الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هنا تنجز الأحلام

هنا تنجز الأحلام
15 ابريل 2015 21:55
لا يمكن فصل الفضاء الثقافي لأي مدينة عن جذرها التاريخي المتشعب، وعن تفاعلات الجغرافيا ومنظومة القيم الإنسانية المبثوثة فيها، وقد يوفّر هذا المدخل مفاتيح ذهبية لاكتشاف ومعاينة التجربة الثقافية والفنية والسينمائية المتطورة في مدينة مثل دبي، بحضورها الساطع وانشغالها المتواصل بالتميز ورهانها الأكيد على «الإبداع» كمنصة عبور وانتقال بين غواية الحلم وضرورة الفعل، وبين جاذبية الخيال وشروط الواقع، انطلاقاً من النظرة الاقتصادية الثاقبة والقارئة للمستقبل، التي أسس لها المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في الستينيات من القرن الماضي وارتكزت عليها أولى لبنات وملامح دبي المعاصرة، وصولاً إلى المنجز الملموس والطامح دوما لتخطي الحاضر والخوض في تحديات القادم والتي يتصدى لتفعيلها اليوم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وبثقة لا تعرف الخفوت، وعزم لا يعرف الفتور. من هنا أيضا وقياسا على هذه المنطلقات والانطباعات يمكن الاحتكام لجملة من الظواهر الثقافية الحية والتفاعلية في هذه المدينة الكوزموبوليتية المنشغلة من الآن بابتكار آليات وبرامج مبهرة لاستقبال عرسها العالمي الكبير في إكسبو دبي 2020 تحت شعار: «تواصل العقول وصنع المستقبل». شريان حياة تمتزج الرؤية الثقافية لهذه المدينة الديناميكية والنابضة، مع موقعها الفريد وسط دولة الإمارات، والمطل على ساحل الخليج العربي، وكأن ثمة استدعاء متواصل هنا لأرواح المدن المعانقة للبحر، ولنكهة أسواقها القديمة وموانئها الصاخبة قرب خور دبي، باعتباره شريان حياة متجددة ومفعمة بقصص وتجارب وذاكرات، إنه النداء الغامض ذاته الذي يستدعي أطياف زوارها الغرباء، بحضورهم اللافت، وسرعة اندماجهم وتآلفهم مع إيقاع المكان، هذا المكان الأشبه بموجة وادعة لا تثير قلق المقيم، أو خوف العابر، بقدر ما تحفزهما على تحريك الساكن، والذهاب بالمغامرة إلى أقاصيها الرحبة والمشرعة على التفاؤل والغنى المعرفي والإنساني. في ظلّ هذه الوتيرة الاقتصادية المتسارعة تم إنشاء هيئة دبي للثقافة والفنون في العام 2008 من أجل تعزيز مكانة دبي كمركز عالمي يساهم في تشكيل وتطوير المناخ الثقافي والتراثي في المنطقة والعالم في القرن الـ(21) والعمل على دعم النهضة الثقافية والتراثية وتفعيل أنشطتها ضمن بنية تحتية متكاملة، لا ترتكز على النمو الاقتصادي وحده، ولكن على العنصر البشري كمنارة للوعي والجمال والإبداع. استندت خطة إطلاق الهيئة أيضا على رؤية دبي الاستراتيجية الساعية إلى وضع الإمارة على الخارطة الثقافية والتراثية العالمية ودعم القطاع الثقافي الذي يمثل محورا أساسيا في مسيرة التنمية الشاملة التي تشهدها الإمارات ودبي باعتبارها واحدة من أكثر المدن العالمية تنوعا وجاذبية، خصوصا وأنها تستقطب على أرضها أكثر من (200) جنسية باتت تشكل جانبا مهما وملحوظا من الحياة الثقافية والفنية التي