الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بصيرة بشار

بصيرة بشار
11 نوفمبر 2009 23:11
كانت أخبار الشعراء في كتب الأدب المختبر الأول لصناعة الذوق الثقافي العام. ونموذج بشار الذي نتوقف عنده برهان على ذلك، فهو من أوائل الشعراء الذين شغلوا المؤلفين بأخبارهم ونوادرهم، مع أن حياته لم تكن مفعمة بالأحداث، ولكن تعليقاته الذكية كانت تضيء جوانب الحياة السياسية والثقافية والفكرية. يقول قرينه الشاعر مروان بن حفصة: قدمت البصرة فأنشدت “بشار” قصيدة لي، واستنصحته فيها، أي طلبت نصيحته، فقال لي: ما أجودها، تقدم بغداد فتعطى عليها عشرة آلاف درهم، فجزعت من ذلك وقلت: لقد قتلتني. فقال: هو ما أقول لك. وقدمت بغداد فأعطيت عليها عشرة آلاف درهم. ثم قدمت عليه قدمة أخرى، فأنشدته قصيدتي: طرقتك زائرة فحيّي خيالها فقال: تعطى عليها مائة ألف درهم، فقدمت فأعطيت مائة ألف درهم؛ فعدت إلى البصرة فأخبرته بحالي في المرتين، وقلت له: ما رأيت أعجب من حدسك! فقال: يا بنيّ، أما علمت أنه لم يبق أحد أعلم بالغيب من عمك؟ أو لست تقول في القصيدة الثانية: أنى يكون، وليس ذاك بكائنٍ لبني البنات وراثة الأعمام؟ فهذا البيت الذي كثر بعد ذلك الاستشهاد به في مجال الشعر السياسي هو الذي يعطى لبني العباس شرعية الحكم ضد أبناء فاطمة الزهراء، فالعباسيون هم أبناء عم الرسول، وقانون الوراثة العربي والإسلامي يجعل العصب من العمومة يحجبون أولاد البنات، ومن ثم فهم أولى بالخلافة التي تحولت إلى التوارث، مع ما في ذلك من مغالطة، لأن أبناء فاطمة هم أيضاً أبناء علي، وهو ابن عم الرسول كذلك، لكن البرهان الشعري لا يحتمل الجدل. ولعلنا ندرك بذلك أن “بشار” لم يكن يعلم الغيب كما يزعم، بل يعرف الواقع السياسي معرفة جيدة، ويدرك بحث الخلافة عن الشرعية، كما يعرف درجة سماحة نفس الخليفة ومستوى فهمه للشعر وتقديره للشاعر بدقة رقمية فائقة. من ذلك يصبح بشار حجة مرجعية لبعض المؤلفين ممن تصدوا لمهمة تقييم الشعراء وتحديد مستوياتهم، فهذا ابن سلام صاحب طبقات الشعراء يقول: سألت “بشار” العقيلي الأعمى، فقلت: يا أبا معاذ، أي الثلاثة أشعر، جرير أو الفرزدق أو الأخطل، وكان عالماً بصيراً، فقال: لم يكن الأخطل مثلهما، ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه، ولقد ماتت النوار ـ امرأة الفرزدق ـ فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير حيث يقول: تركتني حين كفّ الدهر من بصري وحين صرت كعظم الرمّة البالي إلا تكن لك بالديرين نائحة فرب باكية بالرمل معوال قالوا نصيبك من أجرٍ فقلت لهم كيف العزاء وقد فارقت أشبالي المنافسة، لأن سبب تقديمه العصبية القبلية ويفضل جرير لتنوع إبداعه وإشباعه لحاجات الحياة وتفوقه في سيرورة شعره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©