الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجارب إماراتية تغامر في التجديد وتكسر المألوف

تجارب إماراتية تغامر في التجديد وتكسر المألوف
27 أغسطس 2008 23:21
عرفت الثقافة العربية، ما بين الخمسينات والثمانينات من القرن الماضي، ظاهرة الجماعات الشعرية والفنية، بدءا من جماعة ''شعر'' ومجلتها الشهيرة، مرورا بجماعة ''غاليري ''69 المصرية المعروفة، وصولا إلى جماعة ''إضاءة ''77 المصرية أيضا، وقد لعبت هذه الجماعات دورا في خلق حركة ثقافية مهمة، فقد جاءت تلك الجماعات تعبيرا عن تململ وحراك يسعى إلى تجاوز السائد، وكسر المألوف، والتمرد على الواقع· اليوم تراجعت هذه الظاهرة، وصار من الصعب أن يلتقي مجموعة من المبدعين في جماعة إبداعية قائمة على المشاركة والاشتراك حول فكرة معينة، أو ممارسة إبداعية معينة، فهناك ما يشبه اعتكاف المبدع وعزلته، والميل إلى العمل الفردي والذاتي الذي يعود بالمبدع إلى فرديته، والابتعاد حتى عن المناقشات التي تتناول الأفكار والأحلام، ليكتفي كل مبدع بما لديه، شعورا منه بالامتلاء وعدم الحاجة إلى أي شيء ينتجه الآخرون· قبل شهور، وتحديدا في يوم الشعر العالمي، الذي يصادف شهر آذار من كل عام، كتب الشاعر عبد العزيز جاسم مقالة معمقة حول ما أسماه ''صراع الشِّعر مع الشاعر، والعكس صحيح أيضاً''، ليذهب بها ـ كما كتب ـ إلى ''الجانب الآخر المغيب من المعرفة الشِّعريّة، ورفض جميع الأشكال التي تحاول إفساد الشِّعر والشعراء معاً· لأن الشِّعر لا يتبع سوى نفسه، والشاعر الحقيقي يفعل ذلك أيضاً، مهما كانت الموجة صاخبة وكانت المغريات كبيرة''· مياه راكدة هذه المقالة اعتبرت يومها بيانا شعريا (مانيفيستو) قام عدد من الشعراء بالتوقيع عليه، وهم أحمد منصور، أحمد العسم، وليد الشحي، محمد حسن أحمد، هاشم المعلم، جمال علي، أحمد سالمين، يوسف أحمد· وكانت المقالة/ البيان مفاجأة للساحة الشعرية من حيث القضايا التي طرحتها· وأنا هنا أقف معها في تقديم هذا التحقيق حول الجماعات الأدبية والثقافية عموما، والشعرية بشكل خاص، فمنذ سنوات طويلة لم تحدث أية مراجعة لما يجري في الساحة الشعرية المحلية والعربية، ولذلك فأنا أعتبر مقالة جاسم قد جاءت لتثير جدلا شعريا/ معرفيا عميقا، لكن ذلك للأسف لم يحدث، فالمياه الراكدة تزداد ركودا كما أرى· في حينها توقفت عند فقرات من المقالة/ البيان، أتفق مع بعضها وأختلف مع البعض الآخر، فهو يتحدث عن الشعر بوصفه ''حالة فرادة استثنائية مكتملة ومستمرة· فرادة لا يتحملها سوى شعراء المنقلب الآخر وحدهم، وليس شعراء الابتذال اليومي والطنين الزائف· فرادة هائلة، مريرة، فاتنة، فظيعة، صامتة، وأبدية· إنها فرادة تشبه مَنْ يعثر على بحر في صندوق قراصنةٍ أجلاف· إنه صراع·· تولد من رحمه الحقيقة الشِّعريّة''· هذا صحيح ومتفق عليه إلى حد بعيد، ولكن ما الذي تعنيه عبارة ''شعراء المنقلب الآخر''؟ إنه سؤال يحتاج إلى إجابة غير إنشائية· قارات القصيدة وأنا أتفق مع قوله بضرورة ''أن نعمل على توسيع قارات القصيدة وأن نضخ الدّم في أممية الشِّعر، وذلك بالمعنى الفيثاغوري والهرمسي للكلمة· ولعل هذا لن يتم، إلاّ عبر إصغائنا العميق لأصوات الوجود وانفتاحنا الشاسع على ''الإيقاعات الكونيّة'' الفريدة، واصطياد ''الأصوات الشاردة'' والضائعة في مسارب العالم''· لكن هذا يبقى حديثا عاما لا يحدد الأشياء كما هو الحال في كون عبد العزيز جاسم لا يعترف سوى بشعراء قصيدة النثر، فهل هم وحدهم من يقصد بـ''شعراء المنقلب الآخر''؟ فكيف يمكن لشاعر حداثي القول إن ''القصيدة الوحيدة اليوم، التي تقارب في مسارها التاريخي وتشظِّياتها الإيقاعية الثرّة هذا المفهوم الكوني للإيقاع، هي قصيدة النثر في تجاربها العالية، هنا وهناك وفي العالم كلّه· فهذه القصيدة تنفتح على إيقاعات الكون، من دون أن تستعير نموذجاً إيقاعياً جاهزاً، بل ومن خلال بنائياتها اللّغويّة ورنين دواخل الكلمات والأشياء والأصوات فيما بينها، تتخلق تلك السمفونية الشِّعرية التي بلا مقامات''؟ هذا في الوقت الذي نطلب فيه الحرية لكل التجارب الجادة؟ وماذا نفعل بعشرات التجارب التي ما تزال تكتب شعر التفعيلة، أو حتى الشعر العمودي لمن يبدع فيه؟ أليس ثمة إيقاعات كونية في بعض هذه التجارب؟ وأضيف هنا، إذا حصرنا الإيقاعات الكونية في قصيدة النثر، فأين نضع أصوات الطبيعة التي يتحدث عنها عبد العزيز جاسم نفسه؟ وكيف ننظر إلى إيقاعات النثر السردي والدرامي في حياتنا؟ وكيف نعلل إيقاع لهاثنا اليومي خلف احتياجاتنا اليومية المادية والروحية والعاطفية، خصوصا وأن عبد العزيز نفسه يتساءل ''كيف نختزل الإيقاعات الكونية للشّعر، في قوالب محددة ومنمطة وجاهزة للاستعمال، ونقول: إن هذه هي كل إيقاعات الشِّعر منذ فجر التاريخ وحتّى اليوم؟''· وبعض ما تجدر الإشارة إليه في مقالة/ بيان عبد العزيز جاسم هو الربط بين العولمة وفساد الشعر في العالم ''فهذا المد العولمي يريد تحويل الشِّعر، إلى ''خطاب تكميلي تابع للإعلام والاستهلاك''· جماعات الثمانينيات باستثناء هذه المقالة/ البيان، التي تعبر عن وجهة نظر شاعر بمفرده وإن وقع عليها مجموعة من الشعراء والمبدعين، لم تشهد الساحة الثقافية في الإمارات، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، أي تجمع ثقافي ـ إبداعي يلتقي على مفاهيم ورؤى مشتركة، ففي الثمانينات كانت طفرة الجماعات الأدبية والفنية، كانت هناك ''نوارس'' التي أطلق فكرتها الفنان مسعود أمر الله، ثم كانت ''رؤى'' التي أطلقها أمر الله أيضا، ثم انطلقت ''جماعة الشحاتين الأدبية'' عبر الأثير، ولكن أيا من هذه الجماعات لم يعمر طويلا· هنا وقفة مع عدد من المشاركين في تلك الجماعات والتجمعات، لنقف على رؤية كل منهم للجماعة وسبب مشاركته فيه وما تحقق في ذلك التجمع، وأسباب انفراطه؟ اللقاءات الشعرية في البداية، نقف مع مسعود أمر الله الذي خاض تجربة تأسيس جماعة ''النوارس'' مع الشاعر إبراهيم الملا ثم الشاعرة الهنوف محمد، فقد عرفت الساحة الثقافية مسعود شاعرا حين كان ما يزال طالبا، حيث بدأت هذه الجماعة بإصدار مجموعة شعرية مشتركة للشعراء الثلاثة بعنوان ''تراتيل النوارس''، ثم ''نوارس ،''2 وبعد هذه التجربة تولى مسعود أمر الله مع الملا إصدار نشرة/ مجلة ''رؤى'' التي بدأت بأربع صفحات وتطورت مع الوقت حتى وصلت في