تزخر بها الإمارة، ولم تغفل هيئة دبي للثقافة والفنون عن تطوير وتنفيذ برامج ثقافية عالمية وإقليمية لدعم المواهب المحلية وإتاحة فرص واسعة أمامها للارتقاء والتطور وحماية التراث الوطني الإماراتي، والاحتفاء بالفنون الكلاسيكية والمعاصرة والترويج لها، ودعم قطاعات الفنون المسرحية والموسيقية والسينمائية والتشكيلية، كما تعمل الهيئة كذلك على تطوير المرافق الثقافية مثل مكتبة دبي العامة، ومتحف دبي، والمركز الإعلامي للهيئة بما تتضمنه من أرشيفات مقروءة ومرئية توثق لمراحل مهمة في مسيرة دبي الثقافية. السينما: تحولات واستعدادات تفرّدت دبي بتنظيمها لأول مهرجان سينمائي دولي في منطقة الخليج العربي في عام 2004، وأطلق المهرجان شعارا بات لصيقا ومتناغما مع برامج وفعاليات هذا الحدث السينمائي والثقافي الكبير، وهو شعار: «ملتقى الثقافات والإبداعات»، ملخصا بذلك الهدف العام من إقامته لتحويل الشاشات الضخمة وقاعات العروض، إلى ملمح أصيل يترجم هوية المدينة ذاتها، بكل ما تحمله من تنوع وحراك وميل للحداثة بتجلياتها القصوى عبر الصورة والتشكيلات البصرية وهاجس الثقافة التفاعلية، والتي تتعامل معها السينما اليوم كواحدة من أكثر الفنون ارتباطا بتحولات العصر، وباعتبارها أرشيفا بصريا حاضرا على الدوام لقراءة الماضي بعيون متطلعة للمستقبل ولأسئلته الثقافية والاجتماعية والإنسانية المحتدمة. عرف سكان دبي السينما كطقس فرجوي في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أنشأ رجل الأعمال الكويتي مرشد العصيمي أول دار عرض سينمائي وأطلق عليها: سينما «الوطن»، لتتشكل بذلك أول ملامح الترفيه البصري وسط بيئة عمرانية ناهضة تتطلب تمازجا بين المطلب التسويقي الاقتصادي، وبين المطلب الثقافي والانفتاح على هويات لها إرثها التاريخي ومرجعياتها العميقة. في فترة السبعينيات وما بعدها ظهرت دور عرض أخرى في دبي مثل سينما ستراند، وسينما النصر، وسينما بلازا وغيرها من الدور التي عرضت لجمهورها الواسع أفلاما خاطبت الجاليات المقيمة وتوافد عليها أيضا المواطنون في دبي والإمارات الأخرى، والذين امتلكوا حساسية ثقافية جديدة وعشقا للشاشة من خلال الأفلام الهندية بداية، ثم الأفلام العربية القادمة من لبنان ومصر بالتحديد والتي كان يوزعها على دور العرض شخص لبناني يدعى «الصابوني»، وتعرف الجمهور بعد ذلك على الأفلام الإيطالية قبل ظهور أفلام هوليوود في أواسط الثمانينيات وبعد تطور وتعدد هذه الدور، حيث باتت دبي اليوم تحتضن أكبر صالات للعرض السينمائي، وأكثرها تنوعا على مستوى العالم العربي والشرق الأوسط. تجارب وقصص ومنذ ظهور أول فيلم روائي طويل في الإمارات وفي دبي تحديدا على يد المخرج الإماراتي (علي العبدول) نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وهو فيلم «عابر سبيل»، وحتى آخر فيلم محلي شاهدناه في مهرجان دبي السينمائي الدولي المنعقدة دورته الحادية عشرة نهاية العام الماضي، ثمة مسافة زمنية طويلة، تبدلت خلالها الظروف الفنية والثقافة البصرية الموجهة نحو