هذه السطحية؟ ألا يعلمون بأن انفتاح ايران على الغرب والعالم الخارجي ككل سوف يساعد على تفكك الأصولية الدينية واعطاء زخم قوي للتيارات الليبرالية والتحديثية المستنيرة؟ وهي موجودة بقوة في المجتمع الايراني. ولا تنتظر الا الفرصة السانحة لكي تتفتح وتزدهر وتأخذ كل أبعادها وتتغلب على الانغلاقيين المتحجرين. هل تريدون ايران خمينية أم ايران تنويرية؟ احترنا فيكم! ينبغي العلم بأن الموجة الأصولية ابتدأت من ايران وفي ايران سوف تُقبر وتموت. واذا ما قبرت في ايران فسوف تُقبر في تركيا والعالم العربي والاسلامي ككل. أنا كنت في باريس عندما اندلعت الثورة الخمينية العارمة. وكنت أرى الطلاب الايرانيين يصلون بالمئات أمام المدينة الجامعية. وكان منظرا مذهلا وربما مرعبا للفرنسيين.. وكنت أرى الحماسة المشتعلة اشتعالا وقد استملكت الجميع من ايرانيين وغير ايرانيين كالإخوان المسلمين العرب وسواهم.. ولكن ماذا تبقى من كل ذلك؟ تقريبا لا شيء. الموجة الأصولية تعبت، انحسرت، أو هي في طريق الانحسار والتلاشي. وهذه هي سنة الله في خلقه، هذا قانون تاريخي. وسوف تحل محلها عما قريب الموجة المعاكسة والمباركة: أي موجة الأنوار العربية والاسلامية. أعترف بأني أبالغ قليلا وأتهور، أعترف بأني آخذ أمانيّ كوقائع متحققة على الأرض. أعترف بأني أستبق الأحداث. ذلك أن الأمور ستكون أكثر تعقيدا وصعوبة مما أتصور. ولن يكون من السهل مصارعة التنين: تنين الماضي وظلاميات القرون.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©