الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القصة القصيرة.. سرد أهل الهامش وطالبي الستر

القصة القصيرة.. سرد أهل الهامش وطالبي الستر
16 يونيو 2010 21:12
في عقيدتي وفي إيماني: أن الفنون جميعها ومن بينها الأدب، بطبيعة الحال، هي الوسائط التي من خلالها يحقق الإنسان شغفه بالحقائق القديمة التي لا تزال صالحة لإثارة الدهشة والتي تساعده على ممارسة وجوده الإنساني عبر استخدامه لخياله ليفتح نافذة يطل من خلالها على مستقبله. لقد اختار الإنسان فعل الكتابة لأنه يسعى من خلاله لامتلاك حريته، وتحقيق بعض من شوقه إلى العدل والجمال، وأنه بحاجة للتعبير عن تلك الجماعة التي ينتمي إليها والتي بالضرورة - في واقع قائم على الاحتمالات - تعيش أزمتها الإنسانية. رحم الله “خورخي لويس بورخيس” رجل الأدب الذي جعل مصيره مماهياً لإبداعه بل إنه من حلم بالفردوس وتخيله على هيئة مكتبة شاسعة، وأمضى عمره حتى رحيله سيداً للسرد، وحكيماً لأحكام النصوص. في مقدمة أحد كتبه تخيل “بورخيس” رجلاً اقترح على نفسه مهمة رسم العالم، وخلال سنوات طويلة من عمره أسس الفضاء بصور الأقاليم والممالك والجبال والخلجان والسفن والأسماك والمنازل والأدوات والكواكب والخيول والأشخاص، وقبل أن يقضى نحبه بقليل اكتشف الرجل أن متاهة الخطوط والصور التي دأب زمناً على رسمها إنما كانت ترسم صورة وجهه هو. يحيلك “بورخيس” لنصه السحري الذي يجسده وعي حاد بالتفرد، يرى أن الإنسان هو آخر الأمر الرمز والدلالة والمعنى، وبالتالي فإن نص الكاتب هو جوهر وجود ذلك الكاتب. صوت الأبدية يصف “باسكال” صوت القصة القصيرة فيقول: “إن الصمت الأبدي لهذه الآماد اللانهائية يرعبني”، وهي آخر الأمر نبوءة نواجه من خلالها أهوال الحياة والموت، وأنا أحد ضحايا هذا الفن الذي يحمل صوت الأبدية، والصوت الخفي لكاتبها. لقد شاعت في الفترة الأخيرة مصطلحات التعريف الناجزة، المنجزة على أن الزمن قدم نفسه باعتباره زمناً للرواية، وعلى بقية الفنون أن تبحث لنفسها عن أزمنة تستعيرها.. المصطلح أطلقه الصديق الناقد الكبير د. جابر عصفور، واعتبر أن هناك أكثر من علاقة تحيط بنا، تجعلنا نزداد يقيناً أننا نعيش في زمن الرواية: منها الإنجازات المتميزة بتراثها الكمي قطرياً وقومياً وعالمياً، كذلك قدرة الرواية على التقاط الأنغام المتباعدة لإيقاع عصرنا معتبراً الرواية حسب “لوكاتش” ملحمة الطبقة الوسطى في بحثها عن المعنى والقيمة، وأنها أخيراً هي تجربة الفرد الذي لا يعرف أن يكون صيغة للجمع، وينتهي د. عصفور باعتبار أن الرواية هي الشكل الأمثل للتأكيد على فكرة المثقف حيث هو الفاعل الاجتماعي الذي يتعامد على زمنه. يخرج الشعر، وتتبعه القصة القصيرة من زمن الإبداع الفاعل، وينتهي أمرهما إما إلى النسيان، أو الحفظ في متاحف التاريخ، فيما نحن كتابها الذين عاشوا في ظلها نصف قرن تقريباً، نتأمل ما يجري بدهشة تدفعنا في أغلب الأحيان إلى الحزن، ونتذكر “تشيخوف” و “كافكا” و”هيمنجواي” بأسى يثير الرثاء، بل نتأمل ما كتبته أيدينا من مجموعات القصص، أو ما نشرنا عبر المسافة العربية، وما ترجم لنا من أعمال شاعرين بغصة في القلب، وأسى في الروح. أسئلة التجربة أنا قاص قضيتُ عمري كله ناسكاً في تلك المساحة التي نطلق عليها محراب القصة القصيرة، وعبر هذا الشكل من السرد كتبت 13 مجموعة قصصية تحمل