الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أكثر نظافة بقليل!

أكثر نظافة بقليل!
16 يونيو 2010 21:13
يشن نعوم تشومسكي حملة نقدية شعواء ضد النخبة الثقافية الأميركية، وعلى الأخص الليبرالية واليسارية منها “وهي انتقادات قاسية لطالما وجهها تشومسكي إلى من يسميهم رجال الدين العلمانيين من المثقفين والصحفيين”. ففي المجتمع الغربي يُلاحظ وجود “قاعدة شعبية لمواجهة المشكلات الإنسانية التي تمثل، منذ أمد طويل جزءاً من مشروع عصر الأنوار”، ذلك المشروع كان خلف جملة الأحلام الإنسانية التي استبدت بالإنسان الأوروبي، في القرون الأخيرة، وكانت المسؤولة عمَّا تحقق في مجتمعه من احترام لحرية وكرامة الفرد الإنساني، ومن الديمقراطيات الاجتماعية التي نكاد نراها نحن أبناء العالم الثالث أو العاشر، أقرب ما تكون لليوتوبيا. إن المواجهة، أو الحركة الاجتماعية التي تواجه المشكلات هي ما يرى تشومسكي أن النخبة الثقافية الأميركية تتخلى عنها، بما يعنيه هذا التخلي عن هذا “المشروع” من “إشارة لانتصار جديد لثقافة السلطة والامتيازات، يُساهم هذا التخلي في ترسيخه”. ثمَّ انهيار أخلاقي في الديمقراطية الأميركية هو ما يوخز ضمير تشومسكي. يقول لموقع تروث ديغ في 19-4-2010: “إنني لم أشهد شيئاً كهذا طوال حياتي... لقد عشت من السنوات ما يكفي لأن أتذكر ثلاثينات القرن الماضي. في تلك الأيام، كانت عائلتي برمتها عاطلة عن العمل. وكانت الظروف أدعى لليأس والقنوط مما هي عليه الآن. ولكنها كانت مفعمة بالأمل. كان لدى الناس أمل...”. ويضيف: “إني استمع إلى البرامج الإذاعية الحوارية (الآن) وأصغي إلى ما يقوله الناس العاديون... أسمعُ مَنْ يقول: ما الذي يحدث لي؟. إني أمارس كل الأمور بطريقة صحيحة. فأنا مسيحي مؤمن أخاف الله، وأكدح من أجل إعالة أسرتي، ولديّ بندقية، وأؤمن بقيم البلد، ولكن حياتي آخذة بالانهيار”. ولم تكن لرائحة الانهيار العفنة هذه أن تظهر في سماء حياة الأميركيين بهذا الوضوح، لولا ذلك التخلي عن القاعدة الشعبية التي تتحرك باتجاه مواجهة المشكلات الإنسانية، خاصة من قبل “النخبة الليبرالية في الوسط الصحافي، وفي الجامعات وفي النظام السياسي”، و”التي تقوم بدور الساتر الدخاني، الذي يُخفي وحشية الرأسمالية المنفلتة والحرب الإمبريالية” وهذا بالتحديد ما يعتبره تشومسكي فضيحة أخلاقية و”خداعاً واحتيالاً” مما يعرض الشعب الأميركي، حسب رأيه، إلى “غسيل دماغ” واسع، و”تزييف للوعي”. إن النخبة الثقافية تخلَّت عن “الحراك النقدي”، انطلاقاً من اعتناق عدد كبير من ممثلي هذه النخبة لأفكار “ما بعد الحداثة”، التي أعلن منظروها “عن عدم وجود وقائع بشكل فعلي”، وبالتالي تم التشكيك بمفهوم “الحقيقة الموضوعية”، مما ساعد السلطات، على تدشين نمط إنتاج بديل، يمكن تسميته بصناعة الحقيقة، ولا يمكن طبعاً الحديث عن “صناعة وإنتاج الحقيقة” دون الحديث عن الإعلام الذي يشن عليه تشومسكي نقداً لا يقل ضراوة عن نقده للنخب الثقافية، إذا لم تكن هذه “النخب الثقافية” في رأيه، هي بالأساس “صناعة إعلامية”. فالإعلام خاضع لأموال الشركات الكبرى، وبالتالي يعتبره نموذج “بروباغندا” أو دعاية كوصف لآلية “عمل وسائل الإعلام في نظام ديمقراطي