السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثالوث التنوير.. المتناقض

ثالوث التنوير.. المتناقض
4 نوفمبر 2009 23:29
هذا الكتاب يجب ان يقرأه المثقفون العرب والعوام أيضا وهو يحمل عنوانا رئيسيا “الطرق الى الحداثة” وعنوانا فرعيا “التنوير البريطاني والتنوير الفرنسي والتنوير الأميركي”، ذلك ان كثيرين منا فهموا التنوير على انه نموذج أحادي ووحيد، يجب أن نأخذ به كاملا أو نرفضه بالكامل، وهو النموذج الفرنسي، كما قدمه فلاسفة مثل فولتير وروسو، وفهم بعضنا ان هذا التنوير يقوم على أنقاض الدين ذاته وانه يدعو أو يتبنى الإلحاد، في حين راح أنصاره يقولون انه يقوم على انقاض الكهنوت وسلطة الكنيسة أو السلطة الدينية. المؤلفة الاميركية جيرترود هيملفارب، الحاصلة على الدكتوراه من جامعة شيكاغو عام 1950 وضعت كتابها لعدة أهداف أهمها انها تريد ان تسحب البساط من تحت التنوير الفرنسي، وتقول انه مجرد تجربة في التنوير، وان التنوير البريطاني كان اسبق منه تاريخيا، وكان اكثر تأثيرا، وعنه نشأ التنوير الأميركي. ثالوث التنوير عموما لدى المؤلفة هم روجر بيكون وجون لوك ونيوتن، والفرنسيون انفسهم يعترفون لهم بذلك ويدينون لهم، ووقف فلاسفة التنوير في فرنسا ضد الكهنوت وسلطة الكنيسة، حتى ان أحد الفلاسفة قال: “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”، وكان التنوير الفلسفي ضد سلطة الكنيسة ويعلي سلطة العقل والحياة المدنية، لكن هذه الافكار النبيلة افرزت الارهاب على النحو المعروف وافرزت نابليون بما قام به من حروب وتدمير، أفرزت كذلك جمهوريات متسلطة أدت الى عودة الملكية من جديد، وهو ما لم يكن التنوير البريطاني بحاجة اليه، ذلك ان الكنيسة في انجلترا كانت متصالحة مع مجتمعها ومع شعبها. سمات وعندما يذكر التنوير يجري الحديث عن عدة سمات يفرزها أو ترتبط به وهي العقل والحرية والمساواة والتسامح والحقوق الطبيعية وعند الفرنسيين يأتي العقل في المقدمة، بغض النظر عن أي شيء آخر، حتى ان بعض نقاد التنوير ذهبوا الى انه يتم إلغاء سلطة طاغية للكنيسة واحلال سلطة لا تقل طغيانا للعقل، واذا كان المتعصبون والمتزمتون دينيا ضد روح التنوير فإن التنوير يفرز عقلانية شديدة التعصب للعقل، ومن هنا يأتي تميز، بل تفرد التنوير البريطاني، الذي اهتم بما هو عائب عن التنوير الفرنسي وهي الفضيلة.. الفضيلة وليس العقل كان مدار تركيز البريطانيين، ولم تكن الفضيلة الشخصية، بل الفضائل الاجتماعية وهي الشفقة والاريحية والكرم والتعاطف التي اعتقد الفلاسفة البريطانيون انها تربط الناس، بصورة طبيعية، بل فطرية وغريزية، وتدلل على ذلك بفيلسوف هو “ادم سميث” الذي كان فيلسوفا اخلاقيا، بالاضافة الى جوانب الفكر السياسي لديه، وتركز الباحثة الاميركية على ما تسميه فضيلة الشفقة الاجتماعية وهي الاسهام الفريد والمميز للتنوير البريطاني، فما كان فضيلة دينية تحول الى فضيلة علمانية وما كان واجبا خاصا صار مسؤولية عامة، ولذا ففي بريطانيا كانت الحملة لإلغاء الرق، وهذا يكشف عن حماسة انسانية، أي الشفقة الاجتماعية وليس العقل. لم يكن الدين باعتباره عقيدة أو من حيث انه مؤسسة العدو الاول في بريطانيا ولا في اميركا، فقد كان التنوير في هذين البلدين متسامحا ومنسجما مع شبكة واسعة من الايمان والكفر، لم ينشأ نزاع في هذين البلدين بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، ولذا لم نجد فجوة واسعة