أسئلة، ومعنى، وتنشغل بجدليات أمضيت عمري كله أبحث عنها، وبالتالي اكتبها على مهل. آمنت برفقة بعض المخلصين لكتابة هذا الشكل: بأن القصة القصيرة هي سعي للمعرفة ودفاع عن أحوال الحياة والموت، وبأنها آخر المطاف مثل النبوءة تستدعي الغائب والبعيد، وأنها ذلك الفن الذي لا بطل له، وأنها الشكل الأمثل للتعبير عن الجماعات المعمورة وأهل الهامش من البشر، والمنكسرين في أرواحهم، طالبي الستر، المعزولين تحت ضغط الظروف الاجتماعية، ساعين للبحث عن خلاصهم في واقع يتسم بالقسوة. قرأت وتعلمت أن تلك الجماعات التي يتناولها هذا الشكل تختلف من كاتب إلى آخر، وعرفت أنه في الآداب العالمية والقومية كما يقول “اوكونور” أنهم عند “ديكنز” هؤلاء الفقراء الذين ينتمي هو إليهم، وعند جوجول هم الموظفون. وعند دوباسان البغايا، وعند تشيخوف هم الأطباء والمدرسون وخدم البيوت والمصورون، وعند شيرود أندرسون أهل الريف، وعند هيمنجواي الذين يخسرون بشرف في مشوار حياتهم في ذلك الزمن بين الميلاد والموت، وعند بورخيس هؤلاء الذين يعيشون أسطورتهم ويفعلون عبر الحلم والواقع إعادة صوغ العالم من خلال ذكرياتهم حيث تلتقي المصائر السرية وسؤال المكان وحضور المتاهة، وعند نجيب محفوظ سكان الحارات والعطوف والدروب والبيوت القديمة والتكايا وأصوات الدراويش، هؤلاء الذين يجسدون زمناً من لؤلؤ، ويتوقون لحكمة العدل والخلاص، وعند يوسف إدريس هؤلاء الذين يواجهون القمع وافتقاد الحقوق محاولين أن يتجاوزوا هزائمهم، أهل الريف والحضر الذين تختصرهم المدينة في أشباح وأصفار، وعند زكريا تامر هم الأطفال أحباب الله الذين يصنعون أمثولتهم بحثاً عن البراءة المفتقدة في واقع أكثر وحشية، وعند مستجاب هم أهل الصعيد قساة القلوب ممن جبلوا على الضرب بالبلطة فتشج الرأس وتسيل الدماء، وعند محمد المر هي التأمل الهادئ لرحيل الماضي في الأبنية والدور، والعجائز الذين يقيمون في الظلال الباهتة لزمن منسي مع تأمل للمتغيرات التي جرت في المكان والزمان، وسعى الفرد في المسافة بين الصحراء والماء، ومحاولة الفهم لزمن مغاير، ومستقبل يحمل أسئلة للفهم. تعريف القصة يرى أحد شيوخ القص في العالم وهو الأرجنتيني كبير المقام “خوليو كورتاثار” أن القصة هي جنس مغلق سري ذو لغة تجعل منه الأخ الشقيق للشعر، وأن القصة آخر الأمر لا يمكن وضع تعريف لها، وأنها حتى تصل إلى كمالها الفني والأسلوبي لابد أن تتميز بالإيجاز والتركيز وأن تخلو من البلاغة والحشد والتعاليق الزائدة. ويعتبر كورتاثار أن الجملة الأولى في القصة حاسمة ومصيرية، كما يوصي بالاهتمام بالإيقاع الذي يرى أن النص الجيد يخلق إيقاعه الخاص، كما ينشغل هذا الكاتب الكبير بموضوع القصة الذي يستمده من اليومي والمألوف وليس من المواقف الاستثنائية، وأن احترافية الكاتب في قدرته على تحويل العادي والعابر إلى استثنائي. ويرى أنه لا وجود لمواضيع أحسن من أخرى وإنما يتوقف نجاح الموضوع على طريقة تناوله من طرف الكاتب وأن كل قصة خالدة هي كالبذرة التي تنام في داخلها شجرة عظيمة، سوف تنمو هذه الشجرة بيننا وتلقي بظلالها على ذاكرتنا. القصة المصرية يرتبط نمو الأدب القصصي في مصر بنمو الطبقة المتوسطة التي شاركت في تطوير هذا النوع من الأدب. شيوخ الأزهر والأعيان والوطنيون وطلاب المدارس والعائدون من بعثاتهم الذين شاركوا في الحركة الوطنية