الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غياب مسكون بظلال من نحب

غياب مسكون بظلال من نحب
11 نوفمبر 2009 23:01
تنتمي نجوم الغانم إلى ما سمي اصطلاحاً بجيل الثمانينيات في الشعر الإماراتي ـ إذ صدر ديوانها الأول “مساء الجنة” عام 1986 ـ هذا الجيل الذي وجد نفسه أمام أسئلة كيانية وجمالية وأدبية كثيرة في واقع آخذ بالتحولات السريعة والغريبة على مستوى البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة، ولذلك كان هذا الجيل الباحث عن ذاته وخصوصيته وقيمه الجمالية يحاول اكتشاف أرض جديدة ليقف عليها متمثلاً ذلك الوعي وتلك الرؤية الخاصة إلى ذاته وإلى العالم الذي ينتمي إليه. ومنذ الديوان الأول، كان واضحاً انحياز الشاعرة لقصيدة اليومي والمعاش وصوت الذات في بحثها عن أحلامها ورغباتها التي يضيق الواقع بها، الأمر الذي جعل نبرة الرفض والتمرد تبدو ظاهرة وجلية في قصائد تلك المرحلة. في عملها الجديد “ملائكة الأشواق البعيدة” ـ بيروت 2008، هناك ما يستوقف القارئ منذ العنوان الخارجي، وهو يتعلق بقضية الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه نصوص الكتاب، إذ إن الشاعرة أغفلت على غلاف الكتاب ذكر نوع الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه هذه الكتابة مما يجعل أفق التلقي عند القارئ مفتوحاً على احتمالات تعفي تلك النصوص من التصنيف والتحديد الأولي. لكن حواشي الكتاب الأخرى أو ما يعرف بالنص الموازي أو النص الصغير الذي يحيل على النص الكبير وفق تعبير جينيت تأتي لتشكل عتبة قرائية بالغة الدلالة والإيحاء بمضمون هذه النصوص والتجربة التي تقدمها والتي تتمحور بصورة أساسية حول علاقة الحب مع الآخر/ الرجل وما تتسم به من شعور طاغي بالغربة والحزن والشوق، وإن حاولت الشاعرة في نصوصها أن تنوع في استخدام ضميري المفرد المؤنث الحاضر والمفرد المؤنث الغائب في الغالب وكأنها تستحضر حكايات نساء تتقاطع معها في المعاني والمضمون والتجربة. عتبات النص في بداية الكتاب تهدي الشاعرة نصوص هذا العمل (إلى الحياة... حتى عندما تقسو) ما يدلل على مضمون الرؤية التي تحفل بها نصوص العمل إلى الحياة التي لم تكن رحيمة وطيبة من جهة، ومن جهة ظلت على الرغم من ذلك تحمل قيمتها الوجودية في ذاتها تعبيراً عن التمسك بوجودنا فيها وأيماننا بالحياة، ثم تأتي الإشارة في الصفحة التالية لتشير إلى بداية زمن هذه النصوص مع تحديد الوقت واليوم والتاريخ، لكن اللافت فيها هو التزاوج بين اللغة المجازية واللغة التقريرية في لغة ذلك التقديم الذي يحدد زمن الكتابة بصباح الثامن من أبريل 2005، بينما تتحدث اللغة المجازية عن الليل الذي بدا أبدياً بعد أن جافاها النوم وظل الشعور الثقيل بالوحدة والوحشة يجثم على قلبها وروحها ما يكشف عن مضمون التجربة المقدمة، ويساهم في التحكم بتأويل تلك النصوص، وفي أفق انتظار القارئ ووسم معاني تلك النصوص الذي يوجه فعل القراءة ويحدد الإطار الذي تندرج فيه. ولما كانت نصوص العمل تنحو نحو التكثيف الشديد في لغتها حتى أنها في بعض النصوص لا تتجاوز سطرين أو ثلاثة أسطر، فإنها تكشف عن بنيتها الشعرية باعتبارها تنتمي إلى قصيدة الومضة أو الالتماعة الشعرية التي تنطوي في بنيتها غالباً على عنصر المفارقة، خاصة أن الشاعرة في إستراتيجية العنونة التي اعتمدتها في هذا الكتاب استخدمت إستراتيجية العنونة الشعرية المتمثلة في توزيع قصائد الكتاب على سبعة عناوين محورية يضم كل عنوان مجموعة من النصوص التي تتباين من حيث عددها وطولها، وقد توزعت تلك العناوين على نوعين من العنونة، أولها العنونة الكتابية التي تتميز على المستوى البلاغي بتكثيفها الشديد والتي تستمد غالباً من متن النص أو جملته