عددها الثاني عشر (الأخير) إلى 42 صفحة· هذه التجربة يستحضرها مسعود أمر الله بقدر من الحنين والشعور بالفقدان، وهو لا يعرف تماما لماذا كان اسم ''النوارس'' لهذه الجماعة، لذلك يقول إن المسألة تتعلق بقواسم مشتركة جمعته مع الشاعر إبراهيم الملا، ثم انضمت إليهما الشاعرة الهنوف، ضمن قواسم تتعلق بالروح الواحدة والنَفَس المشترك، لتشكيل حالة مختلفة عن السائد، خصوصا بعد أن رفضت الصحافة الثقافية آنذاك نشر النصوص الجديدة، فهو يقول ''كنت أشعر بضرورة الاختلاف والخروج على المألوف، وهو ما أمّنته لنا الجماعة ونشرتها وردات الفعل التشجيعية التي تلقيناها''· وعن طبيعة الاختلاف الذي يتم الحديث عنه دائما يقول أمر الله ''الأمر يتعلق باللغة بشكل أساسي، وكسر القوالب الجامدة بلغة ذات جماليات عالية، فقد كنا نبحث عن فضاءات جديدة لتجارب جديدة لا تجد منبرا يتسع لهذه اللغة الجديدة، حيث لا التزام سوى بالجمال والحرية الشعرية، وكانت قراءاتنا تفتح لنا آفاقا واسعة تجعلنا نتمرد على السائد، فنكتب بشكل مفتوح وبلا قيود، وهكذا كانت نشرتنا/ مجلتنا رؤى هي هذا المنبر''· إمكانات متواضعة لكن تجربة ''النوارس'' و''رؤى'' لم تكن سهلة كما يقول أمر الله، ويوضح ''كنا طلبة، وكان العبء كبيرا من حيث تحرير مواد النشرة في بيوتنا، ونعمل بإمكانات بسيطة تقنيا وماليا، وخصوصا أن تكاليفها كنا ندفعها من جيوبنا، ثم توزيعها محليا وعربيا، إذ صار لها قراؤها خليجيا وحتى في بلاد المهجر، الأمر الذي كنا غير قادرين على الاستمرار في إصدارها''· وبخصوص انتقاله إلى السينما، وما إذا كان ما يزال يكتب الشعر أم أنه استبدل به السينما كليا يقول أمر الله الذي يبدو أنه ما يزال يكتب الشعر ولا ينقله ''لقد كنت مهتما بالسينما حتى وأنا معروف كشاعر في الأساس، لكن السينما بالنسبة لي هي الآن أداة التعبير الأولى، فقد شدتني اللغة البصرية التي أجد أنها عالم مختلف تماما عن لغة الشعر، فهذان شكلان من الفن مختلفان ولكل منهما أدواته، دون أن يعني هذا عدم إمكانية اللقاء بينهما، فكل منهما يستفيد من الآخر، حيث يستطيع السينمائي توظيف الشعر في ما يدعى ''السينما الشعرية''، وكذلك الأمر بالنسبة لاستفادة الشعر من السينما''· نشرات لا جماعات الشاعر إبراهيم الملا، ومن موقعه في جماعة ''النوارس''، وكذلك من موقعه في المشهد الشعري الممتد منذ التسعينات حتى اليوم يدلي بشهادته فيكتب لهذا التحقيق ''لم تكرس النشرات الشعرية التي ظهرت في الإمارات لوجود ممتد ولم تسع لتكوين جماعات أدبية، فمصطلح الجماعة الأدبية يتكئ على مشاريع وأيديولوجيات وأهداف واضحة الخطوط والملامح، والجماعة الأدبية هي صنو قاعدة وتوجهات وأسماء تتواتر وتنجب أصواتا متعددة ومتشابكة داخل المناخ العام لهذه الجماعة· انتفت صفة المشروع الأدبي والجماعة الممتدة عن الأصوات الشعرية الجديدة في الإمارات، بسبب من فورة شعرية مفاجئة تميزت بنقائها وعفويتها وبعدها عن الإدعاء والتضخيم، ولذلك لم يكن لهذا الجموح الشعري أن يخضع لشروط وتنظيرات الجماعة الأدبية· ظهرت النشرات الشعرية في الإمارات مثل أرض بكر ومتاحة لهذا الصهيل الروحي والفتنة