كالولايات المتحدة، حيث من المفترض أنَّ الصحافة حرَّة ومستقلة تماماً”، ونموذج “البروباغندا” قائم على “سلطة الكلام المكتفية بذاتها والتي تحوِّل الواقع إلى طرف زهيد فقير الاعتبار، (حيث) هيبة المتكلم التي تقنع المستمع بأنَّ البشر يتساوون في بعض الأمور ولا يتساوون في الأمور كلها، وحظوظ الناس في الحياة، التي تُرسل البعض إلى مدرسة تعلِّمه القدرة على الكلام والإقناع، وتمنع الآخرين من التفكير والمساءلة وتقضي عليهم بالصمت والإذعان”. هذا “الإذعان” أو “القبول” وصناعته، يعتبره تشومسكي صنوا لصناعة الحقيقة، وهي كبُنى من “الصناعات” لا تهدف إلا لإطفاء النزوع النقدي الإنساني، وتفسح المجال بالتالي لصنوف - قد لا نتصورها الآن - لأنماط قذرة من الديكتاتوريات والعنصريات وسحق المجتمعات وقتل الحياة وتشويه بيئة العالم النفسية كما الطبيعية. وعلى الأرجح، فإن الكثير من النظم في العالم استفادت من هذه “الصناعات”. فكثير من الدول الناشئة والتي تدعي تطوراً وتقدماً على الصعيد الاقتصادي، خاصة في القارتين القديمتين: آسيا وأفريقيا، حاولت وتحاول، سحق الحس النقدي في مجتمعاتها، مدشنة إعلام “الإذعان” و”القبول” و”الإشادة”، وكما في أميركا فإن هذه الصناعات تقوم على دعم وفير من الدولة والشركات و”الباحثون الجدد عن الذهب”، كما أيضاً تقوم على ما تنتجه الجامعات من نخب ثقافية تعمل على القيام بدور، ما يصفه تشومسكي، بـ “الساتر الدُخاني”. 05/16 تشومسكي وابنته وصديقان أحدهما فلسطيني يتوجهون في 16 مايو الماضي إلى معبر الكرامة، كي يصلوا بعد ذلك إلى رام الله، حيث كان مقرراً أن يُلقي محاضرة بجامعة بيرزيت تحمل عنوان: “أميركا في العالم العربي”، لكنَّ ضباط أمن إسرائيليين أوقفوهم في المعبر وأجروا تحقيقاً مع تشومسكي، وبعد ساعات من الانتظار أخبره موظف إسرائيلي على الجسر بأنه لن يسمح له بدخول الضفة الغربية، وأنَّ إسرائيل سترسل رسالة إلى السفارة الأميركية في تل أبيب تشرح فيها أسباب المنع. تشومسكي ورفاقه عادوا إلى عمَّان، وبعد أيام ألقى محاضرته في إحدى مراكزها، ونُقلت تلك المحاضرة بواسطة تقنية (الفيديو كونفرانس) إلى قاعة في جامعة بير زيت، وشاهد في القاعة ما يقرب من المائة من طلبة هذه الجامعة وأساتذتها تشومسكي وهو يلقي محاضرته مباشرة من عمّان، وعبر تلك التقنية. أما الصحافة الإسرائيلية، وعلى رأسها “هآرتس” فقد اعتبرت هذا المنع “عملاً أهوجاً”، وأنَّ الإجراء ذروة المعاملة المثيرة للحفيظة التي تنتهجها إسرائيل تجاه كل من يتجرأ على انتقاد سياستها، وأن إسرائيل “تتخذ صورة الأزعر الذي يشعر بالإهانة فيحاول الصراع ضد الريح”. وأضافت الصحيفة في افتتاحيتها أمس أنَّ تشومسكي رجل فكر موضع خلاف وجريء، وبحوثه في مجال اللغويات منحته شرف لا شك فيه، أما مقالاته وخطاباته السياسية فجعلته غير مستحب لدى الكثيرين في الولايات المتحدة وخارجها”. وأكدت الصحيفة ذاتها أنه “من الصعب تصور دولة حُرة لا يشرفها أن يزورها تشومسكي، باستثناء إسرائيل، فهي تدير ضده حملة محاسبة خاصة”. وفي بيان لها، أوضحت إحدى المنظمات الحقوقية الإسرائيلية: “أن منع شخص من التعبير عن رأيه وطرده هو من مميزات الأنظمة الشمولية، وأن الدولة الديمقراطية لا تمنع دخول زائرين بسبب آرائهم”، كما قال البروفيسور اليساري أورن يفتاحتيل المحاضر في جامعة بئر السبع: “أن القرار يعكس حالة هستيريا في إسرائيل”. 