الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعراء في دولة السواد

شعراء في دولة السواد
23 ابريل 2014 20:02
قوس الخلود كان حكراً على «لا أحد»، فقد اجتاز رحلته إلى وعيه مجردا من اسمه، ومحتفظا بحسه، في نص ديناميكي مشتعل باتقاد ذهني، ومتجرد من زغللة في العينين تؤدي في كثير من تفسيراتها العلمية إلى مراوحة بين العمى واللاعمى، فيما يشبه الهلوسات البصرية.. والهلوسة البصرية هنا تشكل نظاما حسيا واعيا وإراديا عند جيمس جويس، فعوليس كان يعيش تراكما لمغامرات واقعية تحفزها مخيلة مضمرة في بصيرة جويس، الذي برع برسم ملامح الرحلة بعين سرية تعينه على حاسة الكتابة عن «لا أحد»، وهو الاسم الحركي لبطل المخيلة، الذي تنكر به، ليعرف عنه. قوام الوعي البصري عند جويس كان يرتكز على الحركة، انطلاقا من بؤرة ثابتة هي الظلمة التي تكاد لا تحس بها إلا في حالتين: الأولى: أن عوليس استعان براءٍ كفيف يرشده ويعينه على رحلته، وهي استعانة ذكية تدلك على البعد الحقيقي للرحلة، وهو البعد النفسي الذي يسعى إلى اكتشاف الحكمة والمضي إلى الخلود الذي بتخطي الحاجز الزمني، طالما أنه لا يسعى لإدراك المكان والعودة إليه بقدر سعيه إلى استكناه مضمون الرحلة لأنها تسبق الرحالة بأشواط إلى ذاته، ولذلك تحديدا كان الدليل كفيفا، فهو لا يحتاج إلى الوصول، كي لا يقع في فخ ظلمة مغلقة، وسكون مطبق، إنما يحتاج إلى من يغمض عينيه كي يحس بالطريق دون أن يضطر لرؤيتها... هناك إذن مجهود نفسي مبذول في سبيل معرفة بوعي اكتشافي، وليس بوعي بيولوجي. الثانية: أن عوليس فقأ عين الككلوبوس، وأقر له باسمه الحقيقي، ليكون العماء فعل انتقام، فأن يحرمه عوليس من بصره يعني أن يزجه في ظلمة مرتدة، ويمد له خيطا واحدا من نور هو اسمه الحقيقي...فيصبح العماء هنا أقرب إلى التشوه والتيه... وبين ظلمتين، يخرج جيمس جويس من رحلة عوليس بحاسة سادسة هي اللغة!. راعي الليل يقول الأعشى: نام الخلي وبت الليل مرتفقا أرعى النجوم عميداً مثبتاً أرقا هنا أو هنا، مسافة فاصلة بين الأعمى وعينيه، هي النص، الذي يقطعه الشاعر بعكازة ذهنية موشومة بيد من حبر ودم، فريشة الكتابة هي المتعكز المجازي على المسالك الوعرة في أخاييل الصورة المتخيلة، والعماء هنا ليس حقيقيا بل مجازيا، بمعنى أنه متشكل من حالة نفسية أو ذهنية، تشحن النص بطقس العمى، الذي يعزل صاحبه عن محيطه ويحيطه بالسواد والاكتئاب والخوف الناجم عنهما، فرهبة العتمة تتدفق من الذات وتنصهر في وحدة الزمن الليلي، لتعبر عن مكنون عاطفي داكن، ومنغلق وجدانيا لكنه يتيح للشاعر أن يتناص معه في مجال تعبيري ممتد.. ألا يمكن لامرئ القيس إذن أن يرعى الليل؟! ليله، مستقر ضمن جيشان عزلته، والعتمة التي تنطلق من داخله، في ذروة فوراتها العاطفية، هي التي تحيك نسيج الزمن الأعمى، وتلبسه حلة من السواد المائج، بالتالي فإن الشاعر يرى عتمته في مرآة سوداء هي الليل، في ذات الوقت الذي يرعى فيه الليل بعكازة اللغة... الدلالة في ظل هذا التعاتم المتبادل بين الحلكتين، مفتوحة على تأويلات نفسية مركبة تجعل من هذا الوحش إنسانا يسترحمه امرؤ القيس لكي ينأى، في حين أن الصبح يتساوى في العتمة النفسية مع الليل عنده، إلا أن المبالغة الإبداعية كانت شرطا فنيا وسيكولوجيا للتدليل على الحالة الوجدانية.. وليل كموج البحر أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكلِ ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل فيا لك من ليل كأن نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل التمطي فعل غيظ ومكيدة زمنية يبرع الليل بها، كي يفاقم من هم المهموم، كأنه يتسلى به، (فرب ليل) الضمنية في الواو الابتدائية، تشبع كظائم اللغة، وتجعل من ماقت الغيظ راعيا