الصورة والإمكانات التي تختزنها على مستويات تعبيرية وجمالية فائضة ومتشعبة، وهي الثقافة التي عملت الفورة السينمائية المتمثلة في التجمعات والمهرجانات السينمائية الكبرى في دبي على تحريك مياهها الراكدة، وبعثها من سبات امتد لسنوات طويلة، ولعل التميز الذي رافق الأفلام الروائية القصيرة هنا، طغى على التجارب الطويلة، كما حصل مع مخرجين شباب من دبي، فلم تنل هذه الأخيرة حظها من التوهج والإطراء النقدي، نظرا لإشكالات كثيرة تتعلق بضعف النصوص وصعوبة التمويل وفقر الوعي الموضوعي والفني حول هذه النوعية المرهقة من الأفلام، ونتذكر هنا أفلاما لمخرجين ترعرعوا في دبي وامتلكوا هاجسا فنيا وتعبيريا خاصا تجاهها، مثل فيلم «حلم» و«فندق في المدينة» لهاني الشيباني، و«عقاب» و«رمال عربية» و«بني آدم» لمجيد عبدالرزاق، و«حنين» لمحمد الطريفي، وأعمال أخرى انحازت لتقليد أفلام الرعب الأميركية قدمها: «ماهر الخاجة»، مثل فيلم «الغرفة الخامسة»، وغيرها من الأفلام، والتي شكلت رغم حضورها الخافت حافزا لمخرجين آخرين كي يعملوا على مشاريعهم الفيلمية برؤية متجاوزة لما تم تحقيقه، استنادا للصدى النقدي والجماهيري الذي رافق تلك الأفلام، فبعد التجربة الخاطفة واليتيمة للمخرج علي العبدول مع فيلمه: «عابر سبيل» في العام 1989 والتجربة اليتيمة الأخرى للمخرج مسعود أمر الله في فيلمه الروائي القصير: «الرمرام» في العام 1994، استطاع مخرجون آخرون مثل نجوم الغانم وعلي مصطفي ونائلة الخاجة، وعمر إبراهيم وشقيقه كاتب السيناريو يوسف إبراهيم، أن ينقلوا جوانب مدهشة، وأخرى مهمشة ومنسية خلف الأبراج وناطحات السحاب ومراكز التسوق الحديثة المنتشرة في دبي، قدمت نجوم الغانم أفلاما تسجيلية نابضة بالحنين مثل: «بين ضفتين»، و«المريد» و«أمل» و«حمامة»، ومؤخرا فيلمها «سماء قريبة» المصاغ بتوليفات بصرية مرهفة ومتقنة في ذات الوقت، بينما قدم المخرج علي مصطفى فيلما روائيا طويلا بعنوان: «دار الحي» أو مدي نة الحياة كوصف لمكان يعجّ بمظاهر الحداثة، وبإيقاعها الصاخب، وهو مكان يخفي أيضا قصصا لشخصيات حائرة ومسكونة بجروحها الخفية والمتوارية بعيدا عن العنوان الظاهري للفيلم، ورأينا مؤخرا فيلمه الروائي الطويل الثاني: «من ألف إلى باء» باشتغال سردي أكثر تشعبا مقارنة بفيلمه الأول، وبحضور جماهيري أقل على مستوى الصالات التجارية، وقدمت المخرجة نائلة الخاجة أفلاما روائية قصيرة مثل : «عربانة» و«ملل» و«الجارة» تناولت فيها الاغتراب الذاتي وسط التبدلات الكبيرة التي لا تفتح مجالا للتفاصيل الأنثوية الصغيرة كي تعبر عن هواجسها المكبوتة وأحلامها الذائبة في الصمت والنسيان، بينما قدم الأخوان يوسف وعمر إبراهيم حكايات بصرية شفافة ومرصودة لعين الطفولة وهي تلاحق أصداءها وظلالها البعيدة، وتطارد الشواهد المتبخرة بين حواري وفرجان وبيوت دبي القديمة. مهرجانات وإنجازات تحّول مهرجان دبي السينمائي الذي يترأسه فخريا الشيخ أحمد بن سعيد آل مكتوم ويديره كل من عبدالحميد جمعة كرئيس للمهرجان، ومسعود أمر الله كمدير فني