الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موسيقى العواطف غير البريئة

موسيقى العواطف غير البريئة
16 يونيو 2010 21:18
يقولون إذا أردت أن تعرف بلدا ما، فعليك بموسيقاها، ذلك لان الموسيقى هي لغة عالمية وغذاء للروح، ومرآة صادقة لتطور ثقافة وحضارة أي مجتمع، لكن أهم ما في موضوعنا هو قراءة نمط العلاقات السائدة في فترة ما وأثر ذلك في ازدهار الفن الموسيقي وبخاصة الكلاسيكي منه. عندما يشعر أي فنان بأنه جزء من تراث بلده، وأن الحاجز بينه وبين أصحاب القرار غير موجود، عندها تزول الحواجز، ويبدأ الحراك الحقيقي نحو جذوة الإبداع الخالد، من أجل ثقافة حقيقية، ثقافة ليست لها علاقة بالاستهلاك كما نشهده في أيامنا هذه من بروز ظواهر موسيقية تدعي التجديد وهي في الواقع تعمل على التخريب. في هذا السياق قلبنا بعض الأوراق في مسيرة الموسيقى الكلاسيكية العالمية.. وكانت النمسا واحدة من أهم البلدان التي لعبت دورا مهما في تطوير تاريخ الفن الموسيقي. وقد اكتسبت العاصمة فيينا أهمية خاصة بعد اعتلى عرشها كل من (هايدن) و(موتسارت) بفضل تشجيع ورعاية العديد من الأمراء والأثرياء الذين أنشاوا دورا خاصة للأوبرا، وكانت لهم فرقا موسيقية خاصة بهم، علاوة على اختيارهم لفنانين مشهورين للعمل في وظيفة رؤساء للفرق الموسيقية. ولعل هذا يكون مدخلا مهما لموضوعنا حول أهمية تذوق الفن الموسيقي في بناء حركة موسيقية ممتدة عبر العصور حيث ما زلنا ننهل من هذا اللون الموسيقي حتى يومنا هذا.. بلد الموسيقى النمسا وعبر تاريخها الطويل دولة زاخرة بالمواهب الموسيقية، وقد تشبَع جوَها بالموسيقى منذ عدة قرون. وفي هذا البلد العريق لم يكن الأمر مقصورا على قيام البلاط الإمبراطوري بمناصرة الفن والفنانين على كافة المستويات، إذ كانت الموسيقى تغمر الدولة بأسرها. كان كل بيت في العاصمة فينا يسكنه أشخاص لهم علاقة وثيقة بفن الموسيقى، سواء أكانوا من الموسيقيين المحترفين أم من الهواة المتحمسين. من هؤلاء الموسيقي الشهير (هايدن) الذي عمل في خدمة الأمير (استرهازي) لنحو ثلاثين عاما متصلة، وكانت مهمته تنصب في تدريب الاوركسترا، وقيادة حفلاتها الموسيقية التي كانت تقام كل يوم على وجه التقريب، اثناء الولائم، أو في دار الأوبرا، أو في قاعة احتفالات القصر أو في الكنيسة. وقد تميز (هايدن) عن العديد من أقرانه من رؤساء الفرق الموسيقية الذين كانوا يعملون في بيوتات النبلاء النمساوين، بقدرته الفائقة وعبقريته الفذة. وتساوت منزلة هؤلاء الموسيقيين كبارا وصغارا في العصر الذي سبق الثورة الفرنسية مع منزلة الخدم، فقد كانوا يخضعون لأسياد طغاة يتصفون بالعطف الأبوي تارة، وبالعجرفة والاستبداد تارة أخرى. ومن أمثال هؤلاء الأخيرين: أسقف سالزبورج الذي جعل حياة الصغير (موتسارت) في القصر جحيما لا يطاق. سجل سيمفوني في عام 1909، عندما أحتفل بمرور مائة عام على وفاة العبقري الموسيقي (هايدن) في العاصمة (فيينا)، وعقد إلى جانب هذا مؤتمر الجمعية الدولية للموسيقى، التي كانت في ذلك العهد في أوج مجدها، تيسرت فرصة نادرة لمئات الزوار الذين حضروا من جميع بقاع العالم المتحضر، لكي يلقوا نظرة على هذا العالم النمساوي الخيالي القديم للموسيقى. ودعا الأمير (استرهازي) قرابة الـ 400 من المدعوين، لزيارة حصنه الحصين (قصره) في (ايزينشتات) بالمجر، التي تبعد عن فيينا مسافة تقطعها العربات والخيول في ثلاث ساعات تقريبا. والقصر مقام في مدينة ريفية صغيرة هادئة، بدت مماثلة لحالتها منذ أكثر من مائة وخمسين سنة، عندما كان (هايدن) يحيا فيها. لقد ترددت في موسيقى (هايدن) أصداء تلك الأجواء الرائعة والمشهدية الساحرة التي عرضنا لها، كما ترددت فيها أصداء البحيرة المستطيلة والجبال التي تعلوها الغابات. لقد شعر الجميع أنه لم يكن مستطاعا لأية موسيقى أخرى غير موسيقى (هايدن) أن تعبر تعبيرا وافيا مثاليا عن روح تلك المناظر الهادئة الوادعة. الغرام أولا في موسيقى هايدن كان الجانب العاطفي الرئيسي غراميا إلى حد تجاوز ما بلغه أي مؤلف موسيقي آخر قبل (موتسارت) وربما أمكن القول بعده كذلك. فلم يعبر موسيقي آخر عن الصلات المتبادلة بين الجنسين بمثل هذه الرشاقة والرقة والنفاذ أو الصراحة. ولا تعنى موسيقى موتسارت إلا عناية ثانوية بالنواحي