الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البدية.. شاهد على التاريخ

البدية.. شاهد على التاريخ
23 ابريل 2014 19:23
هنا البدية: البحر من الشرق ينشر ألواحه ويلقي بمراكبه المثقلة بهموم بحارة عاهدوا أهلهم من قديم الزمان على أن لا يتركوا البحر يتيماً، وأن يعودوا منه بما يسد رمقهم وما يقتل جوعهم وما يزين جيدهم بلؤلؤ مكنون. فالجبل من الغرب يمد ذراعين طويلتين كأنه يبتهل للسماء أو هو يأخذهم بين أحضانه ويقيهم شر غبار قادم من صحراء تختفي خلفه، والنخل يطلع من بين الأرض التي لا يغيب عنها ماء والشجر بأنواعه يهب لهم الفواكه ويوفر لأغنامهم ودوابهم مراعي تمتد على السفوح وتحتها. إنها مزيج بين الجمال والتحدي والانتصار على الطبيعة وتوظيفها كيفما شاؤوا لها أن تكون، فلم يرضخوا لها أو يتركوا مضاربهم ليذهبوا بعيداً لأنه ثمة سرّ يأخذهم إلى أبعد مما تراه العين أو تقف عنده حدود النظر. هو الزمان يفعل فعله فيهم فلا يتركهم يذهبون، وهو التاريخ يعيد صياغة الأشياء من حولهم، ويدفعهم إلى العمل وحب الأرض وما عليها والبحر وملوحته والجبل وفتوّته وجبروته وصموده مخترقاً الزمان والمكان في آن. الأودية الكثيرة تلف عنق البدية وتروي ظمأ أهلها ومزارعها ودوابها، وربما أخذت البدية اسمها من أحد هذه الأودية (وادي البدي) أو (بئر البدي) والبدي في العامية الإماراتية هو الماء، فمن الماء استحوذت القرية على الاسم الذي بات عنواناً لها عبر الزمان، إذ أن الأهل قديماً كانوا يبحثون في المكان عن أمن وأمان وارتواء من عطش القيظ، لذلك رفعوا أوتاد خيامهم عالية حيث الاطمئنان والهدوء والسكينة والكلأ والخير للإنسان والحيوان... لقد كان بوسعهم أن يختاروا، لأنهم غير مرغمين كما هذا الزمان على الإقامة اضطراراً لا اختياراً في مدن عالية تحتاج إلى مصاعد، فلم يكن يزعجهم ضجيج ولا فوضى ولم يكن يتملكهم خوف من غرق من ماء قد يرمي بديارهم في البحر، لم يكن خوفهم إلا من غزاة أتوا ليبسطوا نفوذهم نظراً لما يحتله المكان من أهمية استراتيجية، فهو ملاذ التجار من كل فج عميق، ولأنه كثيراً ما كان العمران في الأزمنة الغابرة مرتبطاً بالقوت، كان البحر يمثل مصدراً مهماً للحياة، هذا البحر الذي وهب أبناء الإمارات اللؤلؤ والسمك والعابرين بين المحيطات والغزاة والرحالة والتجار من شرق الأرض وغربها، ولكنهم تركوا الأرض والحجر والبحر لأهله ومروا تاركين رؤوس أقلام مدونة عن زمن مضى ولن يتكرر. شواهد الحجر البدية التي تقع بين الفجيرة ودبا كانت من المناطق الآهلة بالسكان منذ القدم، وآثارها شاهدة على عمق امتدادها ومدادها، وما تبقى من معالمها يشير إلى أن العتيق لا يمحي أمام أول قطرات ماء أو تذهب ريحه بمرور الزمان، لذلك لا تزال القلاع والمساجد ماثلة عالياً وبعيداً، مشيرة إلى أن هذا الماضي يمثل بكل تفاصيله وفي كل الأحوال سياقاً ونسقاً لا غنى لنا عنه اليوم لفهم حاضرنا والإبحار في مجالنا ومنظومتنا، وعليه، فلا يزال الأهل الطيبون البسطاء في البدية يفتخرون بماضيهم وإن لم يعش بعضهم تفاصيله إلا في كتب التاريخ، ولكنه في كل الأحوال صورة طبق الأصل منهم، ولذلك تمسكوا إلى يوم الناس هذا بصنائع