وبعد سنوات قليلة من انطلاقته وبدعم من هيئة دبي للثقافة، إلى قاعدة قوية لتحفيز وتشجيع المواهب المحلية، حيث شهد في عام 2006 إطلاق جوائز المهر للإبداع السينمائي العربي، التي تهدف إلى تكريم السينمائيين العرب على الصعيدين الإقليمي والدولي. وفي العام 2008 تم توسيع نطاق المسابقة لتشمل مسابقة المهر العربي، ومسابقة المهر الآسيوي ــ الإفريقي. وفي 2010، تم تخصيص مساحة خاصة من المهرجان للسينما الإماراتية، وذلك بإطلاق مسابقة المهر الإماراتي لتكريم المخرجين الإماراتيين في فئات الأفلام الروائية الطويلة والوثائقية والقصيرة. ومن المبادرات التي شهدها المهرجان عام 2006 إطلاق «مكتب السينمائيين»، الذي تأسس بهدف تقديم الدعم والمساعدة لجميع الأعضاء المسجلين. كما شهدت النسخة الرابعة من المهرجان عام 2007 إطلاق «ملتقى دبي السينمائي»، وهو بمثابة سوق للإنتاج السينمائي تهدف إلى تعزيز نمو صناعة السينما في العالم العربي. وفي 2008، تم إطلاق «سوق دبي السينمائي»، وهو أول سوق من نوعه في المنطقة، يوفّر منصة حديثة لتبادل المواد السمعية والبصرية وذلك من خلال بوابة السوق الرقمية، وأصبح مهرجان دبي السينمائي الدولي منذ تأسيسه وجهة مهمة لصنّاع السينما في المنطقة وحول العالم، من خلال تنظيم فعاليات وورش عمل وندوات وجلسات حوارية ودعم المشاريع السينمائية العربية والخليجية والمحلية من خلال برنامج «إنجاز» وبرنامج: «من السيناريو إلى الشاشة»، بالإضافة إلى تشجيع كتّاب السينما وصناع الأفلام الشباب في المنطقة من خلال تنظيم مهرجان الخليج السينمائي الذي يتطلع السينمائيون الخليجيون بشغف إلى إعادة إحيائه بعد توقف دام سنتين. لقد بات مهرجان دبي السينمائي اليوم أكثر قربا وإخلاصا للسينما الفنية المستقلة وأكثر انحيازا للنتاجات المحلية والعربية، ومن خلال مقارنة إحصائية بسيطة يمكن أن نرى مدى التطور الكمي والنوعي في حجم وطبيعة الأفلام التي قدمها المهرجان، حيث شهدت الدورة الأولى مشاركة 74 فيلما فقط، بينما شارك ما يقارب الـ180 فيلما في دورته العاشرة، وتم اختيار هذه الأفلام من بين 3700 فيلم تقدم للمشاركة، كما أن الدورة الأولى شهدت مشاركة فيلم واحد فقط في عرضه العالمي الأول، بينما قدمت الدورة العاشرة 70 فيلما في عرضها العالمي الأول، ولم يتجاوز عدد الجمهور في الدورة الأولى 7000 متفرّج، بينما وصل عددهم في الدورة التاسعة إلى 55 ألف متفرّج. إن هذه المقارنات الرقمية الأولية، تمنح النقاد والمتابعين دلالات ومؤشرات مهمة حول رغبة المهرجان في الانفتاح على السينما المغايرة، وترسيخ مكانته الفنية والثقافية، وخلق هذه الجاذبية أو الأرضية المشتركة من الثقة والتواصل بين المهرجان وجمهوره وبين المخرجين الذين باتوا ينظرون إليه كمنصة ووجهة مفضلة، ويرغبون في تدشين عروض أفلامهم الجديدة على شاشات دبي السينمائي لما تشهده من إقبال رسمي وشعبي واسع ومتعدد الأطياف والأذواق والانشغالات النخبوية والجماهيرية على السواء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©