الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مساءلات «فورت هود»

9 نوفمبر 2009 23:20
قد يحتاج الأمر إلى طبيب نفسي آخر لسبر أغوار الصراع الداخلي الذي عاشه ذلك الطبيب النفسي في الجيش الأميركي، وأدى به إلى اختيار الانتحار عبر قتل وإصابة العديد من زملائه، وصولاً إلى "الخلاص" الذي يعد به أطباء النفس زبائنهم المعذبين. لم يتح للميجور نضال مالك حسن أن يقضي مع ضحاياه، وإنما بقي ليواجه مئات الأسئلة التي ستطرح عليه وستختصر كلها في شأن واحد: لماذا القتل؟ فكل الدوافع يمكن أن تُفهم، كما كل الاعتراضات، وحتى كل الخطوط الحمر التي وجد نفسه مصطدماً بها وأصعبها استفظاعه الذهاب إلى ساحة المعركة. ومع ذلك، لماذا القتل وهو الضابط الطبيب الذي التقى مئات العائدين من العراق وأفغانستان وجهد لمعالجتهم من التشوّهات الذاتية، التي حملوها في عقولهم وقلوبهم، كأنها التذكارات التي بقيت لهم من السياحة القذرة التي مضوا إليها، ولا يدرون إذا كانوا عادوا منها فعلاً. نضال رجل عربي من أصل فلسطيني، نعم. مسلم متدين، نعم، راكم خبرة طويلة في الجيش الأميركي، لكنه على الأرجح شعر في الأعوام الأخيرة أنه أصبح في جيش آخر، وربما في بلد آخر. نضال كأي عربي أميركي سويِّ لم يرَ في هجمات 11 سبتمبر تعبيراً عنه، ولا عن إسلامه، لكنه تلقى تداعيات تلك الهجمات كأنها تحمله مسؤولية ما عنها بسبب اسمه وملامح وجهه ودينه، وكل ما هو متكهن ومفترض من قناعاته. ومع ذلك ظل مقبولاً ومعتمداً عليه حتى في موقعه الحساس لمجرد أنه كان يقوم بعمله كما يُتوقع منه. هذا تفصيل من بين آلاف التفاصيل التي تتشكل منها عظمة بلده، أميركا، الذي أتاح له أن يحقق ذاته وبعضاً من أحلامه الخاصة. طبعاً، تعرض نضال لإساءات ولخيبات أمل مثله مثل كثيرين من أصول متنوعة. لكن المهم أن لا تُداس كرامته وحقوقه وإنسانيته. إذاً لماذا القتل؟ نضال عايش الحربين من زاوية لا يحسد عليها. استمع إلى شهادات قاسية ومروعة لجنود ما عادوا يعرفون لماذا دُفعوا إلى تلك المقاتلات السقيمة. لم يستسهل نضال لنفسه مثل هذا المصير. لكنه جندي وليس حراً. قاده عمله إلى أن يفهم أكثر، إلى أن يسائل السياسات والأهداف والوسائل، وربما إلى أن يخضع لعلاج ذاتي كي يقترب من معاناة زملائه المرضى. فكيف له أن يتجاوز كل شيء ويرضخ لأمر الذهاب إلى أفغانستان. تلك اللحظة كانت حاسمة، إذ تفجرت في رأسه تناقضات طالما قاومها وأرجأ بتِّها. لكن لماذا لم يرفض، لماذا لم يستقل، لم يتمرد، لم يهرب، ولماذا انتهى إلى خيار القتل؟ سيقال -على سبيل التبسيط- إنه في اللحظة الحرجة عاد إلى طبعه، إن نضال الأميركي المتطبع والمندمج عاد إلى نضال الفلسطيني المسلم المأخوذ بالظلم التاريخي الذي رآه في عيون والديه ويراه يومياً على الشاشات ويستشعره في دمه. سيقال أيضاً، في طيات التبسيط، إنه أراد أن يتصالح مع نفسه بالانتقام. الأرجح أن نضال عاش التخبط بين كونه جندياً يمكن أن تعرّضه وظيفته للذهاب إلى الحرب وبين كونه في أعماقه رافضاً للحرب، لهذه أو لغيرها، لكن هذه الحرب تحديداً لم يشأ أن يذعن لها. مذبحة "فورت هود" ستطرح علامات استفهام في أكثر من اتجاه، ليس أقلّها ما يتعلق بالمسلمين المجندين، بل في الخيارات الإثنية وحتى الدينية للتعبئة العسكرية. فالجيش الأميركي تورط في حربين تفجر فيهما التباين الديني والثقافي بكل رواسبه التاريخية وبكل موروثه السلبي، والأكيد أن سياسات الدولة لا تسعفه في ضبط تثقيف أفراده أو في التعبئة التي يخضعهم لها قبل إفلاتهم في ميادين القتال. كان تنوع المجتمع ثراء للتجربة الأميركية، لكن تكرار الحروب لابد أن يضع أميركيين كثيرين في تجربة نضال مالك حسن. * كاتب ومحلل سياسي - لندن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©