اللغوية التي أسسها الداخل الذهبي لكتاب هذه النشرات· الشرارة الأولى لهذه الكتابات أضاءتها نشرة ''رماد'' بمشاركة خالد البدور ونجوم الغانم، وانطفأت في أواخر التسعينات مع نشرة ''الشحاذون'' بمشاركة أحمد العسم وأحمد منصور وعبد الله السبب وهاشم المعلم، وبين هذه وتلك ظهرت بيانات فردية ونشرات مشتركة مثل بيان ''الحماريون'' الذي أطلقه الشاعر الراحل علي العندل في العام 1983 أثناء دراسته في جامعة الإمارات بالعين، ثم ظهرت نشرة ''الأرانب القزحية'' في عددين فقط وشارك فيها علي العندل ومرعي الحليان وعبد الله ماجد بأسماء غرائبية مستعارة هي: ميم الأيلي وشويطحين الأزرق وكامل غريب، ثم ظهرت مجموعة ''النوارس'' في عددين أيضا بمشاركة مسعود أمر الله وإبراهيم الملا والهنوف محمد، وأصدر أحمد خميس مجموعته ''التعاويذ'' دون أن يرصد أحد تجربته حتى الآن· أما نشرة ''رؤى'' التي أسسها مسعود أمر الله أوائل التسعينات فكانت الوحيدة بين هذه النشرات التي تجاوزت العشرة أعداد، واشتغلت في حقول إبداعية تجاوزت أحيانا ما كانت تقدمه الثقافة الصحافية الرسمية آنذاك، واستطاعت هذه النشرة أن تستقطب شعراء وكتابا من الخليج والعالم العربي ودول المهجر· توهج ذاتي ويضيف الملا: كل هذه النشرات كانت صنيعة توهجها الذاتي وهي بنت مرحلتها المسكونة بهاجس الكتابة المختلفة والخبيئة مثل عروق الصحراء· فقد استقبل البعض هذه النشرات باحتفاء وودّ، واستهجنها البعض لأنها خلخلت النمط الشعري المتداول، ووجد فيها البعض استعراضا لغويا ولعبا سورياليا لا أكثر، وفي النهاية فإن منتجي هذه النشرات لم يخضعوا لأوهام أكبر من حجم وتأثير نتاجاتاهم، فهذا التأثير لم يلامس سوى المصابين القلائل بدهشة الكتابة وبكوابيسها الفاتنة، عاش هؤلاء الشعراء حالة من الثمالة والسهر المشترك في العراء المضيء للكتابة، ولكن ما حدث بعد ذلك هو أن عزلة التأملات التي أنتجت كل هذا الشعر السري والفائح باللعنات والجروح، تحولت فجأة إلى عزلة تطاحن وغياب وانقطاعات مرّة، ولم يعد ثمة ما يبهج بعد أن أصبحت الكتابة الشعرية هي كتابة إعلام وإعلان وخيبات معتنى بها جيدا· استمر البعض في الكتابة وتطورت آليات التعبير الشعري لديه، فظهر الصوت الخاص والمنفرد وسط أصوات متشابهة ومستنسخة، وكان هذا الصوت الخاص خارج حماية النشرات المشتركة، وكأنه اتخذ مسارا أشبه بخلاص أنيق وناج من الشرارات والبروق واحتدام الأصوات في حيز ضيق ومتداخل ، بينما ذهب البعض نحو التكرار والدوران الفارغ في ذات الفضاء المبكر للكتابة الشعرية، وانطفأت أصوات أخرى وانسحبت سريعا قبل أن تتوضح معالم تجربتها، وذابت أصوات أخرى في مسارات إبداعية ومهنية مثل السينما والصحافة والغياب القاحل في الحياة· وفي النهاية فإن هذه النشرات، ورغم الملاحظات النقدية الكثيرة المرافقة لتكنيكها الكتابي القائم على الحماس المفرط والتخييل الفائض، إلا أنها كتابات تحتاج لرصد خاص ولمتابعة أنطولوجية، وهي تجارب لا يمكن إلغاؤها من المشهد الشعري في المكان، لمجرد أنها تجارب طارئة وعشوائية، كما لا يمكن تجاهل قيمتها الثقافية والأرشيفية، بغض النظر عن مدى نضج وعمق وتكامل