الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المعاجم.. مؤونة الفكر وحصيلته

المعاجم.. مؤونة الفكر وحصيلته
4 نوفمبر 2009 23:14
يعرّف “معجم أكسفورد للمتقدمين في التعلُّم Oxford Advanced Learners Dictionary”، “المعجم” كما يلي حرفياً: ـ “كتاب يصنف ويفسر كلمات لغة ما أو يترجمها إلى لغة أخرى أو لغات أخرى، ويتبع عادة ترتيباً “ألفبائياً”، مثل أي معجم للغة الإنجليزية. ـ “كتاب على النمط نفسه يوضح مصطلحات موضوع ما، مثل: العمارة architecture”. شهدت العصور الحديثة تطورات كبرى في تنويع المعاجم، وأغراضها وطرائقها في العرض. وكان التأليف العربي القديم سبّاقاً في هذه المجالات. ومع كل هذه التحديدات، سوف نرى أنه من الحكمة التركيز على الجوهر والنقاط الرئيسية؛ لأن هذا الموضوع له أول وليس له آخر، وهو مفتوح لكل أشكال المناقشة والاستدراك. وهكذا يكون موضوعنا بالتحديد المقارنة بين المعاجم الورقية والمعاجم الإلكترونية المختصة باللغة العربية، وذلك ضمن الإطار العام للمعجمية. تجابه المعاجم معضلات عديدة من ناحية اختلاف اللهجات في اللغة الواحدة أو حتى اختلاف الدلالات نسبياً من منطقة إلى أخرى في اللغة الواحدة، كما هي حال اللغة العربية مثلاً بين المشرق العربي والمغرب العربي، ولكن تبقى المعضلة الأولى التي تتحدى المعاجم هي تطور دلالات الكلمات نفسها وفقاً للتطورات الاجتماعية؛ لأن اللغة كائن حي ملتزم بخدمة المجتمع ومرتبط باحتياجاته. وفي العصور الحديثة، مع تقدم التطورات العلمية والتقانية، تواجه اللغات تحدّيات يومية صعبة، وتجد نفسها مضطرة إلى التطور والتغير وفقاً للمتطلبات المعيشية. كما أن تقدم العلوم والتقانة في العصور الحديثة بالتحديد يضع اللغات أمام تحديات صعبة جداً في مجال التعبير الدقيق عن الاكتشافات المتجددة يومياً ويضطرها إلى استنباط مصطلحات جديدة لا تستقرّ بالضرورة ويمكن أن تتغير باستمرار إلى أن تثبت، وقد لا تثبت بسبب توالدها وتفرعها شبه اليومي كما هي حال الطب وغزو الفضاء خلال القرنين الأخيرين من العصور الحديثة. وهذه المسألة تواجه البلدانَ المتقدمة علمياً وتقانياً، ولكنها تزداد ضراوة لدى اللغات المستوردة للعلم والتقانة، كما هي حال اللغة العربية، حيث تختلف الاجتهادات وتتعدد الاقتراحات ويضطر المتلقي إلى التمسك بالمصطلح المستورد فيزداد الطين بلّة. وتتسع الهوة بين مستندات المعاجم واختيارات المستهلكين. ومن خلال دراسة لجهود إنتاج المعاجم المتخصصة في البلاد العربية ولاسيما تلك التي تقوم بها الجهات الرسمية المحلية أو المنظمات والمؤسسات العربية، يمكن القول إن هذه الجهود مستمرة ومتابَعة إلى حد كبير، ولكن حصيلتها الفعلية في الاستخدام العملي تبقى متواضعة جداً. ومن هنا يأتي اضطراب المصطلحات وتتضاءل فائدة المعجمات. ومن هنا تأتي كذلك أهمية الدعوة الدائمة إلى التداول بشأن ضرورة الاتفاق على المصطلحات، مع التأكيد أن أهمية المعاجم الحديثة مرتبطة بالاتفاق على المصطلحات. المعاجم العربية المعاجم القديمة: المقصود هنا هو معاجم الألفاظ، وفي هذا المجال بذل أجدادنا العرب جهوداً فائقة في خدمة اللغة العربية، لغة القرآن الكريم ولغة الحضارة العربية الإسلامية. ويحق لنا أن تعتز بما قدموه من إبداع واجتهاد وبما بذلوه من جهود معرفية وبما أظهروه من حرص على الدقة العلمية دون أن تكون لديهم التسهيلات التقنية التي نتمتع بها في العصر الحديث. ولعله من المفيد أن نلقي نظرة سريعة على ما قدموه من إنتاج فردي تكاد تعجز المؤسسات الحديثة عن أدائه. ويمكن تصنيفه إلى مرحلتين. المرحلة الأولى: “القديمة” 1. كتاب العين: ألّفه الخليل بن أحمد الفراهيدي (100-175) ه. اعتمد التصنيفَ حسب مخارج الحروف. 