الأجداد ورفعوا لواء العمل كما أسلافهم في البر والبحر غير عابئين بقساوة الطبيعة وصعوبة العيش في ذاك الزمان. ومع أن القرية الماثلة بين البحر والجبل تعيش اليوم على وقع الزراعات السقوية ويعلوها نخيل يخاتل الصخر والماء إلا أنها كانت قلعة وحصناً ومسجداً وأبراجاً عاتية تركها الغزاة القادمون نحوها من كل حدب وصوب. وهي من العلامات الفارقة في التحولات التي عاشتها المنطقة والتي لا غنى للباحثين والدارسين وسكان البدية جيلا بعد جيل من العودة إليها واستلهام العبرة من شواهدها الماثلة التي لم تذهب أدراج الرياح أو يأتي ناحيتها تلف أو نسيان عبر الزمان.. ولعل أكثر المؤثرين الأوائل فيها كانوا من البرتغاليين القادمين للسيطرة على مضيق هرمز ومنافذ التجارة بين المشرق والمغرب، فالشواهد التاريخية تشير إلى أن البرتغاليين بنوا فيها الأبراج العاتية والقلاع الحصينة ليطلوا من خلالها على بحر بارد، عاجٍّ بسفن العرب والعجم وهم ينقلون بضائعهم ويتنقلون في مياهها العميقة، وحذوها، بأمر من الغزاة الذين رابطوا في أعالي ديارها ومرابعها، فبحرها غني بثروة سمكية نادرة الوجود في المنطقة كلها، ولعل ذلك ما ساعد على الاستقرار في هذا الجانب من خليج العرب، فالبدية التي جمعت الصخر بالجبل تطلع من بينهما كحديقة مزركشة بألوان شتى تلقي بظلالها على كل ما حولها، فلقد كتبت صفحاتها المشرقة من تراب الأرض الذي استوطنه سكانها الأوائل الذين تجمعوا حول الماء المنحدر والذي يسيح فيها وحولها، ماء منهمر كالقصيد يشدو بأروع الأغاني الأثيرة على النفوس، ويشحذ العزائم لتبحر في الفعل بلا توقف أو كلل أو ملل أو خوف من مجهول. تحتضن البدية الجبال الرمادية الممتدة في سلسلة جبال عمان التي لا تهب غير الماء المنهمر، الجبل قاعاً صفصفاً لا تنمو بين صخوره غير أشجار متفرقة كأنها تشير إلى أنه ثمة في الأكمة ماء أعلى أو أن بين هذا الصخر تراب يهب حياة للأخضر، ولولا الماء ما كان لينبت بين الشقوق أخضر. جبل طالع في الأرض كحد السيف، ربما لم يهب لها غير الدفء من صقيع التيارات البحرية الباردة في خليج العرب، هذا البحر الذي كان مسرحاً لتنافس شرس للسيطرة على تجارته واحتلال معاقله ومعابره الممتدة، ولعل ما ساعد البدية أكثر أنها اختارت منبسطاً ينحدر منه الزلال فيسقي الأرض ويوفر الماء العذب ليطلع الزرع والشجر سامقاً نحو السماء البعيدة، فالأهل الكرام على هذه الأرض حصدوا من وراء ذلك منتوجاً وفيراً وربوا المواشي وعاشوا في سكينة قل أن تجد لها نظيراً. قرية الوادي كان وادي الوريعة ولا يزال يتهادى بمائه العذب بين صخرها ليعطيها من دفقه ما أعطته إياه شلالات جبالها، وكذا أودية الأحمدة وحصي ونمدير وخسارة والطرف، ومع أن مصبّات بعضها في البحر مباشرة إلا أن وادي الوريعة بات سداً منيعاً يجمع ما لا يحتاج إليه الأهل إلا حين ينضب المطر، أو يعطش الزرع، أو يجف يباب، ومع أن بعض الأودية توقفت عن السير بين أحضانها إلا أنها تجد فرصة في التجاوز أحياناً، وتنتظر عطف السماء لتعيد رسم طريق الوادي ومجراه. تقرأ في وجوه الناس حالة نادرة من السكينة والفراسة التي ربما وهبتهم إياها الطبيعة على مر العصور، فلا يزال بعضهم يسمي