الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بلاغة الطين...

بلاغة الطين...
23 ابريل 2014 19:24
في تسالونيكي اليونانية، وعلى ضفاف بحر إيجه، يقام ومنذ ستة عشر عاماً مهرجان خاص بالسينما الوثائقية، مرجعيته الأولى المهرجان العام للسينما الذي تنظمه المدينة منذ ما يزيد على نصف قرن، ولهذا السبب يتمتع المهرجان «الصغير» بذات المستوى الراقي، والانضباط المهني لدرجة يعده البعض من أفضل المهرجانات المختصة، وبسبب قربه من البلقان فهو يخصص لها حيزاً كبيراً، وتحضر السينما العربية المجاورة، بأفلام ومشاركات جيدة كما لاحظنا في الدورة الأخيرة حيث وزعت وثائقيات عربية على البرامج الرئيسة فيه، منها: «ميراث» للبناني فيليب عرقتنجي، «مصنع البلطجية» لمنى عراقي، «العودة الى حمص» للمخرج السوري طلال ديركي، «قتلها تذكرة للجنة» لليمنية خديجة السلامي و«كل يوم تمرد» للأخوين رياحي و«طعم العسل» للسوري المقيم في سويسرا مانو خليل. قيس قاسم حضرت في المهرجان أيضاً، وثائقيات أجنبية كثيرة تناولت القضايا العربية كـ «أغنية يوسف» لليوناني كوستاس بلياكوس، وللفرنسي أكسيل سالفاتوري سينز عرض «شباب مخيم اليرموك»، «ودوي الرعد في بغداد» للمخرج جون بييركريف. أما سينمات العالم فتكاد تحضر كلها عبر عينات من إنتاج يتوزع على القارات، وبمجموعها يمكن تلمس مستوى الدورة ومقدار نجاحها في لَّم أهم ما أنتج خلال سنة كاملة وحظي بمشاركات عالمية مثل فيلم «الصورة الضائعة» الفائزة بجائزة مهرجان كان السينمائي. حروب طاحنة المعاناة والحرمان نتيجة الحروب والصراعات الأهلية قُدمت في أكثر من وثائقي في الدورة من أبرزها كان منجز السوري طلال ديركي «العودة إلى حمص» الذي يسجل فيه يوميات الحرب في المدينة عبر شخصيات حقيقية، تحركت أمام كاميرته دون افتعال فأعطته الكثير من الحيوية والمصداقية، استحق عليها الكثير من الثناء النقدي والجوائز، فيما يركز السوري مانو خليل على شخصيته المؤثرة التي اختارها بذكاء ليعرض من خلالها معاناة الشعب الكردي، وهجراتهم الإجبارية إلى كل جهات الأرض. لا يلمس حدة الصراع القومي في تركيا مباشرة بل وبحذاقة يحيل دماراته على المستوى الشخصي والفرداني عبر تجربة مربي عسل انتقل مجبراً إلى سويسرا وهو لا يعرف عملاً، غير هذا. في هذه البلاد التي لا يعرف لغتها تُعامل مهنته كهواية، ولهذا فقد ما كان يرتزق منه ويحبه، وذهب للبحث عن عمل رتيب لا علاقة له به. كان مانو محظوظاً بالشخصية التي توافرت عنده وكان حريصاً بدوره على عدم ضياعها أو جرها الى مواضيع سياسية مباشرة تضيع أهمية ما يملك: العفوية. ما أنجزه مانو في «طعم العسل» والذي سبق له أن عرض في مهرجان دبي جيد بكل المقاييس التسجيلية. أما خديجة السلامي فتأخذنا في فيلمها الوثائقي «قتلها تذكرة للجنة» إلى قضية الصحفية بشرى المقطري وإصدار بعض علماء الدين اليمنيين فتوى بسفك دمها بسبب مقالة كتبتها ادعوا تحاملاً، أنها تسيء إلى الذات الإلهية. في التفاصيل الصغيرة لما بعد نشر المقالة وردود الفعل المتباينة عليها تتكون صورة واضحة لطبيعة الصراع السياسي الاجتماعي الذي تعيشه البلاد ما بعد «ربيعها» الذي لم يأت حتى اللحظة بما كان يحلم به من أطلق شرارته الأولى. وعن بعض نتائج «الربيع العربي» تقدم لنا المخرجة منى عراقي، في «مصنع البلطجية» عينات مخيفة من الشباب المصري، يعيشون في العشوائيات يمتهنون السرقة والمتاجرة بالمخدرات وكل ما تعنيه لهم الثورة المصرية: فرصة للهروب من السجن والذهاب إلى ساحة التحرير لسرقة «ثوراها». هل هؤلاء هم نتاج 25 يناير أو ما قبلها؟ هذا السؤال اشتغلت عراقي للإجابة عليه عبر معايشتها لنماذج حية لم تجد في النظام السابق إلا طغمة من الفاسدين، ما أن يغتنوا حتى يختفوا عن أنظارهم ويعيشون في عوالم بعيدة، وكأنهم خارج البلاد فيما تظل أحياؤهم فقيرة ومغرفة في البؤس، وكل ما ينتظره الشعب في تغيير لا يلتفتون إليه ولا هم معنيون به في الأساس، لأنهم بكل بساطة فقدوا كل أمل في حياة سوية وما اختاروه في حيواتهم لا يتعدى كونه أفعالاً انتقامية، خطيرة لا تفضي إلا إلى عودة ثانية إلى السجون التي هربوا منها أو إلى نهايات أسوأ، أحاديثهم عنها أمام الكاميرا تفرض على المشاهد أسئلة، مثل: إلى أين ستمضي ثورة يونيو وهل ستحل بالفعل مشاكل فقراء الأحياء العشوائية والكائنات المحشورة داخلها؟ الزمن الضائع على مستوى المشاركات العالمية المهمة قدمت الدورة فيلم ريتي بان «الصورة الضائعة». في هذا الشريط الوثائقي الآسر يستعيد مخرجه تاريخه الشخصي عبر استذكاره لتجربة عائلته التي لاقت صنوف العذاب على أيدي جلاوزة بول بوت. يتساءل (بان) بمرارة وبإلحاح عن صورة ضائعة!؟ سؤال محير، حين يتعلق الأمر بمخرج سينمائي قادر على خلق مليون صورة؟ ترى هل كان يبحث عن صورته أم صورة بلاده كلها وقد ضاعت مثل أرواح ملايين الكمبوديين خلال حكم «الخمير الحمر» إبان سبعينيات القرن الماضي؟ عن صورة طفولته المعذبة وهجرته المبكرة؟ أم صورة عائلته التي خسرها ولم يعد أمامه من حل سوى استعادتها بالذكرى أو بفيلم وثائقي أفضل عنوان يمنحه له «الصورة الضائعة»؟ فالفقدان والصورة يمثلان ثنائية جدلية تستحضر كل منهما الأخرى، تحفزان بعضهما للحضور في الذهن كلما أراد المرء استذكار ماضيه وحنينه إلى الأشياء التي افتقدها ومحاولة استعادة تفاصيلها بما يشبه تشكيل جديد لصورة «ذاتية الأبعاد» ليست بالضرورة أن تكون صورة فوتوغرافية أو سينمائية بل يمكن لها أن تكون صورة طينية هي خليط من الماء والتراب وهذا الاختيار قد يقربنا من فهم فكرة توظيفه نماذج بشرية، «فيغرات» جسدها بتماثيل مصغرة من الطين كتلك التي يصنعها الأطفال في كل الدنيا ليحاكوا بها الواقع المحيط بهم وليقارب هو بدوره بها بين طفولته في (فنوم بنه) وبين رؤيته لفترة أراد سرد تفاصيلها بتلك الوسيلة البعيدة عن «أدواته» التصويرية كسينمائي/ وفي هذا مفارقة تسترعي التفكير في قدرة الوثائقي على إعادة توثيق العوالم الواقعية بمادة تشكيلية مختلفة عن المادة البصرية الخام، دون الركون التام بالضرورة إلى الصورة المؤرشفة أو المصورة مباشرة. آلاف النماذج الطينية رُكبت لتشكل مشاهد سينمائية تسرد سنوات «الجحيم» التي عاشها الشعب الكمبودي خلال فترة حكم بول بوت وارتكب خلالها أبشع جرائم الإبادة البشرية لأسباب أيديولوجية بحتة، كرست بسبب من فكرة الاستبداد الجوهرية في داخلها، القمع وسيلة اخضاع وحيدة لشعب منكوب بالفقر، حلم وصدق في أول الأمر ما ادعاه «المنقذ» الماوي الجديد من أفكار تخاطب رغبته في تجاوز واقعه السيئ إلى العيش في حياة هانئة وكريمة. بلاد للقمع عبر صوت (بان) وهو يحكي لنا قصته، سنستعرض تاريخاً مخيفاً عاشه في طفولته وظل عالقاً في ذهنه، وسنستعيد عبر «نماذجه» الطينية تجربة والديه اللذين حكم عليهما بالزج القسري في معسكرات «إعادة التأهيل الثقافي» ليموتا فيه جوعاً. أي مصائر مروعة يحكيها لنا المخرج في فيلمه الشخصي، وأي وسيلة مؤثرة يستخدمها ليقرأ مراحل من تاريخ بلاده؟ أي ذكاء متقد يطوع به خامات الطبيعة ليصبح سلاحاً فكرياً شديد التأثير، يستعيض بها عن «الصورة المفقودة» بأخرى «طينية» ليست أقل إقناعاً عن تلك التي ضاعت أو ضُيعت لعقود وسكت العالم عنها، لكنها لن تنسى بالكامل ما دامت هناك ذاكرة حية متوقدة قادرة على سرد ما جرى ولو بعد عقود. أذكى ما في فيلم «صورة ضائعة» أنه يحاكي الواقع/ الماضي بصوت طفل/شاهد بريء يقول بعفوية كل ما كان يشعر به ويسرد بذات النبرة الحزينة بعض ما كان يسمعه من الأقربين ولهذا جاءت شهادته قوية، مقنعة، لأنها غير محملة بأفكار مسبقة. إنه يحكي ما جرى بلغة شعرية عذبة متسلسلة تاريخياً تبيّن الفرق الشاسع بين ما كان معلناً وطموحاً وما آلت إليه الأحداث على الأرض. فالخمير الحمر جاءوا متسلحين برصانة فكرية وبحماسة الاشتراكيين لبناء وطنهم المثالي لكن مسار حكمهم قاد الناس إلى تعاسات لم يشهد التاريخي البشري المعاصر مثلها إلا ما ندر، وبحكم ديماغوجيتهم سيمضون بالبلاد الى فقر مدقع واستبداد سلطوي منفلت راح ضحيته أكثر من مليون مواطن. لقد صنع الخمير الحمر تاريخهم الدموي الخاص بتفوق حتى على ملهميهم الماويين، ويشهد التاريخ لقائدهم بول بوت بأنه من أكثر الديكتاتوريين قسوة، نتلمسها حية أمامنا ونحن نتابع ما صنعه مخرج من تلك البلاد الذي هُرّب إلى خارجها طفلاً ليعيش في فرنسا، ويدرس السينما فيها وليعود وقد بلغ سنوات الحكمة، ويستخدمها وسيلة إبداعية يسهم عبرها في كتابة جزء من تاريخ بلاده.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©