2. جمهرة اللغة: ألّفه ابن دريد بن عبد الله بن سعيد (223-321) ه. تابع مفردات من لغات العرب حسب اللهجات عن الأَزد وتميم وثقيف وحِمْيَر وغيرهم... وكذلك حسب المعاني والمعرب والدخيل وعلاقته باللغات الأخرى. 3. البارع في اللغة: ألّفه أبو علي القالي إسماعيل بن القاسم (288-356) ه. أيضاً حسب ترتيب مخارج الحروف مع اختلافٍ عن ترتيب الخليل. 4. تهذيب اللغة: ألّفه الأزهري محمد بن أحمد (282-370) ه. 15 مجلداً مطبوعاً فيما بعد، حققه عبد السلام هارون، نشر في مصر عام 1964. 5. المحيط في اللغة: ألّفه الصاحب بن عباد (324-385) ه. تابع منهج الخليل في ترتيب الحروف، ظهر مجدداً في عدة أجزاء وعدة طبعات زاد من ذكر الألفاظ والصيغ والمعاني التي لم تذكرها المعاجم السابقة، أي عمل على استدراك ما فات. 6. المحكم والمحيط الأعظم: ألّفه ابن سيدة الأندلسي علي بن إسماعيل (386-458) ه. اتبع منهج الخليل في ترتيب الحروف وكان جامعاً مانعاً. كما حرص على تصحيح الأخطاء النحوية الواردة في كتب السابقين. ومن أهم مزاياه الإشارة إلى الكتب السابقة التي استفاد منها كما أنه أشار إلى كتب التفسير والحديث السابقة. وكان دقيقاً في الإشارة إلى مراجعه. المرحلة الثانية: (خطوة إلى الأمام) 1. بدأت بمعجم أحمد بن فارس (مجمل اللغة) عام 395 ه. تقريباً. وهو أول معجم أُلف على ترتيب أوائل الحروف. كل حرف سماه كتاباً، وكان انتقائياً وركز على تدوين الواضح والفصيح والمتفق عليه. ويقدّر له أنه أشار إلى جهود من سبقه من علماء اللغة ودَور مؤلفاتهم في إعداد معجمه. 2.أساس البلاغة: ألّفه الزمخشري (467-583) ه. وهو معجم مزدوج الغرض اللغوي والمجازي (البلاغي) مصحوب بالأمثلة والنماذج المختارة. 3. مختار الصحاح: ألفه أبو بكر الرازي، المتوفى عام 666 ه. مختصراً عن الصحاح وهذه خطوة جديدة مهمة؛ لأنه ركز على ألفاظ القرآن والحديث وأضاف، كأنه معجم متخصص. إلا أنه عاد إلى التصنيف حسب أواخر الحروف، وذلك على نسق المعجم الأصلي. هذه المعاجم الرائدة روجعت وطبعت على يد علماء فاضلين من العصر الحديث، وهي تشهد بعظمة التأليف العربي القديم والتزامه بالدقة العلمية، وسبقه العالمي. المعاجم الحديثة: المرحلة الأولى: محاولات للتجاوب مع بشائر النهضة 1. محيط المحيط: ألّفه بطرس البستاني (1819-1883) م. اعتمد في مادته الأساسية على القاموس المحيط مع إضافات استقاها من المعاجم الأخرى القديمة التي سبق ذكرها. وربط ذلك كله بتطورات الاستعمال المعاصر له ومصطلحات الحضارة الحديثة آنذاك. وكانت له اجتهادات مناسبة لروح العصر ولا سيما في اللغويات المقارنة، إذ ربط الترتيب “الألفبائي” بما يقابله في السريانية والعبرية، كما أشار إلى التغيّرات التي تطرأ على الكلمات في اللغة الدارجة وظهر واضحاً تأثره بالألفاظ والمصطلحات المسيحية. ويعدّ هذا المعجم القفزة الأولى في التأليف المعجمي العربي في العصر الحديث. صدر في جزأين طُبعا في بيروت، أولهما عام 1866 وثانيهما عام 1869. وتكررت طبعاته فيما بعد مستفيدةً من تقنيات الطباعة الحديثة. 