الدينية أو الأخلاقية أو البطولية أو بالمأساة أو الجوانب الخاصة بالمشكلات الإنشائية أو التصوير النغمي أو بما هو فكري محض. إذ كان موضوعها على الدوام هو الجانب العاطفي للروح الإنسانية، وبإمكاننا الاهتداء إلى مفتاح انجازاته الرائعة في هذا المضمار بالرجوع إلى أوبراته التي تكاد لا تعنى بغير التعبير موسيقيا عن عواطف الحب في مظاهره المختلفة في إسراف وحيوية قد لا يكون لها نظير. فقد عبرت أوبراته وبخاصة (ايدومينيو) و(الاختطاف من السراي) و(زواج فيجارو) و(دون جيوفاني) و(الناي السحري) و(كلهن يعملن على هذه الوتيرة) وغيرها من الأوبرات الأقل شهرة، أبلغ تعبير عن جميع ألوان الهيام، وهي أيضا وفي تقدير بعض النقاد تفوق أوبرات (موتسارت) التي عبرت بطريقة شديدة التركيز والتأثير والوضوح عن العشق والهوى بطريقة لم يسبق لها مثيل في الفن الموسيقي، مجموعة كاملة من المؤلفات الموسيقية القصصية الغرامية، ويسهل بمجرد التعرف إلى جوهر أوبرا موتسارت إدراك المفتاح نفسه الذي اعتمدت عليه موسيقاه الخاصة بالآلات، فتزخر السيمفونيات والرباعيات والسوناتات بمختلف العواطف غير البريئة التي بدت في مظهر روحي فريد، واستمدت موسيقى (موتسارت) من هذا المظهر قيمتها الفنية الفذة التي لا تضاهى. وبذلك يمكن القول: لو أن الموسيقى التي أبدعها كل من هايدن وموتسارت فقدت لفقد العالم شيئا لا يمكن تعويضه بأي حال من الأحوال نظرا لما يتمتع به هذان العبقريان من قدرة على التصوير النغمي وسلامة البناء الموسيقي. استطاع (فولفانج أماديوس موتسارت) في حياته القصيرة التي دامت خمسا وثلاثين سنة أن يحقق الكمال لأسلوبين على أقل تقدير، هذان الأسلوبان هما: أسلوب الأوبرا النابوليتانية، والنموذج الجديد الذي جاء به (هايدن) في السوناتة والسيمفونية، ونقل موتسارت آخر الأساليب التي ظهرت في الأوبرا الايطالية من موسيقيين من أمثال (برجوليزي) و(جوميللي) و(ترايتا) و(بيتشيني) و(جلوك) و(جالوبي) وهو كثير ما يبدو في أفكاره الموسيقية كأحد أفراد هذه المدرسة الايطالية. الا انه مع ذلك فقد زود الأوبرا بما عجز الايطاليون بأجمعهم عن تزويدها به، فقد غذَاها بالاكتمال النهائي في الشكل والصناعة والفن والتعبير، فرفعها من مكانتها الوضيعة إلى مرتبة المؤلفات التي تتجلى فيها الشخصية الفردية. كما كان موتسارت مكملا لـ(هايدن) فقد تجلى في سوناتات موتسارت وسيمفونياته ذلك الاكتمال الكلاسيكي الذي لا يدع مجالا لأي صقل أو لأي تطور أو تغير. يعتبر فرانز جوزيف هايدن (1732 ـ 1809) واحدا من أهم الموسيقيين النمساويين الذين نجحوا في تطوير الآلات الموسيقية، وقد أطلق عليه بعض النقاد لقب (عَراب السيمفونية) لأنه أسهم بشكل فاعل في تطويرها من الشكل البسيط القصير التأليف الموسيقي الى الشكل المطول المستخدم مع الاوركسترا الطويلة. لقد أنجز لعالم الموسيقى الكلاسيكية نحو 80 مقطوعة رباعية ما زال العديد منها يحظى بشهرة واسعة مثل رباعية (الطائر 1781). ويعد الموشحان اللذان خلفهما من أفضل ما قدم وهما (شروق الشمس 1799) و(الإمبراطور 1799) ويعتبر لحن (ليحفظ الرب القيصر فرانس) الذي أصبح فيما بعد النشيد العسكري الألماني من أعظم أعماله والذي كلفه به أحد حكام النمسا كلحن حماسي للشعب، وعلى إثره ضمت الأكاديمية العسكرية النمساوية هايدن عضو شرف فيها. أما موتسارت فقد ولد في زالسبيرغ بالنمسا عام 1756، وأطلق عليه لقب (طفل المعجزات) هذا لأنه وهو في الثالثة من عمره عزف على البيانو وفرق بين مساحات مفاتيحه. في عام 1785 تعرف على هايدن وأهداه ستة رباعيات وترية وفي نفس العام طلب منه تلحين أوبرته الخالدة figaxos hochzeit والتي تعد اليوم من أكبر ما يمكن لعبقرية بشرية إنتاجه في عالم الموسيقى الكلاسيكية. لحن بعد ذلك لحنه الخالد donguan ومثلت لأول مرة في مدينة براغ وقد كان نجاحه في تلك الأوبرا استثنائيا، حتى شهد هايدن نفسه بالوحدانية له في الفن. وفي سنة وفاته عام 1791 ظهرت أوبرته الخالدةcusi fan tutle كذلك أوبرته الشهيرة zauder flote. لقد قدم هايدن وموتسارت لنا أسمى موسيقى في العالم، موسيقى تسجل للإنسان انتصارا حقيقيا في دعم الروح الإنسانية التي تغرق اليوم في بحر من الموسيقات المستنسخة؟!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©