الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بنجلاديش.. ومعضلة مصانع النسيج

24 ابريل 2014 00:04
جيسون موتلاج كاتب أميركي عندما التقيت «راجينا أكتر» في شهر فبراير من العام الماضي كانت عيناها ما زالتا حمراوين وذاكرتها مشوشة بفعل الأدخنة السامة التي غيبتها عن الوعي قبل ثلاثة أسابيع من ذلك التاريخ، فالفتاة ذات الخمسة عشر ربيعاً كانت منهمكة في خياطة سترات وملابس أخرى عندما شبت ألسنة اللهب في أحد المصانع غير القانونية بضواحي دكا، عاصمة بنجلاديش، وعندما ذهبت لتفقد مكان الحادث بدت علامات الأيدي واضحة على الجدران بالقرب من الدرج الذي لفظ عليه ثمانية عمال أنفاسهم الأخيرة بسبب التدافع الذي حصل فيما كان 350 شخصاً يحاولون شق طريقهم في اتجاه المخرج الوحيد الذي كان مغلقاً، ولحسن حظ «أكتر» تمكن أحدهم من حملها إلى الخارج لتبقى على قيد الحياة، حيث أخبرتني في بيتها المتواضع الذي تعيش فيه إلى جانب أربعة من أقربائها أنها ستعود للعمل في المصنع ما أن تستعيد عافيتها لأنه بالنسبة لمن في وضعها، دون مال أو تعليم، لا مجال للاختيار. والحقيقة أن اندلاع الحرائق في مصانع النسيج ببنجلاديش، التي يقدر حجم معاملاتها السنوية بحوالي 20 مليار دولار، كان يحدث بمعدل مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع الواحد، وقد سبق لي القول بأن الظروف السيئة والخطيرة التي تحيط بعمال قطاع النسيج لن تتحسن إذا استمرت الشركات الغربية في إرسال طلبياتها الكبيرة وظل المستهلكون يلهثون وراء أقل الأسعار الممكنة. لكن فجأة حدث الأسوأ عندما انهار مصنع «رانا بلازا» بطوابقه الثمانية في 24 أبريل 2013 ليخلف حجماً هائلا من الدمار وعدداً كبيراً من الضحايا وصل إلى 1134 قتيلا وأكثر من 2515 جريحاً، ليبدو الأمر أكثر هولا من قدرة الشركات حتى الأقل اهتماماً منها، أو الحكومات على تجاهل الموضوع، فقد تسببت صورة المصنع المنهار التي جابت العالم إلى خروج مظاهرات حاشدة في بلدان مختلفة، والنتيجة حدوث بعض التحسن، إذ بدءاً من السنة الماضية طرأ تطور ملموس على صناعة النسيج في بنجلاديش تجسد في توقيع أكثر من 150 شركة أوروبية ميثاق ملزم قانوني حول معايير السلامة وتفادي الحرائق، فيما انضمت أكثر من 26 شركة أميركية إلى تحالف آخر تعهد بالاستثمار في معايير السلامة، لينعكس ذلك على ظروف المصانع التي يتعاملون معها ولتتحسن بالفعل إجراءات المراقبة والتتبع. وفي غضون ذلك تحركت الحكومات أيضاً للضغط على السلطات المحلية في بنجلاديش من خلال تلويح الولايات المتحدة بتجميد الامتيازات التجارية للبلد الأمر الذي أفضى إلى ظروف عمل أحسن للعمال، ورفع الحد الأدنى من الأجور، والسماح لهم بالتكتل والتنظيم للدفاع عن حقوقهم، لكن رغم هذه الجهود سيكون من الخطأ الجزم بأن صناعة النسيج قد تجاوزت الأسوأ، لا سيما إذا ما خبا الاهتمام الغربي وتوقفت المتابعة. فالتقارير الصادرة عن مفتشين مستقلين لمصانع النسيج في بنجلاديش التي أجريت خلال السنة الماضية رسمت صورة قاتمة عن الوضع، فكميات التخزين العالية في المصانع تسببت في تشقق الجدران، وفي بعض الحالات سُجل غياب تام لمعدلات إطفاء الحرائق، فيما ممرات الخروج لا تقود إلى الخارج، بل إن المصانع الأهم في البلد التي تتلقى طلبيات من كبريات الماركات العالمية تلقت العديد من الاستدعاءات القضائية. والأكثر من ذلك أن المصانع التي تخضع للتفتيش على علاتها تظل مؤسسات رسمية، فيما قطاع النسيج في بنجلاديش ينهض على شبكة واسعة من العمليات التي تتم تحت الأرض وفي سرية تامة، ففي أماكن معتمة وداخل أقبية البنايات وطوابقها السفلية يحتشد العمال الذين يتقاضون أجوراً زهيدة لإنهاء طلبيات المصانع الأخرى التي تعمل تحت ضغط كبير لمسايرة آخر ما تصل إليه صناعة النسيج. وبعيداً عن الأعين ينخرط أصحاب تلك المعامل في انتهاك حقوق العمال والقيام بكل ما يحلو لهم دون رقيب، أو حسيب، وللتأكد من الأمر قمت في شهر سبتمبر الماضي بالتسلل داخل إحدى تلك المعامل السرية في العاصمة داكا، ورأيت كيف يحتشد العمال في مساحات ضيقة دون نوافذ وفي ظروف سيئة للغاية، ورغم أني اخترت المكان عشوائياً فقد كانت واضحة انتهاكات قوانين السلامة والمعايير المنصوص عليها، حيث لا وجود لمعدات الإطفاء، ولا إشارات تدل على وجود أماكن الخروج، وقد اعترف لي أحد كبار مصنعي الملابس في بنجلاديش أن عملية التعاقد من الباطن غير القانونية تظل منتشرة على نطاق واسع، قائلا «مع كل العوامل الأخرى التي تهدد بتعطيل الإنتاج مثل الظروف السياسية وغيرها يبقى التعاقد من الباطن أمراً ضرورياً للوفاء بالطلبيات». والمشكلة أن الحكومة الأميركية نفسها ضالعة في عملية التهاون وعدم الاهتمام بما يجري من تجاوزات في قطاع النسيج، ففي الوقت الذي يُنصب فيه الرئيس أوباما نفسه مدافعاً شرساً عن حقوق العمال الأميركيين، يعتمد الجيش الأميركي على مصانع بنجلاديش البائسة في الحصول على بعض مكونات الزي العسكري، بحيث تقوم محال الجيش بشراء ما قيمته ملايين الدولارات من الألبسة من بنجلاديش في السنة دون التحقق من معايير العمل في تلك المصانع ولا الظروف التي تنتج فيها تلك الملابس، وهو ما يفسر العثور على ملابس تحمل شعار مشاة البحرية الأميركية بين أنقاض أحد المصانع الذي احترق في نوفمبر 2012 وخلف 112 قتيلا، هذا ناهيك عن تقاعس بعض الشركات الغربية عن التزاماتها بدفع التعويضات المتفق عليها لأسر الضحايا مثلما حدث مع عمال مصنع «رانا بلازا»، حيث لم يتلق صندوق الإغاثة الذي أحدث لمساعدة الضحايا سوى 17 مليون دولار من أصل 40 تم الاتفاق عليها لتغطية النفقات الطبية والأجور وباقي أنواع التعويضات لأكثر من أربعة آلاف ضحية، بمن فيهم العمال الذين نجوا وأسرهم التي فقدت معيلها. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©