السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه ويستن هيو أودن: بريد جهنّم

وجه ويستن هيو أودن: بريد جهنّم
15 ابريل 2015 21:45
من حفر أخاديد وجهك المتغضن يا أودن؟ آلة الزمن اللئيمة. أم ميازيب شتاء الألم؟ يبدو وجه أودن كما ضلع شجرة مهترئة، عرّى ألف خريف لحاءها وكشف عن بطنها التي عاثت فيها الأرضات فسادا. روائح المستشفيات العطنة تندلع من خميرة هذا الوجه المنقوع بالكحول، هل هو مستشفى أبيه الطبيب، الذي استأثر بخياله الشعري في يفوعة كتاباته الأولى؟ ربما يتواءم أكثر مع أرض إفريقية تعاني أفدح أشكال القحط والجفاف. هل هي كولخوزات الطور البلشفي من حياته عندما كان ماركسيا مضطربا، تتأرجح كينونته الهشة بين حتمية الاشتراكية الموهومة وبين هذيانات الفرويدية الغائرة؟؟؟ ليس هناك ما يترجم كتاب الأخاديد في وجهه الفاحش، ترجمانا خالصا أبدع وأصدق من ولعه بجيولوجيا منطقة «ميدلاند»، الشهيرة بحقول المعادن وأصناف الأحجار وأشكال الصخور، رصاصية وكلسية وبركانية وكرانيتية وبازلتية... الخ هذا الولع الذي استضافه في قصائده، وفخّخ به مناجم صوره واستعاراته ومجازه، هو ما انعكس بشكل سحري على وجهه فيما بعد، وكأن قشرة ما، زُحزحتْ عن جيولوجية وجهه وكشفت عن معادن طبقات مخدوشة ومخرومة ومنقوشة ككتابة أسطورية غامضة، تشبه مخطوطا عن زمن منسي ومجهول، كما تشبه خريطة مبهمة... خريطة وجه أودن المبهمة هذه، هل تضمر الدليل إلى كنز بريطاني مفقود؟ أم تضمر علامات الطريق إلى مدينة مطمورة كمدينة أطلنطا مثلا؟ ربما تضمر أكثر، رموز الطريق إلى الفردوس، لكن عبر مائة جحيم. كيف يكون وجه مرعب كهذا لمتصوّف؟؟؟ إنها المفارقة العجيبة لأودن الضالع في التناقضات المدوية. من أقصى جماليات الماركسية (عفوا متى كان للماركسية جماليات؟) تحوّل إلى أقصى جماليات الأرثودوكسية المسيحية... من يصدقك يا أودن، فوجهك وجه سفاح، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون لراهب أو قسيس، لمؤمن يدمن الصلاة... أي نعم قد يصلح وجهك لكاهن، ليس كهنوت الدين طبعا، بل كهنوت الشوارع الخلفية لحياة المدن المفزعة، المدن الطاعنة في صخب الجريمة... هكذا يبدو وجه أودن عرّابا كما لو تفتقده منظومة أفلام مارتان سكورسيز أو فورد دي كوبولا (خاصة في العراب)، لأنه الوجه الأمثل لزعامة المافيات (إيطالية كانت أو روسية)، ولا يقتصر وجهه على الاضطلاع بقيمة علامة زعيم مافيا (مخدرات أو سلاح)، بل أيضا يكتنز شبهة مهندس لعمليات الاغتيالات السياسية. لا يمكن لوجه باذخ التجاعيد، ثري الخطوط، فاحش الخروم كوجه أودن إلا أن يكون الصفحة الأشد هولا في كتاب عصره، الصفحة المأهولة بويلات الحرب وكوارث الحماقة الانسانية: في صفحة وجهه مثلا، يمكن العثور على ذهب الفزع الذي رجع به من معسكرات الحرب اليابانية/ الصينية. الفزع من بشاعة الانسان والتاريخ معا. هكذا يصعب على مؤرخ السلطة أن يجتث صفحة وجهه من مجلد الحماقات التي تدين البشرية والمعنى. شيء مريب يزدهر به وجه أودن، غير ثرائه بالتناقضات والمفارقات، هو احتكام غرابته العنيفة إلى ازدواجية ليست متناغمة بالمرة، ازدواجية متناحرة، هي ازدواجية كونه انجليزيا أولا، ثم أميركيا ثانيا، وبين ضباب إنجليزيته وجليد أميركيته، يهدر نهر شيطاني، لا سبيل إلى النجاة أبدا، للسابح فيه أو حتى عابر مياهه الجارفة، إذ لا جسور تستقيم على متنه. ينتمي وجه أودن إلى صنف وجوه الشعراء الذين كتبوا بوفرة، واستقصوا فيما أنجزوه من شعر، عن مكان القصيدة المستحيلة التي حلموا بالظفر بها وابتكارها، دون أن يصلوا إليها وإن تاخموها بشكل من الأشكال... المفارقة الساخرة أن تلك القصيدة المستحيلة لم تكن تستحق عناء الترحال بعيدا في الخرائط، لأنها لم تكن تسكن في الماوراء كما توهموا... إنها تقيم في وجوههم لا غير... كيف فاتهم ذلك عندما كانوا يتأملون وجوههم في مرايا الصباح؟؟؟ ربما لم يكتشفوا الأمر الصادم إلا في لحظة البرق التي سبقت موتهم لم يكن على « أدون » أن يهدر رصيد عمره في كتابة الشعر، لأن وجهه يعوض الأمر بمجمله، كقصيدة جامعة توجز أنطولوجيا كتابته... أن يكون وجه « أودن » قصيدة وحشية، تنحاز لشعرية القبح، لا يعني بالضرورة أن « أدون » يمتلك وجه شاعر... فأودن يعزز بوجهه المرعب قائمة الكتاب الذين يمتلكون ملامح الجريمة والقتل والاغتصاب. بالرجوع إلى خطوط وجه « أودن » أو أخاديده، يهاجسنا يقين، بأنها ليست ناجمة عن شيخوخته هنا، إنها كتابة تؤرخ ما يعتمل في بركان دواخله وما يمور ويموج في أغواره القاتمة. خطوط غامضة تحتاج إلى مفكك رموز سومري لكي يقرأ لوحها... ما عساه يكون هذا اللوح إلا شيفرة من شيفرات حكاية الوجود المنسية. إنها خطوط جديرة بأن تنسخ على حيطان غرف نوم الرسامين، وليس محترفاتهم، فبخيوط هذا الوجه يمكن أن يتقصوا حدود الكوابيس ويعيدوا خلق أكوان سريالية في أحلامهم، ليكون لها صدى داخل لوحاتهم لحظة الرسم في اليقظة... من فرط تغضنات وجه « أودن » وإسراف النتوءات في كيميائه، صار العنوان الأوفى والأمثل لكل تجربة انسانية طاعنة في الألم. وجه مأساوي يرهبه الأطفال، ويتخيلونه كما لو صُنع من كرة يقطين... هذا الوجه المترف بالتغولات، ما أن نتأمله حتى يحول بيننا وبين التمعن في غرائبية كيميائه، اندلاع أصداء مفزعة من صخرته المعدنية الصدئة، إنها أصداء نداءات مذعورة تأتي من هاوية شطون، كأنها أصوات لكائنات تقطن الجحيم، تلتقطها رتيلاء وجهه وتعيد إنتاجها من جديد في ارتدادات وذبذبات... إنها العلامة المأساوية التي تجعل من هذا الوجه الفادح شبيها ببريد جهنم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©