الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«جريس» قرية مصرية تصنع الفخار منذ عهد الفراعنة

«جريس» قرية مصرية تصنع الفخار منذ عهد الفراعنة
18 يونيو 2010 21:06
تقع قرية “جريس”، التي تأسست في زمن الفراعنة، على مسافة 38 كيلومترا شمال العاصمة المصرية القاهرة واكتسبت شهرتها من أنها واحدة من المناطق المتخصصة في صناعة الفخار إلى جانب الفسطاط بالقاهرة وقنا وقوص في صعيد مصر. وبقيت حرفة الفخار متوارثة بين أبنائها البالغ عددهم حالياً نحو 25 ألف نسمة ويعتمدون في معيشتهم على ما تدره تلك الصناعة من ربح. تحولت شوارع وأسطح منازل قرية، “جريس” المنتمية إلى مركز آشمون بمحافظة المنوفية، عبارة عن مخزن كبير تتراكم فيه القلل والأباريق والجرار، انتظارا لبيعها للتجار الوافدين من المدن المختلفة. ويقول شيخ “الفواخرجية” (الذين يصنعون الفخار) بالقرية فوزي غنيم (60 سنة) “ورثت المهنة عن أبي وجدي منذ كنت طفلا في الخامسة من العمر وأتقنتها في سن الشباب وتزوجت من عائدها وأورثتها لأبنائي وأحفادي ففي “جريس” الفخار هو مصدر رزقنا الوحيد”. شروط الإتقان عن أسرار تلك المهنة، يقول “الصانع الماهر ينتج في المتوسط يوميا نحو 150 قطعة متوسطة الحجم كالقلل والأطباق، ومن 30- 50 قطعة من التحف والانتيكات وهناك شروط لإتقان مهنة الفخار، منها أن ينخرط الصانع في العمل وهو طفل لأنها حرفة تعتمد على الإحساس والتناغم بين يدي الصانع وحبيبات الطين ولذلك لابد أن يزرع في المتدرب وهو صغير، كي يشب عليه فيعرف أي أنواع الطين تصلح للعمل وكمية الماء والوقت الكافي لتخمر الطين ودرجة حرارة الفرن المناسبة”. ويضيف “الفرجة نص التعليم، مثل شعبي ينطبق على كل من يريد تعلم المهنة فالطفل المتدرب يشاهد ويراقب في صمت لنحو شهر ثم ينتقل لمرحلة المساعدة بأن يطلب الفواخرجي من الطفل الذي يكون غالبا من أفراد أسرته أن يساعده في نقل الأواني الجاهزة لتوضع في مكان جيد التهوية، لا تصل إليه الشمس حتى تجف، كما يساعده في نقل الطين من الأرض الزراعية قرب شاطئ النيل ويشارك في تجهيزه للعمل بعد التحضير، وهذه الفترة تستمر من ثلاث إلى خمس سنوات ينتقل بعدها الطفل إلى مرحلة الإنتاج بأن تسند إليه صناعة النماذج الصغيرة البسيطة مثل الفنجان والكأس والصحن وبإتقانه لها ينتقل إلى صنع النماذج الكبيرة كالقلة والإبريق وبمرور الوقت يكتسب مزيدا من الخبرات”. ويوضح غنيم، أن غالبية أبناء “جريس” يتلقون تعليمهم في المدارس والجامعات المختلفة، ويواظبون على تعلم مهنة الفخار لمواجهة أعباء الحياة في المستقبل، مؤكدا أن الفواخرجي المتعلم أفضل من الجاهل، الذي لا يجيد القراءة والكتابة، فالمتعلم قادر على تطوير أدواته ومواكبة متطلبات السوق وفهم أذواق الناس واحتياجاتهم لاسيما من التحف والانتيكات الفخارية، ولا يوجد شكل معين أو مقاسات ثابتة لقطعة الفخار، فالصانع يصنع الشكل الذي يخطر بباله، فهي مهنة إحساس من الطراز الأول. لاسيما وأن أسعار منتجات الفخار في متناول الجميع من 2-5 جنيهات في المتوسط للقلة أو الابريق والطبق، بينما القطع الفنية والانتيكات تتراوح من 30-50 جنيها للتاجر الذي يبيعها بدوره في البازارات والمحال الكبرى بأضعاف ذلك. مميزات العامل يؤكد غنيم أن أهم ما يميز الفخار المصري هو العامل الماهر، فهو يمتاز إلى جانب إتقانه لفنونها بالذوق الرفيع والصبر الذي يمكنه من التأني في إنهاء قطعة الفخار فيعدها على مهل حتى تخرج في أجمل صورة ويساعده في ذلك تنوع الخامات في البيئة فارض مصر بها أنواع عديدة من الطين الذي يستخدم في صناعة الفخار فهناك طين الاسبوكله والبروسلين وطمي النيل، ولكل نوع مميزاته وقطع الفخار التي تناسبه وفقا لرؤية الصانع