له.... لم يكن امرؤ القيس أعمى، ولكنه اختصر عينيه في حلكة بلا عينين، كي يرى ما يراه الأعمى، بعكازة المجاز حين تضمحل الحقيقة، وتثب المخيلة.. نظارات قمرية معانيك شتى والعبارة واحد فزندك مغتال، وطرفك مغتال هكذا يرى المعري الأمر: اغتيالاً! جريمة اغتيال الطرف في هذا البيت هي الجريمة التي فرّغت المداليل على اختلافها في عبارة واحدة، مما يعني أنها جريمة إبداعية بامتياز، وأثر ارتكابها يعود بالنفع على الضحية طالما أنه يثري الدلالة، وكلما اتسع المعنى ضاقت العبارة، فلا ضير إذن! عند بن برد، هنالك تحد لانحسار الأفق الإبداعي في العتمة، دون تغريب النص – جماليا – عن واقعه، الذي ربما يزخر «بعذابات الظلمة»، ولكنه أبدع في ترويضها، وحولها إلى فلتات بصرية حادة.. يقول بشار بن برد: عميت صغيرا والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم معقلا ابن برد، قناص العيون من قصيدة جرير «إن العيون التي في طرفها حور/ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا»، لا يضطرك للمراهنة على فهلوته الإبداعية بارتداء نظارات قمرية، ليس تجنبا لرؤية القمر بل هو إدراك جمالي لاستيعاب الصورة المتحركة بعين قمرية: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه إن ثقة بن برد بعمائه هي مراهنة صريحة على إبداعه، فبصيرته مصدر قوته: وعيّرني الأعداء والعيب فيهم وليس بعار أن يقال ضرير إذا أبصر المرء المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير بشار الذي استعاض عن البصر بالبصيرة، استرد عينيه، ليس فقط بحاسة الوعي بل بمرونة تقمص الحاسة المفقودة بالحاسة الموجودة: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا ولهذا لم ير سوى شيئين في حياته هما: الوعد والأمل!. العالم في داخله، وليس في خارجه على طريقة بورخيس، ومن هذا المكنون يستدل على عناصر الخارج، فحبيبته «بيضاء صافية الأديم» وخلقت من جلد لؤلؤة/ ولها مضحك كثغر الأقاحي وحديث كالوشي وشي البرود... وما يزيد على هذا سيدلك بالضرورة ليس على عيني بن برد بل على نظاراته، فمن خلالهما فقط تعرّف إلى عينيه... حضن الظلام الظلام كائن عزلوي بطبيعته، ولكنه عند السياب كائن ألوف، اجتماعي، أمومي، فهو «يحتضن العراق»، فكيف يكون الحضن قبرا فيما بعد؟ يقول السياب في قصيدته (الليل): (لم يبق صديق ليزورك في الليل الكابي والغرفة موصدة الباب).. في حقيقة الأمر انغلاق الباب «كعنصر مادي» قد يكون حائلا يمنع الزيارة، أما الليل فلا، لكن الشاعر يصر على حصر الزمن في غرفة مغلقة، ليوائم بين جمودين: المكان والزمان، كأنها نهاية اللعبة الصاموئيلية للأعمى الجالس على كرسي متحرك ضمن زمن متوقف، وهو انفعال إبداعي متشح بالسواد، فالسياب في قصيدته حاور أمه واستمع إليها كأني به يرثي نفسه على طريقة مالك بن الريب، مع فارق بسيط أن رثائية السياب هي رثائية كفيفة، لأنها لم تتجاوز العتمة، ولم تر من ثقب الباب الموصد سوى عين المقبرة... إنه يلتقي مع امرئ القيس بالطقس: العزلة، الاكتئاب احتشاد الهم، الوحدة، والتشاؤم أيضا... وكلها ملامح نفسية ثقيلة لحالة سوداوية يستلذ الشاعر بالاستغراق فيها كي يشبع حاجة عينيه للعتمة كسبيل للخلاص من الألم.. أي أنه يتخفف من حمله «العتمة» بالحاجة إليه... كثر هم الذين كُفوا، وانضموا لدولة السواد التي منحتهم حقوق المواطنة فيها برتبة مبدعين... فكرمتهم لرتبتهم هذه، وقد نجحوا بتحويل حاسة البصر بلمحة بصيرة إلى حاسة احتياطية فقط، ما دام الجمال لا يُرى بالعين، ولكن بمجهر المخيلة، على هيئة (هاكرز إبداعي) يخترق الحلكة، ويسبر أغوار العزلة السرية في الوجدان الشعري، ليختطف عين المبدع الثالثة: اللغة!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©