الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل الثقافة مظهر فولكلوري؟

هل الثقافة مظهر فولكلوري؟
4 نوفمبر 2009 23:29
عن دار الفارابي صدر كتاب جديد بعنوان “علم النفس الثقافي” للمؤلف برتران تروادك يشرح فيه كيف أن الثقافة هي بصورة عامة ليست من المفاهيم التي يعيرها علماء النفس الذين يهتمون بالنمو المعرفي، الاهتمام الذي يستحق. ما من شك ان كل عالم من علماء النفس يعترف بأن الثقافة تشكل عنصراً اساسياً أقله ضرورياً على صعيد التنمية العاطفية والاجتماعية والمعرفية لدى كل كائن بشري. غير ان معظم الابحاث التي يقوم بها هؤلاء العلماء في اطار تنمية المعرفة ونشأتها قلما تجعل الثقافة على الرغم من ضرورتها، في صلب مادتها. وذلك ما يبدو منافياً للواقع خصوصاً والبعض من هؤلاء العلماء لا يرى فيها سوى مظهر فلكلوري، في حين انه لو أعيرت هذه القضية الاهتمام الذي تستحق لوجد العلماء أنفسهم في مواجهة أسئلة مرعبة يفضلون تجنب الإجابة عنها نظراً لما تجرّه هذه الإجابة من نتائج مربكة بالنسبة إلى علم النفس. يشير المؤلف في هذه المناسبة الى أن علماء النفس الذين قاموا بهذه المحاولة شأن جيروم برونير قد اضطروا الى ادخال تعديلات جذرية على مفاهيمهم. فأول ما يتوخاه هذا المؤلف هو الاشارة بل الاقناع بضرورة النظر بجدية إلى الثقافة في مجال الأبحاث السيكولوجية المتعلقة بتنمية المعرفة. ثقافات ومقارنة في مقال لايزال بشهرته على الرغم من مرور 40 عاماً على نشره، يشير جان بياجه 1966 تحت عنوان: “ضرورة معنى وابحاث المقارنة في علم نفس الطفل”، الى العناصر الاربعة التي لها تأثيرها، في نظره، على النمو الذهني او المعرفي. لقد لجأ بياجه الى هذا التقسيم بفعل ما لاحظه من ان كل بحث مقارن يتناول حضارات واوساطاً اجتماعية مختلفة لا بد من أن يثير بداية مشكلة تحديد العوامل التي تساهم بصورة خاصة في التنمية العفوية والداخلية للفرد والعوامل الجماعية والثقافية التي تشكل خصوصية المجتمع الذي يحتضن الفرد. يشير جان بياجه أولاً الى العوامل البيولوجية التي تفسر النظام التوالدي، أي “تفاعلات الجينوم” والوسط الفيزيائي اثناء النمو علماً بأن هذه العوامل تظهر أساساً بفعل نضج الجهاز العصبي المركزي دون ان يكون للمجتمع تبعاً لوجهة نظر المؤلف، أية علاقة بولادة هذه العوالم. في مرحلة ثانية يشير بياجه الى عوامل الاتزان أي الانتظام الذاتي للحركات التي تبدو متميزة عن العوامل البيولوجية، ولكنها مرتبطة بنشاطات الانسان الخاصة. إن المجموعة الأخيرة من العوامل التي تتشكل من التقاليد الثقافية والإرث التربوي هي وحدها التي يكون المفعول التفاضلي على النمو المعرفي باعتبار ان مجموعة العوامل هذه تتغير من مجتمع لآخر. في سبيل الخروج من الإبهام يتمنى بياجه أن تتضاعف الأبحاث المتعلقة بالشؤون التثاقفية بهدف تحديد مجال كل واحد من هذه العوامل ومدى تأثيره في النمو المعرفي، خصوصاً وهذه الابحاث لا تزال حتى هذا التاريخ 1966 ضئيلة العدد. مضيفاً هذا التحفظ البالغ الاهمية بالنسبة الى جدية هذه المسألة، قائلاً: ان علم النفس الذي يعده في أوساطنا سوف يظل حدسياً وتخميناً طالما لم يمتلك بعد عدة المقارنة التي لا غنى عنها كعامل مراقبة. بعد مرور عشر سنوات اكتشف جاك لوتري وهكتور رودريغزتومه مفعولاً محتملاً، في اساس التفاوت في النمو المعرفي للعوامل الاربعة التي وصفها جان بياجه وليس فقط في العامل الاخير. الثقافات وعلم النفس الوجه الآخر للنظر بجدية الى الثقافة في علم النفس الذي يعنى بالنمو المعرفي، والذي ينبغي بكثير من اللباقة في بداية القرن الواحد والعشرين العاصفة، هو أنه إذا كان بإمكان علم النفس العلمي ان يبدو مرضياً وملائماً للشعوب الغربية بصورة عامة (على الرغم من ان الأمر هو خلاف ذلك بالنسبة الى بعض الغربيين) فالشعوب غير الغربية لها موقف يختلف عن موقف الشعوب الغربية. فعبد الناصر السباعي مثلاً يُعبّر في مؤلفه “نقد علم النفس التثاقفي”، عن عدم رضاه عن “علم النفس العام” وبصورة خاصة عن “علم النفس التثاقفي” الذي يعنى بالتثاقف. ففي تعاون شامل بين الشعوب، خاصةً ان علم النفس الذي ابتدعه الغرب حتى ولو ادعى انه شمولي التثاقف “لن يستطيع اقناعنا بأن المعرفة التي يزودنا بها النفسية الإنسانية هي المعرفة الوحيدة التي يمكن التوصل اليها، ولا انها المعرفة الاكثر شمولية”. فالمطلوب في هذه الحال، كما يقول المؤلف، هو