المصرية التي ازدهرت أبانها الآداب والفنون والتعليم بشكل خاص، والتي واكبت ثورة 1919 الخالدة. وكما هو معروف فإن القصة الحديثة مصدرها الأدب الأوروبي عند روّاده الذين ذكرنا طرفاً منهم، ولقد عرف الأدب العربي نوعاً من القصص يشبهه ولكنه لا يخضع إلى قواعده مثل “الخبر” وله تاريخ قيم أنتجه الجاحظ في كتابيه “البخلاء” و”المحاسن والأضداد”، ثم كانت المقامة عند بديع الزمان الهمذاني، ثم “الحريري” في مقاماته، ثم النقلة المهمة حتى “حديث عيسى بن هشام” للمويلحي عام 1898، حتى ظهرت القصة الحديثة بشكلها التقليدي عند جيل من الرواد الشباب مع ثورة 1919 الذين نظروا لكتابة القصة القصيرة باعتبارها معبراً عن الحياة الاجتماعية عند الطبقة البورجوازية المصرية وتمثلت ريادة هذه المدرسة في عدد من أبناء الطبقة الأرستوقراطية: محمد تيمور ومحمود تيمور وعيسى عبيد وشحاتة عبيد، ثم جاءت النقلة المهمة عند المدرسة الحديثة: يحيى حقي وحسين فوزي ثم لاحقاً نجيب محفوظ. الثلاثينات والأربعينات وسيطرت القصة الواقعية في الثلاثينات وأوائل الأربعينات ثم حل مكانها نوع من الكتابة المرتبطة بتغير الحياة في الواقع المصري وما أحدثته الحقبة الليبرالية والحزبية وتغير الحياة نحو أفق تطل عليه الدولة الحديثة، فكان المازني وبعض الأعمال المترجمة وإنتاج نجيب محفوظ الغزير من القصة القصيرة ثم كانت الأربعينات التي جاءت بكتابة القصة المرتبطة بالشعب وبالحركة الوطنية والنضال ضد الإنجليز مع بزوغ المذهب الاشتراكي، الذي قدم العديد من أصوات الكتابة التي تتناول الصراع في الواقع المصري بين من يملكون ومن لا يملكون، وتكشف مدى التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وكان عبد الرحمن الشرقاوي وسعد مكاوي وفتحي غانم وبدر الديب ومحمود السعدني ومحمد عبد الحليم عبد الله واستمرار نجيب محفوظ بالكتابة ودخول يوسف الشاروني وبدر الديب وإدوار الخراط ثم كان يوسف إدريس بموهبته الحوشية ليؤسس تياراً جديداً من فن القصة القصيرة. ظلت تلك المدرسة فاعلة حتى بعد قيام ثورة يوليو وشكلت بإنتاجها الإبداعي أهم ما قدمته هذه الثورة من إبداع في الرواية والمسرح والقصة حتى جاء جيل الستينات ورفع شعاره “نحن جيل بلا أساتذة”.. هذا الجيل الذي جاء أغلبه من أقصى اليسار، وكان ابناً لثورة يوليو تعلم على ضفافها وتكون وعيه في مؤسساتها وكان ابناً لهزيمتها الكبرى في يونيو / حزيران 67 وشكل عبر إبداعاته المعارضة الحقيقية لتلك الثورة وتجاوزاتها الإنسانية .. ثم قدم في الكتابة رؤى جديدة وتجريبية لم تعرفها الثقافة المصرية من قبل سواء في السرد أو في الشعر وكان من أهم أصواته أمل دنقل وعفيفي مطر وصنع الله إبراهيم ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم أصلان ومحمد مستجاب والبساطي ومعهم إدوار الخراط. إرث الطفولة أنتمي بالكتابة لهذا الجيل وعالمي يتجدد في كل أحواله من إنتاج عدد من الكتب التي تحمل تجربتي تشمل عدداً من القصص هي الشكل الأمثل لنمط من السرد عن تجربة إنسانية عشتها، ومن خلالها حاولت التعرف إلى تلك المنطقة الغامضة من الواقع المصري، ومن الخيال القروي بكل تجلياته في الحكي والمأثور وارث الطفولة الفادح، وإقامة علاقة خبرتها قديماً خلال العيش في هذا المكان وبين أهله من ناس القرى وأساطيرهم وبإحساسهم تجاه الزمن، هؤلاء الذين تواصل