2. قطر المحيط: أصدره بطرس البستاني عام 1869 في ثلاثة أجزاء ويعتبر تلخيصاً وتعديلاً للمؤلِّف السابق، وكأنه يراعي بعض الانتقادات التي وجهت لمعجمه الأول. 3. أقرب الموارد في فصيح العربية والشوارد: ألّفه سعيد الخوري الشرتوني (1849-1912) ونشره عام 1889 معتمداً على المراجع اللغوية القديمة، ومحاولاً تيسير تناول مادة المعاجم وتصويب بعض أغلاطها. المرحلة الثانية: في صميم الحداثة 1. المنجد: ألّفه لويس المعلوف ونشره عام 1908 مختصراً المعاجم القديمة، ونظّمه في صورة عصرية تراعي احتياجات القارئ غير المتخصص، وحرص على التركيز والوضوح وحسن الإخراج، كما زوده برموز للمصطلحات مثل (ج) للجمع و(م) للمؤنث و(ص) للمصدر إلخ... ويعد هذا القاموس نقطة انطلاق للتأليف المعجمي الحديث باللغة العربية، وهو طبعاً متأثر بالمعاجم الأوروبية حينذاك. وقد خدم اللغة العربية الحديثة خدمة جُلّى من خلال طبعات متوالية كانت كل طبعة تقريباً تحمل تحسينات علمية وفنية كما تضيف ملاحق تتماشى مع تطورات العصر الحديث. وعلى الرغم من الانتقاد الذي وجه له من المحافظين المتشددين، كان هذا المعجم خطوة تاريخية شبه وحيدة من نوعها في خدمة الجيل الجديد. وفي الطبعات اللاحقة، أُضيفت له ملحقات لغوية وأدبية وتاريخية، كما زُوّد بالصور والألوان والخرائط على نمط المعاجم الأوروبية في ذلك الحين. المرحلة الثالثة: مشروعات المؤسسات 1. المعجم الكبير: وهو مشروع ضخم بدأه مجمع اللغة العربية في القاهرة بهدف المحافظة على اللغة العربية ودعمها في الوقت نفسه لمواكبة المتطلبات العلمية والعملية لعرب العصر الحديث ومتابعة مصطلحات العلوم المعاصرة، إلى جانب وضع معجم تاريخي للغة العربية. وقد صدر حتى الآن جزءان فقط من المعجم الكبير استغرقا خمسة وعشرين عاماً وأنجزا حرفين فقط هما الهمزة والباء. وهذا عمل جليل جداً، على نحو معجم أكسفورد في بريطانيا ومعجم لاروس في فرنسا ومعجم وبستر في أميركا إلخ... (من المؤسف أن المجمع لم يستطع متابعته). 2. المعجم الوسيط: أصدره معجم اللغة العربية في مصر، وحرص على الجمع بين أصالة اللغة العربية والاستجابة في آن معاً لمتطلبات العصر. ويعدُّ حتى اليوم أفضل معجم عملي للغة العربية، وفيما بعد جرى تطوير هذا المعجم لخدمة المصطلحات المستجدة وألفاظ الحضارة، وقد أشرف على تطويره نخبة من علماء اللغة العرب مستفيدين من انتقادات ومقترحات الدكتور عدنان الخطيب الذي يعدُّ أفضل مهندس لمعجمات اللغة العربية. وبعد ذلك توالت طبعات عديدة لهذا المعجم، وما زال حتى الآن المصدر العام الأساسي للدارسين. وتبعه معجم وجيز يخدم الأغراض التعليمية ويراعي متطلبات الناشئة ولا سيما من ناحية جمال الطباعة ووضوح أغراضها. وتتابع بعد ذلك تأليف المعاجم ولكن بتدرجٍ بطيء جداً، وكان للشيخ عبد الله العلايلي فضلٌ في ضرورة العناية باللغة العربية وضبط أصولها. 