الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صلاة خضراء في البحر

صلاة خضراء في البحر
15 ابريل 2015 22:07
هناك.. حيث الأخضر الحالم يحضنه الماء، جاذبية صمت وتأمل لا تقاوم، شعور يشبه دهشة طفل مشرّد يدخل فجأة في اكتشاف مكان ساحر بعد أن ركض طويلاً بعيداً جداً عن الخوف. إنك بين أحضان غابات القرم طفل حائر مشرد، أو طير جريح جائع، تستغيث بالعزلة والاختفاء عن وجه الأرض، الرحيل هو أن نموت مؤقتاً، لا يحدث ذلك إلا بمتابعة خط الماء، وتيار البحر العريض الذي تكبر فيه القوارب البعيدة، أو قوارب تقربنا من غابات لصيقة بالسماء. أترغب بالاختفاء حقاً ولو لساعة عن الحياة؟ جرّب التوغل داخل ممرات القرم ودهاليزه السرية ذات الطين المرتبك، إنها ترفعك نحو تأرجح سماء كنت داخلها أصلاً في حكمة الشجرة، ترفعك النفخة العلوية هناك عن التراب الأرضي، وتتذكر بأنك بدأت في الطين والمادة إلا أنك تصعد الآن في رحلة علوية، لتغدو ساقاً، أو أغصاناً أو أزهاراً وثماراً، تعلو بروحك فوق البحر الغامض، تفارق المجهول الذي انبثقت منه، إلى عمق مجهول أكبر. شجرة تنبت في جوف ماء البحر، والبحر عدو كل شيء من الشجر إلا القرم، لأن القرم يشبه فطرتك المتمردة، يشبهك في التشرد وتحدي ملوحة الحياة والرغبة الجامحة في سرد الأسئلة، القرم سؤال كبير يقذف نفسه على رأس الموج الهادر ويتمدد، مانعاً بذلك تآكل الشواطئ، شواطئ الروح الباحثة عن الأمان في الأجوبة، لكن لا جواب يأتي مع البحر، واصل السؤال أيها الصاعد في عمق المجهول الحالم ولا تكترث بممرات التيه، تحت أنفاس أوراق القرم والنداءات الخفيفة لطيور الفلامنجو وصدى اللقالق وأغاني الطيور المهاجرة، ستجد ملاذاً تخبئ فيه روحك، وتعيد اغتسالها من جديد، عزلة مطمئنة مع الله، تقيك من جحيم أطماع الآخرين. غابات القرم المعرّشة بأيكاتها النائمة في وداعة السلام، حيث امتداد رائحة الخليج وملوحته الهائلة، وصفاء وصمت ينفتح على جاذبية إلهية لا يمكنك مقاومتها، ثمة سحر روحاني يمشي في ذروة تلك الصلاة الخضراء في الماء، ثمة حنين جارف، نوستالوجيا غريبة تعتّق ثغور قميص الهواء الفضفاض على الأرض كلما هب طير من طيور الفلامنجو محلقاً بجسده العجائبي الأبيض وساقيه الحمراوتين فوق حقول القرم الواسعة، انعكاسه المهيب على صفحة الماء يهبه تمدداً وانسحاباً أكبر في المرآة الوجودية، فتخال أنه ربما كان في الأصل إنساناً حاول في زمن ما أن يجرب لذة الطيران، ارتفع وحلم بالأعالي أكثر، لكنه لم يلبث أن سقط في الماء وتلقفته تويجات القرم، أدمغته في جذيرها الجنيني، زودته أكسجين نبات الأم، رفعته التويجات مجدداً إليها، حولته إلى طير من سلالة السلام والحلم والمحبة، تتأسى به وقت انحسار الماء في الجزر وحين يشحب الخليج ويزفر برائحة الطحالب والأسماك الميتة. الفلامنجو المنعكس على الماء، يبدو في الحقيقة إنساناً حين يطير، نافضاً عنه كل المساحات الطينية الواسعة. وفي هدأة المد المنحسر، وانحسار مد إحساسك الأرضي، تخرج بحذر بليغ من حفرها الصغيرة كل السرطانات الصغيرة والقواقع، لقد ظنتك من فرط سكونك الغزير أنك تحولت إلى شتلة صغيرة من القرم على الشاطئ، لذا ستحتفل جماعات السرطانات من جديد، وتشهد أنت دبيبها الحر وقرقعتها على الرمل، لكن ما إن تحرك غصناً ضئيلاً فيك حتى تصاب بالذعر وتدس نفسها على عجلة في الحفر الضيقة. البشريّ حين أتى حين أتى ذلك الكائن الجديد على الخليقة، المسمى بالبشري، لا أقصدك أنت أيها الإنسان القديم المشرد العاشق للغابات البعيدة، الباحث عن أصل وجودك في الهواء والطين والماء، بل ذلك البشري الحديث الذي رفع الطابوق ومد الإسمنت على صدر الماء، وزرع الأرض بناقلات النفط والغاز والمراكب الحديدية، ذلك الذي أراد أن يوفر فرصاً لعمله المادي في الحياة، وأن يمرر فكرة لمشروعه التنموي العمراني الذي يكفل له قوت يومه ومأوى لجسده، لكنه دون تدبير