قهرهم آلاف السنين ولم ينقض. انشغلت بالتعبير عن الطفولة التي تعني عندي محاولة فهم الغامض والشغف بالطلاسم وكان في وعيي دائماً مقولة البير كامي “أي طفل لا يكون شيئاً بذاته”، هي الإرث الفادح الذي أحمله على ظهري سطوراً بقهر الكبار والحرمان أول العمر. وأنا أحد الذين يكتبون القصص ولا يستهويهم النص السهل المباشر مفضوح الدلالة، يستهويني النص المهموم بسؤال المصير وبجدلية الحياة والموت، وبتلك الحسية الجسدية، والحضور الأسطوري الذي تخترقه العجائبية.. عالم مثل هذا لا يحيط به إلا الشعر. كنت أنصت لهم وأنا صغير، يتكلمون، أو يحكون، وكنت أسمع أصواتهم في الليل يقصون حكايات من ألف ليلة وليلة، أو عن الأرض والمحاصيل، والأعراس وأعيادهم وسيرة عنترة والزير سالم وأخبار الشطار. وجدتني أكتب قصصاً مستعيناً بهذا الخيال الذي كون وعي الغلام، وأنا آخر الأمر أسير ما تربيت عليه.. وقريتي هي كوني الذي أعرفه مثل راحة يدي.. يلتبس على الأمر كلما حاولت فهم الزمن الذي عشته والذي وصفه يوماً أستاذي الجليل “شكري عياد” عندما قال: الزمن عند الكفراوي كتلة واحدة لا يتميز فيها الماضي من الحاضر أو المستقبل، القصة تتحول إلى تمثال حين يتحول الزمن إلى زمن بئر تتقطر منه تجارب البشرية التي لا تختلف في جوهرها بين إنسان عاش منذ آلاف السنين وإنسان يولد اليوم أو يموت في قرية مصرية، فالولادة والموت أيضاً لا فرق بينهما في الزمن البئر، والزمن البئر هو مفهوم الفنان للخلود والروح والحضارة وتاريخ الإنسان. أصحاب البصائر يحيرني الزمن فيما أكتبه وأسعى إليه. وتدهشني تلك العلاقة بين الجد والغلام، والماضي يذهب إليه الحاضر والمستقبل وقد حددته عندي أستاذتي الدكتورة سيزا قاسم بقولها: “الكفراوي لا يتكلم عن الماضي الجميل ولكنه عن قدرتنا في أن نعيش في أزمنة مختلفة، وأن نتخلص من نير التاريخ”. في قصة “قصاص الأثر” كان الراوي من آخر سلالة من أصحاب البصائر الذين يعيشون على الحلم يصرخ صرخة اليائسين “غايتي أن استحوذ على زمن يضيع”، وفي تلة الملائكة يشتري الجد فانوس رمضان للغلام وحين يشع ضوؤه يفتح الغجر بطن الغلام ويخرجون قلبه ويغسلونه بماء الورد وروح الياسمين فيما هو يردد الدعاء لجده. والمكان عندي يشبه المكان في الواقع.. حتى إذا جاءني في الحلم فله ملامح الأمكنة نفسها التي عشت فيها.. المسجد القديم.. بيت الطين بين النهر والحقل.. المقبرة الموروثة عن الجدود.. المسجد الذي كان يضاء بالفوانيس التي ترتعش ذبالات مصابيحها بفعل نسمة هواء.. حتى السكك التي تفضي للاحتمالات، والأزقة المسدودة على سرها.. وأشياء المولى سبحانه التي تتحدث وتتهامس والتي تسألني دوماً: ما الذي فعلته بي عندما كتبتني؟. واللغة كما يقول عمنا الفاضل إدوار الخراط هي سقف العالم ولغتي هي بناء عالمي الذي أكتبه، تحمل خوفي وتحتشد بالشعر والأساطير، تعبر عن الجماعة لأنهم يتكلمون هكذا.. وأنا مقيم في تلك اللغة التي تشبهني والتي تنطبق عليها مقولة “كافكا”: ماذا يمكن أن يجذبني إلى هذه الأرض المهجورة سوى الرغبة في أن أمكث هنا. أطلت عليكم.. اعترف بذلك.. لكن عزائي هو الرغبة في التواصل وفي الرضى المستحيل لأنني آخر الأمر وعلى أرض هذا الوطن الكريم الذي أحبه، وأحب ناسه أطمح إلى أن أنحت طريقاً من التواصل بيننا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©