النتاجات الشعرية التي أفرزتها هذه النشرات في زمن حمل معه الكثير من المُصادرة والإقصاء واللبس الثقافي والمزايدات الشعرية المربكة· صياد البحر والمقابر الشاعر أحمد العسم يشعر أنه كان من كبار الشحاتين قبل تشكيل ''جماعة الشحاتين الأدبية'' التي ضمت (العسم، إبراهيم عبد الله يونس، أحمد منصور، عبد الله السبب، وماهر عوبد)، وظل كذلك إلى ما بعد انفراط عقد هذه الجماعة، وهو كذلك حتى اليوم، فهو ما يزال يتعطش إلى ما يمنحه ''صدقة شعرية'' سواء من البحر الذي لا يكف عن مقابلته ومغازلته، او من المقابر التي لا يتوقف عن زيارتها والاستماع بشغف إلى أصوات سكانها· جماعة ''الشحاتين'' كانت، حسب شهادة العسم، حاضنة دافئة وحميمة للشعراء الخمسة الذين شكلوها وكتبوا بيانها بشكل مشترك وقعوا عليه، حاضنة دافئة لكنها تقوم على فكرة مهمة وجامحة، فكرة الاختلاف والتغيير والخروج على السائد في الساحة الشعرية حتى منتصف الثمانينات، حيث كان السائد والمهيمن آنذاك هو الشكل التقليدي والمحافظ من الشعر، وكانت هناك بذور قليلة للتجديد والانطلاق في آفاق جديدة، وكانت الجماعة منبرا لهذا الانطلاق· كان العسم شابا في العشرينات، وكان قد جعل غرفته في بيت أهله صالونا أدبيا للشحاتين الخمسة وعدد من رفاقهم الذين لم يوقعوا البيان لكنهم كانوا يؤيدون الفكرة، فيلتقون عنده، ويقرأ كل منهم نصه الجديد وينتظر النقد الجاد، وربما الحاد، من رفاقه الشحاتين، فيعيدون النظر في نصوصهم قبل نشرها في الصحف والمجلات، لكن العسم يشير إلى خوف الكثيرين من التوقيع على بيان الجماعة، ويشير أيضا إلى أصوات كثيرة ارتفعت محاولة التنديد بهم وبمشروعهم، لكن أعضاء الجماعة ظلوا على مواقفهم، يتباهون باختلافهم وتميزهم وإنجازهم· وهكذا أسهمت الجماعة في تقديم أصوات جديدة، أخذت تتبلور وتستقل شيئا فشيئا، حتى لم تعد ثمة حاجة إليها، فانفرطت· نزق وتمرد وحميمية أما الشاعر أحمد منصور فيتحدث عن تجربته مع جماعة ''الشحاتين'' قائلا ''كنا على يقين بأن أرواحا سائبة وجميلة تتحلق حولنا في المكان، ولأننا كنّا ملفعين بالصمت الذي أخذ ينشر أقماره حولنا كهالات نزق طري، ظننا أن تلك الأقمار ليست سوى هذه الهالات· إلا أننا، وبعد سنوات من سذاجة حب أول، اكتشفنا أن تلك الأرواح لم تكن سوى أحابيل نثرها الشعر خلسة حولنا أخذت تدغدغ أنفاسنا فنقهقه ملء قلوبنا المملوءة بالحنين''· ويضيف منصور عن ذلك الزمن وتلك التجربة إنها ''جذوة كانت، ظللنا نتبعها ونقدحها بالشرر اللازم حين تخبو· وحين نخبو، تلسعنا بسياطها، فنتجمع كقطيع ضال حول موسيقاه· هكذا كنّا؛ شفيفين، ''نشحت'' الكلمة فنصنع منها رغيفا بحجم القمر، نضيء به أيامنا المبعثرة، دون عناية، في غبار الزمن· الرغيف يلد أرغفة، فنوزعها للأحبة والجيران، مترقبين ابتسامة قلوبهم الموشكة على القفز عاليا خارج أسوار الجسد، فلما تفعل، نغمز لبعضنا، فنجري، تسبقنا لهفتنا، إلى خلف الجدران فنضحك كممسوسين وقد تمرغنا في التراب الذي يلامس حتى عظامنا''· ويوضح عنصرا آخر في التجربة فيقول ''كانت عفويتنا، وكذلك كان حبنا للكلمة ولبعضنا· ولما سئمنا من اللامكترثين للحب والموت والشعر