ان نكون على استعداد لتقبّل مفاهيم جديدة قد تردنا من ثقافات غير غريبة شرط ان تنسجم هذه المفاهيم مع المبادئ التي ارتكز عليها علم النفس. الامر الذي يؤدي الى انفتاح النقاش بين الباحثين ذوي الثقافات المختلفة والى رفع مستوى هذا النقاش. الهدف الثالث الذي يتوخاه هذا المؤلف، هو الاسهام في هذا النقاش واقتراح مدخل متواضع يسهّل فهمه، ولنقل شرح، عملية النمو المعرفي لدى اطفال الثقافات كافة. يعرض في الفصل الاول الافكار الرئيسية لعالم النفس الاميركي جيروم برونير لكونها تشكل الأسس التي يقوم عليها علم النفس الثقافي. يقول اننا مدينون لجيروم برونير لكونه حمل على محمل الجد قضية الثقافة في علم النفس وبصورة خاصة في علم النفس المتعلق بالنمو المعرفي. هذه الأفكار الرئيسية تتعلق بالتثاقف وبالطبع بالبنائية بنوع خاص والسردية وبالمصطلح الثقافي بشكل عام. غير أنه أعيد عرضها وتحديد مضامينها بصورة مسهبة في الفصل الاول ومن بعده في الفصلين الرابع والخامس، وباستطاعته ان يعلن ان ما يريد قوله، هو ان المعرفة او العقل لا يمكن ان تكون في رأس البشر، لأنها ايضاً في المصطلحات الثقافية التي يستخدمونها في حياتهم اليومية. في الفصل الثاني تحدث عن مقارنة بين جنسين مختلفين: انساني وحيواني، اما في الفصل الثالث عرض مقارنة بين فئتين من الجنس الواحد. فهو يستعرض كيفية نمو الفتيان والفتيات في مجتمع لا طبقي، مجتمع (بارويا) في غينيا الجديدة (أوقيانيا). العرض المشار اليه سيتيح ان يبيّن، من ناحية أولى، ان الحقول التي يستطيع فيها اولاد”بارويا” ان يصبحوا خبراء هي غير الحقول المعروفة في اوروبا، ومن ناحية ثانية ان مسار نمو هذه الحقول هو ايضاً مختلف. “فمسار” بارويا هو المسار الوحيد والذي يتلقى اثناء اجتيازه الفتيان كما الفتيات بعض التدريبات والارشادات، يؤدي الى سيطرة الذكور على الاناث. مفاهيم واختبارات لقد استهدفت الفصول الثلاثة الأخيرة من هذا المؤلف ان ترسم الاطار العام لعلم النفس الثقافي بإثارتها لبعض المشكلات وبطرحها بعض اللأسئلة خاصة انطلاقاً من مثلي المقارنة المشار اليهما اعلاه. اما الجزء الثاني من هذا المؤلف فسيتضمن تحليلاً موسعاً للمفاهيم الضمنية التي يستند اليها ابحاث علم النفس والنمو المعرفي، فيما اذا تناولت الثقافة بشيء من الجدية. في الفصل الرابع بدأ اذن بتحديد مفهوم الثقافة مما يتيح التمييز بين مجموعتين من التحديدات: الثقافة التي ينظر اليها كإرث يتلقاه الافراد، الثقافة التي ينظر اليها كعملية بناء معانٍ في اطار المشاركة في النشاطات التي يقوم بها الافراد. تشكل الفصول الثلاثة الاخيرة الجزء التجريبي من المؤلف. بعد الانتهاء من تحديد المفاهيم والنماذج النظرية لعلم النفس التثاقفي، حان الوقت للتوجه الى ميدان الاختبار. ان امثلة البحث المقدمة في هذه الفصول تشكل مباشرة العمل كي لا نقول امتحان الوقائع والمثل والنماذج. الفصل السادس، يتناول موضوع المدى، فكل انسان مضطر كي يتأقلم مع جاره البيئي ان ينمي اهلية تمكنه من التنقل في المدى. فكيف بإمكانه ان يتوجه وان يدرك اين هو إن لم يكتسب هذه الاهلية؟ في ما يتعلق بنمو هذه الاهلية عند الولد هنالك فكرة مقبولة بوجه عام مفادها ان هذه الاهلية تكتسب بشكل طبيعي عن طريق العلاقة التي يقيمها الطفل مباشرة مع الاشياء انطلاقاً مما يراه ويسمعه ويلمسه الخ... وفي الفصل السابع قضية الزمان. الزمان خلافاً للمدى لا يُرى ولا يُسمع ولا يخضع للمسّ. فمن الاهمية البالغة ان نبحث عمّا يمكن الاولاد من التعرف الى عالم لا يخضع للاختبار الحسي المباشر. وفي ما يتعلق اخيراً بالفصل الثامن سنتناول علم الفلك وبصورة خاصة ما يعرفه الاولاد عن شكل الارض، لأن اهمية هذا القطاع لا تقل عن اهمية القطاعات التي سبق ان درسناها. فإذا كان المدى يشكل موضوع اختبار معاش وكان التعرف على الزمان يتم عبر المدى، فمعرفة شكل الارض الكروي لا يشكل موضوع تجربة ملموسة او موضوع استعارة إلا بالنسبة الى علماء الفلك. ان نسلم باستدارة الارض في حين اننا نراها مسطحة وانه بإمكاننا ان نعيش “تحتها” دون ان نهوي خاصة انه يستحيل علينا ان ندوس السقف بأرجلنا، فذلك نتيجة ما تعلمنا اياه الثقافة التي تناقض التجربة المباشرة وان كانت هي ايضاً عاجزة عن ان تكشف هذه الحقيقة بنفسها وان تلجأ الى رواد الفضاء ليساعدوها على كشفها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©