05/22 تشومسكي يتجول في جنوب لبنان، ويواصل انتقاداته للسياسة الخارجية الأميركية، وللتحالف بين ما يسميه بالمسيحية الصهيونية واللوبي اليهودي، وتأثيرهما الشديد على القرار الأميركي. ومنذ زمن طويل وتشومسكي عالم اللغة الكبير، واليهودي العائلة، ينتقد “الدولة الصهيونية” ويقاربها باستمرار مع “دولة الفصل العنصري” التي كانت تجثم على صدر جنوب أفريقيا، حتى أنَّ منظمة باي بريث اليهودية وصفته بأنه “أشد مواطني الولايات المتحدة عداء لإسرائيل”، وقالت إن البعض يصفه بـ”اليهودي الذي يكره ذاته” بالمقابل، فإن منتقديه يرون بأن تشومسكي “يعفي الإسرائيليين ومنذ ثلاثين حولاً من مسؤولياتهم، لاقياً اللوم والتبعة كاملة على الإمبريالية الأميركية”، ومتجاهلاً حتى سؤال من نوع: “هل أميركا تستخدم إسرائيل كمتعهد ثانوي، أم هي ترضخ للدولة العبرية؟” وبالتأكيد فإن الإمبريالية الأميركية تكاد تكون رهاباً لتشومسكي، ولذلك فإنه حين “يندد بتعسف السلطات وأعمال العنف والجرائم التي يرتكبها بلده بحق بلدان أخرى، فمن المفترض في نظر خصومه أن يعني ذلك أنه يجد هذه الممارسات طبيعية عندما تصدرُ عن الأعداء. وان كان يصف بـ(إرهاب الدولة العالمي)، أو بـ(إرهاب الجملة) ما تعتبر الولايات المتحدة والدول الزبائن التي تدعمها، بأنه من حقها ممارسته، وسط حصانة تامة من العقاب، في بعض الدول، فذلك يعني، كما يؤكدون، أنه ينكر الحقيقة غير القابلة كثيراًَ للجدل، والفظاعة الحقيقية جداً لـ(إرهاب المفرق) الذي يمثله نشاط المجموعات الإسلامية وغيرها...”. مساهمة تشومسكي في اللغويات جعلته من أكبر علمائها في القرن العشرين، لكنه ليس الراهب في المختبر اللغوي الآن، إنه النجم الذي تطارده، ويطرب لمطاردتها، وكالات الأنباء والقنوات الفضائية والأرضية (... أمر نفسي ما يجعلني أقاربه بصديقي الثرثار الأبدي وودي ألن وهو يمشي على الشارع متأبطاً ذراع ممثلة جميلة، وينساها وهو منغمر في ثرثرة لا تكفيها الشوارع حول مشكلات حياته اليومية، ومشكلات الوجود التي بإمكانه أن يكتشفها من انبعاج كأس. ويكبر ألن في السن وتتقعر نظارته الطبية، لكن الفتيات الجميلات لا يَكُفَنَّ عن الإحاطة به، كما مثلاً في آخر صوره التي ظهرت في كان). إنه نجم من نوع خاص، شائك وملتبس وخميري، ويحلِّل الرسالة حتى الفتات، ويؤديها وكما لو أنه يتكلم لأوَّل مرَّة، خصوصاً، وهو يهودي - أميركي ستبقى حملته العاصفة على نظام تلك القوة العظمى، مدار تساؤلات وتشككات لا تتوقف. لكن جاك بوفريس في مقالته التي نشرتها له ديبلومتيك لوموند (النسخة العربية، مايو 2010) قارب بينه وبين الناقد الأدبي الفييني الاستثنائي كارل كراوس. فلقد رد كراوس (1879 - 1936) على الذين كانوا يتهمونه بالتصرف ازاء بلده كـ”العصفور الذي يدنس عشَّه”، بأنه من الممكن جداً، في بعض الظروف، أن نشعر على العكس بأن عشنا هو الذي يدنسنا، وبأننا نشعر بالحاجة الشرعية لجعله، إن أمكن، أكثر نظافة بقليل”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©