قريته التي باتت مدينة ممتدة بالوريعة تيمناً بالوادي الذي يعتبر صاحب الفضل الأول والأخير عليها، وفي هذه التسمية ما فيها من معنى ومبنى، لأنها ببساطة تحيل إلى صاحب الفضل الكبير عليها دائماً، ولكن بئر البدي الذي ربما كان وراء تغيير اسمها الحقيقي في شهادة ميلادها في هذا الزمان، هكذا يقول بعض العارفين من أهلها الذين يتميزون بذكاء نادر وحافظة عجيبة تحتفظ بالكثير من القصص والحكايات النادرة والطريفة وحتى الأساطير التي تؤرخ للمنطقة بكل تفاصيلها الدقيقة، إنهم مغامرون كما يقولون، ولكن لذة هذه المغامرة وهبتهم الكثير من التحدي ودفعتهم وتدفعهم إلى الإنجاز بلا حدود، فهم يتذكرون فضل الأودية والجبال والبحر عليها ويشكرون الرب الذي وضعهم بين بيئات ثلاث اجتمعت لتلون حياتهم بألوان شتى وتهبهم ما يريدون بلا مقابل غير عرقهم المنساب على الصخر في لوحة نادرة الوجود تؤكد عزائم الرجال الغطاريف الأوائل. مسجد البدية يتوسد مسجد البدية الجبل، ويرجح العارفون أنه من أقدم المساجد الموجودة إلى الآن في دولة الإمارات، مع أن بعض المصادر تذهب إلى القول إنه تم العثور على آثار مسجد بني أقدم منه في مدينة العين كما يذهب إلى ذلك الباحث كمال يوسف حسين الذي أمضى نحو ثلاثين عاماً في المتابعة البحثية الميدانية إذ يقول في موسوعة (مساجد الإمارات): «من المتعارف عليه تاريخياً أن أول مسجد في الإمارات هو مسجد البدية في إمارة الفجيرة، لكن البحث الأخير في الموسوعة أثبت أقدمية المساجد الموجودة في المنطقة والعائدة إلى صدر العصر الإسلامي، حيث توجد آثار أول مسجد في الإمارات في مدينة العين»، ومهما تكن نتائج هذا البحث إلا أن مسجد البدية لا يزال ماثلا إلى يوم الناس هذا حيث اندثرت كثير من المساجد، وأصبحت أثراً بعد عين، وبفضل ما يلقاه هذا المعلم الديني من اهتمام موصول يرفع فيه الأذان مدوياً إلى الآن ويأتيه الزوار والمصلون من كل مكان للقاء ربهم الأعلى وللإطلاع على عمارة نادرة ومنظر يرسخ في العيون ويثلج النفوس بإيمان يعمر القلب بالحب والسكينة والطمأنينة التي لا يفعل فيها عصر الكونكريت ولن يستطيع. مسجد البدية الماثل على الطريق يقف قبالة البحر وتحت الجبل ويدعو المصلين إلى الصلاة في أوقاتها المحددة، يقال إنه بني من طرف عثمان إبن أبي العاص على شكل مربع متساوي الأضلاع تبلغ مساحته حوالي 53 متراً مربعاً، وهو مشيد من مواد محلية صرفة من حجارة البازلت بأحجام مختلفة، وله قباب حلزونية، وقد تم استعمال الطين المحروق كمادة رابطة في البناء وسقفه بقباب أربع تستند في وسطه على عمود واحد، إذ يمثل شكلا معمارياً فريداً من نوعه، وقد حدد تاريخ بنائه استناداً على نتائج دراسة حديثة أجرتها إدارة التراث والآثار بالفجيرة بالتعاون مع جامعة سيدني الأسترالية عند التنقيب الأثري في تسعينيات القرن الماضي وبعد التحاليل الكيمياوية بواسطة كربون 14 المحددة للتاريخ الزمني ثبت أن مسجد البدية تم بناؤه سنة 1446 للميلاد تقريباً. وقد قام الباحث الإماراتي ناصر العبودي بدراسة آركيولوجية حول المسجد قبل التنقيبات الأسترالية نشرها في كتابه الموسوم بـ «مسجد البدية» وتعرض فيه إلى أهم التغييرات التي