الذي اخذ يلعج في فراغ الكون من حولنا، ذهبنا نجوب مسامعهم، مبشرين بلغة جديدة، نحسبها الأجدى لرتق عطب الروح وتقليم حواف الحياة النتنة· لغة جديدة كنّا نسميها كل يوم اسما جديدا يشبه روحها المجليّة كالياقوت· لغة، أذعن لها مريدون بألق رؤاهم المحلقة خارج ركاكة المعنى ورتابة اللغة، بينما رجمها آخرون ووسموها بالشعوذة والهذيان اللامجديين· نحن، ابتسمنا لهم جميعا ومضينا''· ويختم الشاعر أحمد منصور شهادته بالقول ''لأن دروب الحياة، كما الشعر، فاتنة لكنها وعرة وشديدة الانحدار، بدأت تجرفنا إلى مجاهلها وحاراتها الخلفية فأغوتنا في كثير من الأحيان بثغاء مادتها، لكننا، كنّا دوما نؤوب، فقد لامس النور شغاف قلوبنا فتركنا أرواحنا هائمة في أقانيم الشعر وإلفته الدافئة ولم تكن لدينا رغبة في استردادها· وهكذا فـ''الشحاتين'' ، تجربة أثرت توجهنا كما أثرت حميميتنا لبعضنا كمجموعة؛ فأثرها كان كليا بالنسبة لنا؛ كانت كزهرة امتدت عاليا في مقبرة، فأيقنا أنه لا مجال لنا للعزوف عن الحب والشعر وعن بعضنا''· بيان الشحاتين الأول: جرعة جنون·· رغيف تمرد! ''وللسماء زرقة أخرى، لا يدركها إلا البحر· والمطر·· أغنية عتيقة، تتبرعم في نهد التراب· قبيلة من القلق تلملم صور الذاكرة! هي نحن·· نلقي بمرساتنا في بحر الانقلاب· ننفلت، نتمرد، ونطلق صافرة الشتاء· نعزف ترانيم التخلف وتواشيح الهلوسة· وعلى الرصيف، ننسج من التخلف أبجدية·· بطعم الجذر، والملح، والحجر!'' الشحاتون/ ديسمبر 1989م) (1) ''على رصيف الحياة، يجلس (الشحات)· على قارعة الورق، في بقعة صمت: (نشحت) الحبر، فيسرقنا الوقت· نسرق الكلمة·· فتنساب· المداد هائج، والكلمة عاتية· القلم تائه·· بين أمواج السؤال· أدركوني: إني أغرق، وأنتم·· تائهون'' إبراهيم عبد الله يونس/ رحال ـ رأس الخيمة (2) ''في رأسي انشطار، في جمجمتي فوضى، و(شحات)، في أعماقي يتجول· غرباء، وجرح نازف· سندباد غارق·· أحاول عبثا المرور من فوهة تار· لكن شيئا ما·· يحاول إسقاطي· مدينة في أرض الله، لا تسقيها مدامعكم ···'' أحمد عيسى إبراهيم العسم (3) ''البارحة·· الانكسار داهم رأسي، فوضعته على المنضدة· قليل من الصمغ، أسد به وجع الذاكرة· لم يكن في أذني·· سوى مقبرة تسكنها السلاحف وصوت الموت، كان يتدلى فوق الصقيع· البيض يفقس على حصان أعرج· ربما كنت نائما عندما فاجأني الانتحار· ثمة (شحات) يتلبسني ككفن أسود·· أنا، لازلت، أمارس الشعوذة···'' أحمد منصور علي/ غريم ـ شعم (4) وأجيء أنا·· أحمل ذاكرتي المبللة، بالصمت والغبار· المدينة آه، والصمت أنين· في ذاكرتي: شبحٌ أنا·· أهوى التشرد، بين شرايين الوجع· ماردٌ·· أهوى التمرد، على قوانين الغموض راهبٌ·· أهوى التلصص، على ثرثرة الصمت· (شحاتٌ) أنا·· مع مرتبة الجنون والتزأبق· (شحاتٌ)·· مع سبق الإصرار، والترصد···'' أبوفراس/ عبد الله محمد السبب (5) '' وأبحر في خريطة الذاكرة·· رافعا راية سوداء وجمجمة· مستعيناً بكل الخرافات·· لآزهق روح الكلمة، وأذوق طعم الانتصار· فأنا·· لست متسولاً، لأسكن هذا الحصا · (شحاتٌ)، أبحث في جيبي عن صدقة···''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©