بين العقل والدين، بل على العكس كان تنوع الطوائف الدينية في البلدين تأكيد للحرية، وكان اداة للاصلاح الاجتماعي، في اغلب الاحوال فضلا عن انه كان وسيلة للخلاص الروحي وليس معنى هذا انه في بريطانيا كان فلاسفة التنوير لا عقلانيين ولا في الولايات المتحدة ايضا، هم كانوا عقلانيين دائما، ولكنهم لم يمنحوا العقل المرتبة الأولى، ومنحوه دورا مكملا في النهوض والاصلاح اي انه لم يكن قيمة في ذاته على غرار ما جرى في فرنسا، كان العقل عند الانجليز والاميركيين اداة للاصلاح وكان الدين حليفا له وليس عدوا ولا منافسا. عواطف اذا كانت الفضائل الاجتماعية أو العواطف الاجتماعية أو علم الشفقة القوة الحافزة للتنوير البريطاني ففي اميركا كانت الحرية السياسية هي القوة الحافزة للتنوير وهي الباعث على قيام الثورة الاميركية وكانت الجمهورية الفرنسية كما ذهب الفيلسوف الالماني هيجل نتاج الفكر والفسلفة لكن الجمهورية الاميركية كانت هي الاخرى نتاج الفكر، نوع مختلف من الفكر، فقد نشأت في اميركا الجمهورية الاولى القابلة للتطبيق في العصور الحديثة، وقال عنها هيجل انها “ارض المستقبل” وقال ايضا عنها “ها هنا سوف ينكشف في العصور المقبلة عنصر مهم من عناصر تاريخ العالم”. وتقول المؤلفة ان ارض المستقبل ليست مدينة بشيء للفرنسيين، لكنها مدينة بالكثير للانجليز، الذين اتاح دستورهم لها الفرصة كي تعبر وسط الاضطراب. وتشعر المؤلفة بحزن ان الثورة الاميركية لم تكن هي التي شجعت على ثورات المستقبل كما تنبأ هيجل، ففي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين كان نموذج الثورة الشعبية والتنوير هو النموذج الفرنسي. وتقول “ان حقيقة الامر المخزية، هي ان الثورة الفرنسية التي انتهت بكارثة، قد شكلت تاريخ العالم بينما بقيت الثورة الاميركية التي نجحت بانتصار عظيم، حدثا محليا اقل أهمية”. التنوير في اميركا اليوم حي وفي حالة جيدة، فمازال الاحتفال يتم بالثورة الاميركية وهي ذروة التنوير كعيد وطني وكعيد ميلاد جورج واشنطن الذي يُقرأ خطاب وداعه سنويا في مجلس الشيوخ، باعتباره جزءا من تاريخ حي وقائم. التنوير الاميركي يتفوق على نظيره الفرنسي وكذلك البريطاني، ادبيات التنوير الفرنسي كبيرة، لكنها اكاديمية وتثير اهتمام المؤرخين فقط، لكن ليست لها صلة بالقضايا المعاصرة، والتنوير البريطاني تم الاعتراف به ويجري الاهتمام في بريطانيا برموز التنوير لكن باعتبارهم قيمة تاريخية أو موضوعا تاريخيا فقط، بينما التنوير الاميركي مازال فاعلا وحيا، والولايات المتحدة استمدت قدرا كبيرا من تنويرها الخاص من البلد الام وهي الان توفي الدين لبريطانيا بتخليد تنويرها ورموزه مثل آدم سميث واذا كانت اميركا “فذة ومتفردة الان” فإن ذلك يرجع الى انها ورثت جوانب من التنوير البريطاني وحافظت عليها، تلك الجوانب التي هجرها البريطانيون انفسهم، ولم تقبلها بلاد اخرى على الاطلاق مثل فرنسا بصفة خاصة. وضعت المؤلفة كتابها هذا ليس فقط لابراز التميز الاميركي ورد الاعتبار للتنوير البريطاني بازاء الفرنسي، لكنها تطمح للرد على نقاد التنوير القساة في الغرب الذين يقللون من شأنه ويحطون من قدره وعلى المدافعين الذين يهللون ويصفقون له من غير نظرة نقدية إليه، وهناك مفكرو ما بعد الحداثة الذين ينكرون وجوده تماما ويتمردون عليه ويعملون على إعلاء ما تراه المؤلفة جوانب غير اخلاقية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©