حذر وحكمة عميقة جفف الماء، دمر القيعان البحرية الفيروزية المكسوة بالعشب والتركيبات الغذائية في الصخور التي سهرت الأمواج عقوداً طويلة من الزمان على تلقيحها بالحياة الفطرية. ذلك الإنسان الذي فرح برزق النفط وارتفع زهوه وفرحه الجنوني بقدراته ومهاراته، عمّر أكثر، بنى برجاً أكبر، ردم، جفف، وعلى غفلة قتل طيراً مهاجراً كان يواسي أيكة قرم جرداء. لست أنت أيها الغائب في غصن روحك الأخضر، إنه ذلك الآخر الذي أهدر النفط ونقله على البحر الغاضب معانداً تلك الأمواج الثائرة، فتحطمت أغلب ناقلاته على السواحل، قتل النبات والطير والأسماك، خنق جذور وبراعم نباتات أيكات القرم، سمم الهواء، وتدريجياً انحسرت الأيكات الخضراء عن الشاطئ، صديقة البحر والكائنات المتعبة والأرواح الحزينة اللائذة بالطبيعة الوديعة. المطر شحيح، ودمعة غابات القرم تكبر في ملوحة البحر، الشارع الذي تمدد بالإسفلت في المرتفعات، أكل أسوار الجبل وشعابه، قطع الطريق أمام فرح المطر الذي كان يجري من على السفوح ليروي عطش غابات القرم، تغيرت الملامح الطبيعية للأودية، فما عادت تصل المياه العذبة إلى الساحل، الملح والتلوث يتمدد، ولا مداد من غيمة الماء العذب، البادرات تعجز مع الزمن عن اختراق التربة لتثبيت نفسها ومواصلة الحياة بتحدٍ وإصرار، العمران يخنق حركة المد والجزر، ثغور أوراق القرم تتنفس بصعوبة عبر المخلفات والقمامات البلاستيكية، تلك الحاويات الناتجة عن نشاطات الإنسان السياحية تلتف حول جذور النبات وتسقط على رئة الأوراق والماء، فتنحسر صحة هذا الكنز الطبيعي، ويتعرض وجوده للانمحاء والانقراض. ووجوه الغرباء المتشبعة بالمد الأخضر في أوطانهم بدأت تتكاثف على غابات القرم، يتعجب بعضها ويتساءل عن مدى استفحال هذا الإهمال؟!! زواج قديم للطبيعة إن لأشجار القرم قرية باركها الله ونشأت على الوجود في حقبة الكريستشيس من الزمن الجيولوجي الميزوزورك، قرية القرم عتيقة الخلق على الأرض، يعود عمرها ما يقارب 65 مليون سنة، توشك الآن على الانمحاء من الوجود، هكذا ينظر الغرب إلى كنزنا الطبيعي المهمل، إنها نظرة تاريخ ووجود رمزي وزواج قديم تنفس البحر به، (الشجرة رمز ومكون وجودي في كثير من مجالي الكون)، هكذا ينظر ابن عربي للمكانة العالية لكل أشجار الأرض، نظرة تحبك موجودات هذا العالم المتباينة كأغصان الشجرة الواحدة، الشجرة دالة على وحدة الخلق الإلهي عند ابن عربي، فكيف الحال إذا كان عرش تلك الشجرة على الماء؟! لاشك أنها شجرة مقدّسة، ربما قد مرّت بعض الشعوب المهاجرة من هنا قبل ملايين السنين، اتخذت من عرش القرم المشيد بقداسة عجيبة فوق الماء عبادة جديدة لها، وكان القرم معبودها الأوحد، بنت الشعوب حضارتها ومجدها وتمددت في البحر مع الزمن، إلى أن أتى الله بمشيئته الحتمية في ذلك النهار الذي فيه بانت حقيقة وجوده وأذهب ريحهم إلى النسيان. غابات القرم شاهدة على تعاقب الكائنات الحرة والوجود البشري حولها، إنها تصارع الغربة والوحشة وتصرّ على الحياة، فتأخذ حاجتها من الهواء النقي أثناء حركة الجزر البطيء جداً والشحيح، فتنبثق من الساحل الطيني رؤوس جديدة كل نهار، جذور أمل جديدة تنمو صغيرة وتلتحم في جماعات تشكل وجوداً معقداً هائل التعقيد، في حقيقة أمره يمثل لعالم ملكوت أكبر. هنا، حيث الأخضر يثق بملح البحر ويؤمن به، تعانقك جاذبية الصمت الحميم، خذ وقتك من الموت المؤقت، مت في الماء حالماً لساعتين، لنهار كامل، ليوم، لزمن تحدده حركة المد والجزر، تحرر من ثقلك، فإذا كان الثقل الذي يكتظ به القارب باهضاً، فذلك لأن الأرواح مذنبة، تحرر سريعاً من ذنبك، ولا تخف.. قدّس الأشجار، صَل على الماء، جرّب متعة الموت المؤقت داخل شواطئ القرم الغامضة، وتذكر أنك طائر فلامنجو كان في الأصل إنساناً حراً جرب غموض الولادة من رحم أيكات شجيرات القرم المقدسة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©