لكل عبادة في الإسلام وجهان: وجه ينعكس على الفرد نفسه، ووجه ينعكس على المجتمع· والاقتصار على وجه واحد إضطراب ونقص في أداء العبادات ومقاصدها· فالصوم وإن ورد فيه أنه عبادة خفية بين العبد وربه، لا يظهر لها شكل في الناس، وكما ورد في الحديث القدسي الصحيح: (كل عمل ابن ادم يضاعف، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي)· إلا أن الأحاديث الواردة في فضل الصوم وفضائل الصائمين تبرز بوضوح القيم الاجتماعية الكبرى لهذه العبادة الخفية التي يظن أنها فردية خاصة· فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (الصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم) وكلمة ''جنة'' تعني وقاية تقي صاحبها من المعاصي وعقابها، وهل الوقوع في المعاصي إلا تجاوز الحدود والوقوع على حقوق الآخرين، وانتهاكها، فما الحديث إلا شرح وتعليل للمراد من كلمة (جنة)· وفي قوله فلا يرفت نهي عن الكلام الفاحش، والكف عن البذاءة والسوء· كما ينهى عن الصخب في وجوه الناس، ومخاصماتهم· ''فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم''· وهذا نهي ثالث عن مقابلة المعتدلين بالإساءة نفسها، بل هو توجيه نبوي عال بضرورة تحمل الأذى، ووجوب الصفح والتسامح، والتحلي بالصبر والحلم والعفو عن الناس·
ولذلك كان بعض الحكماء الصالحين يقول: ''التقوى لها بداية ولها نهاية، فبدايتها كف الأذى عن الناس، ونهايتها احتمال الأذى من الناس· وفي الحديث المتقدم يتجسد الصوم عبادة امتناعية عن الأكل والشرب والشهوات ولجم النفس عن العدوان والرفث والصخب والمهاترات، فهذا جانب· أما الجانب الآخر للصوم، فهو أنه عبادة إيجابية فيها البذل والإنفاق، عن سلمان الفارسي قال: ''خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يوم من شعبان فقال: يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة القدر، خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً·'' إلى أن قال: ''وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة··'' فالمواساة تحرك إيجابي من الأغنياء والأقوياء، إلى الفقراء والضعفاء، والصبر لمن لا يملك، فلا يسرق ولا يختلس ولا يذهب ماء وجهه بالاستجداء والمسألة·
ورمضان شهر العمل والعبادة، لأن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال فيه: ''ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيراً''· رواه الطبراني· ومن أين تأتي الأرزاق ويزداد الإنتاج إذا توقف الصائمون عن العمل أو تكاسلوا؟
ومن آثار الصوم الاجتماعية، مدارسة كلام الله في البيوت وفي المساجد، والاشتغال بتحصيل العلم والثقافة، من تفسير وحديث وفقه وسيرة·
المدير العام للهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف
عدد اليوم