طرأت على المعلم الذي يمثل مكان عبادة متناولا كل جزئياته الدقيقة. تاريخ عريق البدية التي يعود تاريخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد لا تزال شامخة بآثارها العاتية التي تركها كل من مر عليها عبر العصور، والمؤكد أنه كان للبرتغاليين دور بارز فيها من خلال تشييد القلاع والحصون التي عرفوا بها على مر التاريخ، لكن مسجد البدية يشير دائماً إلى الحقبة الإسلامية التي بقيت حية على الدوام متمثلة في دور العبادة التي كانت ولا تزال ملتقى للمسلمين، وستظل كذلك على مر الزمان، والتقاء المسجد بالحصن والقلعة دليل على التسامح والتعايش الذي كانت عليه قرية البدية منذ قرون، فليس من السهل أن يبقى هذا وذاك في زمن كانت فيه المنطقة مشتعلة بالصراعات والأطماع، ولكن للبدية قصة أخرى قصة تجمع بين الإسلام وما رافقه من غزاة لا علاقة لهم بهذا الدين. تشير المصادر التاريخية أنه في العام 1623م، وهو تاريخ استيلائهم على القرية حسب الوثائق البرتغالية، إلى أن أهل القرية كانوا يعيشون في بيوت بسيطة مغطاة بسعف النخيل وجوز الهند، وكان عدد سكانها آنذاك يقارب المائتي نسمة، وهو رقم مهم في تلك الفترة باعتباره يقيم الدليل على أنه ثمة حياة وخصوبة في هذه المنطقة، وبأمر من القائد البرتغالي روي فرير دي أنداري أنشأ ماتيوس دي سيبرا حصن البدية المخصص للحماية، كما يشير البرجان المتبقيان إلى حد الآن على ظهر الجبل مع بقايا برجين في طريقهما إلى الاندثار إلى أن المنطقة كانت محل أطماع واستقرار للوافد الاستعماري الذي اتخذها لعقود طويلة مرصداً بحرياً يطل من خلاله على كل ما حوله في المياه البعيدة. وهذه الشواهد التاريخية تشير إلى أن البدية كانت دائماً مستقراً ونبضاً يتقد حياة وفعلا في الزمن، وهي اليوم تلتفت إلى ذلك الماضي بعيون فاحصة، لتقول للعابرين: نحن هنا منذ قرون، وسنظل هنا والجميع عابرون، إنها قصة بديعة في التحدي والعمل والإنجاز تراوحت سطورها بين البحر والصخر والأخضر المنثور بين جنباتها، واحة وحقلا وارف الظل يهب التمر والمرعى والفاكهة اللذيذة، ويشير من أعلى التل بأن هذا الماضي التليد لا يزال يعشش في صدور أهلها مثلما اتخذوا البدية عشاً وسكناً، ومثلما عضوا بالنواجذ على تراثهم وماضيهم الذي لا يزال يتجلى عبقاً في فضاءاتها وبين صدور أهلها. البدية قصة حب وليس أي حب، قصة انتصار وليس أي انتصار، قصة تحد وليس أي تحد... ترى الشمس على عواهنها مشرقة في البر والبحر وناثرة ورودها وجدرانها الباقية بين سطور الحكاية لكي تكون عبرة للوالد والولد، شاهدة ومشاهدة، حانية ومتوثبة، قانية حيناً وخضراء في أحايين كثيرة، ممتدة في البر والبحر والصخر والزرع حقلا ومركباً وتلاً وماء وشراعاً، وهي تقرأ كتابها المفتوح على كل الألوان والمضرج بعرق البحارة والكادحين والمزارعين الساكنين قلب الأرض دون خوف من إعصار أو عرمرم يرميهم بسيل جارف، فهي تكتب على مر الزمان قصة بديعة أبدعها إنسان البدية، هذا المتمرد على الطبيعة والمطوع لها كيفما أراد، غير عابئ بالموج والصخر الكبريتي وحشاشة جبل أمرد متمرد نابت في الأرض كصخرة صماء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©