الأولى، وثانياً العنونة بالأرقام وهي تحمل دلالية كمية وتشير إلى الاتصال في مضمون النصوص. يحمل عنوان الكتاب الذي يسمه ويمنحه هويته “ملائكة الأشواق البعيدة” دلالات تنطوي على معنى وجداني عاطفي يدل على التوق الشديد واللهفة، فالملائكة التي هي كائنات غير مرئية للإنسان تحيل في معناها الدلالي إلى العالم الروحاني السماوي، لكن تلك الكلمة التي جاءت في صيغة الجمع تأتي معرفة، بالإضافة إلى كلمة الأشواق التي توحي بالفقد والحنين، مما يجعلها تحيل إلى تجربة إنسانية يصعب الوصول إلى مداها القصي، وتدل على معنى المكابدة والحلم والحب التي ترعاها تلك الملائكة. ويمكن ملاحظة الوظيفة الشعرية لهذا العنوان من خلال تعالقه مع العناوين الداخلية المحورية وعناوين النصوص، فالعنوان المحوري الأول على سبيل المثال “الصمت ولا شيء سواه” يوحي بخلاف ما تعبر نصوص عنه هذا العنوان من بوح ومكاشفة وتعبير عن حالة الغربة والحزن والغياب والفقد الذي تعيشه أنا المؤنث المتكلم، في هذا الخطاب المسكون بالمرارة والألم والإحساس بالخذلان والفقد في علاقتها مع الآخر/ الحبيب، إذ يشكل خطاب الحب المخذول والحزين وما ينجم عنه من شعور مرير بالغربة والوحشة والمكابدة محور هذه التجربة وفضاءها. خطاب الشوق تتباين شعرية هذه النصوص بين قصيدة وأخرى وفق ترتيب العنونة المحورية فالقصائد الأولى التي يشتمل عليها العنوان المحوري الأول “الصمت ولا شيء سواه” تتميز ببنيتها القائمة على الاقتصاد اللغوي الشديد واستخدام مفردات معجم شعري تتكرر في أكثر نصوصها مثل مفردات المطر والبحر والموجة والعتمة أو الليل والشاطئ والظلال والأشجار: “سأدع كل شيء في مكانه وحتى الغبار الذي تكدس فوق الأشجار لتعرف هي أيضاً/ كم تتألم أجسادنا حين لا يمسها أحد”، بينما نصوص العنوان المحوري “ارتجافات الهواء الموجعة” تتميز بطولها لا سيما في النص الأول ذي العنوان الطويل، ما يكشف عن التعالق بين بنية العنوان وبنية النص، على مستوى البنية اللغوية والبنية الدلالية، إذ يقوم العنوان باختزال مضمون التجربة التي يتحدث عنها النص، وهي تجربة الغربة والوحدة التي تعيشها الذات المتكلمة في غرفة وحيدة موحشة في مدينة استوائية غريبة، في حين تتكرر مفردات المعجم الشعري كالمطر والليل والأشجار والعتمة والبحر والنهر والحديث عن الفراق والصمت ومرارة الخيبة. وإذا كانت حركة الخطاب على المستوى المكاني تتجه من الداخل (المكان المغلق ـ الغرفة) نحو الخارج ممثلاً بمنظر العصافير، وهي تحلق خفيفة في الفضاء، فإن حركة الخطاب على مستوى الذات يكون نحو الداخل (العالم الخاص للمرأة). على المستوى الزمني تمتد حركة الخطاب من الحاضر نحو الماضي المسكون بوجوه الأصدقاء والحب والأحزان والألم والغياب، كما يتبدى في حالة التداعي واستعادة الذكريات والوجوه والحالات والأفكار التي يولدها شعور اللحظة الموحشة بالغياب. وتنفرد نصوص (ليالي الحنين والعتمة) باستخدام ضمير الغائب، حيث يتولى الراوي الحديث عن المرأة التي تعيش هي الأخرى تجربة عشق مريرة تنتهي بالفقد والهجران ولعل العنوان بما يحمل من معنى ودلالة يشي بمضمن تلك التجربة التي تتقاطع مع نصوص الكتاب الأخرى من حيث الحالة والمضمون والمكابدة القاسية بوجعها وغيابها، لكن الشاعرة تعود في نصوصها الأخرى إلى استخدام ضمير المتكلم المؤنث تارة وضمير المؤنث الغائب تارة أخرى دون أن تفقد اتصالها مع مضمون التجربة وكأنها خطابات نساء في العشق المكلوم اختزلت في مكاشفة امرأة واحدة وبوحها الذي يحمل في طياته كل ذلك الوجع والخذلان لحكايات لم يبق منها غير ظلال باردة على جدران الروح الموغلة في وحشة كائناتها الحزينة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©