وإحساسه. ويوضح أن العديد من طلاب كليات الفنون الجميلة والتطبيقية بالقاهرة والإسكندرية، يحضرون إلى القرية، ومنهم من يعد دراسات عليا عن الفخار وهناك أيضا سياح أجانب. ويشير غنيم إلى ولع أهل الغرب بالفخار المصري، وحرصهم على شرائه وجزء من إنتاج القرية، لاسيما الخاص بالانتيكات يحرص التجار في القاهرة على تصديره مع بقية القطع التي يجمعونها من أماكن تصنيع الفخار في مصر وعرضها في البازارات والمعارض الدولية. وعن رحلته مع الفخار، يقول “زمان كان أي بيت في المدينة أو القرية، لا يخلو من القطع الفخارية كالقلل والأباريق والطواجن والبلاليص، لذا كان حجم الطلب كبيرا، أما الآن فإن الأسر تفضل الاعتماد على الأدوات المصنوعة من البلاستيك والألمونيوم رغم أن أواني الفخار أفضل لصحة الإنسان”. وتشارك المرأة بقوة في تلك الصناعة، وتقول “خديجة” زوجة غنيم إن المرأة في “جريس” عنصر مهم في تلك الصناعة فهي تعاون زوجها في مهنته والابنة من عمر سبع سنوات تعمل مثل بقية الأبناء في نقل الفخار من الدولاب إلى ركن البيت ثم إلى الفرن ثم الشارع أو سطح البيت للتخزين لحين بيع كمية الفخار المطلوبة للتجار. وتقول إن من النساء من يحترفن العمل في تلك المهنة بعد وفاة الزوج أو فقدان الأب وتحصل المرأة على دخل 25 جنيها يوميا. رحلة الطين من خلف دولاب عتيق وقرص دوار لا يختلف كثيرا عن الذي كان يستخدمه الفراعنة يجلس عمرو محمود (27 سنة) يداعب بأنامله قطعة من الطين، وكلمح البصر أدار الدولاب بقدمه اليمنى وفي نفس الوقت كانت يده تداعب لوح الطين ليتحول إلى أناء كأنه تحفة فنية ثم يهذب الأطراف بخيط رفيع ويعطيه لمساعده الذي يضعه بعيدا كي يجف. اللزوجة والتماسك ويقول محمود “تخرجت قبل خمس سنوات في كلية التجارة وفضلت مواصلة العمل في مهنة الفخار التي ورثتها عن آبائي وأجدادي لأن عائدها المادي أفضل من راتب أي وظيفة حكومية ومن خلالها أحقق ذاتي وأشعر بمتعة كبيرة وأنا أنظر إلى ما أنتجته من قطع فخار أقرب إلى التحف”. ويضيف “ليس كل طين صالحا لصناعة الفخار، فالطين الذي تصنع منه الآنية لا بد أن يتسم بمسامية معينة، ودرجة خاصة من اللزوجة والتماسك والصانع المتمرس في المهنة يستطيع التعرف على الطين وتحديد صلاحيته”. وعن مراحل إعداد الطين ليصبح فخارا، يقول محمود “تبدأ أولا بإحضار كمية من التراب وتنقيته من الشوائب بواسطة الغربال وبعد ذلك يكون جاهزاً لعملية الإعداد فنقوم بخلطه بالماء والتقليب جيدا إلى أن يصبح عجينا في الأيدي فينقل إلى دولاب الفخار “العجلة” وهي نفس الآلة المستعملة منذ عهد الفراعنة وهي عبارة عمود حجري قائم، ارتفاعه 80 سم يدور في دائرة وينتهي أعلاه بقرص حجري أفقي صغير 22 سم وفي أسفله قرص حجري أفقي أكبر 35 سم ويتحكم الصانع بحركة القرص السفلى بقدمه وبحركة الأعلى بواسطة يديه ونضع قطعة صغيرة من الطين العجين على القرص الأفقي الأعلى ونبلل اليدين بالماء، ونحرك القرص السفلي بالقدم بسرعة وفي نفس الوقت تقوم يد الصانع بلف الطين أولا في شكل مخروطي ثم يتم تجويفه وصناعة ما نريد من الأشكال وفي فترة من دقيقة إلى اثنتين حسب مهارة الصانع، وتمكنه من الحرفة ثم ينقل المنتج ليجف لمدة سبعة أيام في الهواء الطلق قبل أن يوضع في فرن بلدي نعتمد في إشعاله على أعواد الحطب الجاف بعد أن نضع قطع الفخار بداخله لمدة تتراوح من 3 – 5 ساعات كي تحترق في درجة حرارة نعرفها بالخبرة بلا حاجة لقياس تكنولوجي وعند الاقتراب من النار نتعرف ما إذا كان الفرن بحاجة إلى مزيد من الحطب أم لا، والنار إذا زادت على المسموح ينكسر الفخار بداخل الفرن ويتحول إلى رماد وإذا انخفضت يخرج الفخار هشا قابلا للكسر”.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©