3. المعجم العربي الأساسي (قفزة باتجاه التفاعل الحضاري): ومن جهة أخرى، أصدرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع مؤسسة لاروس Larouse الفرنسية، “المعجم العربي الأساسي”، وهو المعجم الأول من نوعه الذي يراعي متطلبات تعليم اللغة العربية للأجانب. وتوالت بعد ذلك مؤلفات فردية لربط اللغة العربية بالآفاق الحديثة، ومعظم هذه المؤلفات الحديثة متاح على “الإنترنت”، ولا سيما على موقع الورّاق الذي يعدُّ من أفضل المواقع. ج. التخصص المعجمي الحديث وبدء العصر الإلكتروني: صدرت بعد ذلك محاولات معجمية متنوعة تهدف إلى متابعة التطورات العلمية المستجدة، وانتقلت إلى تجربة المعاجم ثنائية اللغة، وكان أبرزها “المعجم الطبي الموحد” (إنجليزي/ عربي/ فرنسي)، الذي شارك فيه علماء عرب أفذاذ، وتابعه وحرره الدكتور محمد هيثم الخياط، وقد صدر عن منظمة الصحة العالمية/ المكتب الإقليمي بشرق البحر المتوسط في طبعات ورقية ورقمية أنيقة. وهو معجم عتيد، ولكن المصطلحات العلمية تتوالد وتستجد دلالاتها يوماً بعد يوم، ولا بد من المتابعة طبعاً والتحديث، ولا سيما في المجالات الطبية والعلمية... معاجم معرفية تخصصية: يصعب حصر المواقع المعجمية على “الإنترنت”، ومن أبرز هذه المواقع: موقع مجمع اللغة العربية في مصر، ويحوي “معجم ألفاظ القرآن الكريم” و”معجم المصطلحات العلمية” و”معجم الأساليب”. وكالعادة، تورد المصطلحات الانجليزية ومعها مقابلاتها العربية التي وضعها المجمع وهي تشمل 36 تخصصاً، ويحتاج هذا الموقع إلى تجديد مستمر. معاجم المصطلحات: وهناك أيضاً المعاجم الموحدة الصادرة عن “مكتب تنسيق التعريب” التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ALECSO والذي يتخذ من المغرب العربي مقراً له، ويكاد يتابع تطورات المصطلح العلمي في مختلف المعارف. وتلك المعاجم هي: المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات، المعجم الموحد لمصطلحات الفيزياء العامة والنووية، المعجم الموحد لمصطلحات الرياضيات والفلك، المعجم الموحد لمصطلحات الموسيقى، المعجم الموحد لمصطلحات الكيمياء، المعجم الموحد لمصطلحات الصحة وجسم الإنسان، المعجم الموحد لمصطلحات الآثار والتاريخ، المعجم الموحد لمصطلحات علم الأحياء، المعجم الموحد لمصطلحات الجغرافيا، المعجم الموحد لمصطلحات التجارة والمحاسبة، المعجم الموحد لمصطلحات الطاقات المتجددة، المعجم الموحد لمصطلحات التعليم التقني (كهرباء ـ طباعة)، المعجم الموحد لمصطلحات العلوم الإنسانية، المعجم الموحد لمصطلحات النفط “البترول”، المعجم الموحد لمصطلحات البيئة، المعجم الموحد لمصطلحات الهندسة الميكانيكية، المعجم الموحد لمصطلحات الفنون التشكيلية، المعجم الموحد لمصطلحات الإعلام، المعجم الموحد لمصطلحات التقنيات التربوية، والمعجم الموحد لمصطلحات الأرصاد الجوية. المعاجم الإلكترونية العربية على الرغم من التعميمات السائدة عن المواقع العربية، يقتضي الإنصاف الإشارة إلى الجهود المتوالية لتحسين أوضاع هذه المواقع وتحديثها. وهنا ينبغي التفريق بين المواقع المدعومة رسمياً من جانب المؤسسات الحكومية ومجامع اللغة العربية والمنظمات ذات الطابع العربي المشترك من جهة والمواقع التجارية المعتمدة على جهود فردية من جهة أخرى. ويلاحظ أن معظم المواقع الرسمية تُعنى بالمصطلحات، أي هي مواقع ثنائية اللغة، بينما نجد المواقع الحرة أكثر عناية بالجمع بين الجنسين أي المعاجم وحيدة اللغة “العربية” والمعاجم ثنائية اللغة وأغلبها بين العربية والإنجليزية، وتليها الفرنسية ولغات أخرى. ولهذه المواقع غير الرسمية فضل لا ينكر في نشر المعاجم العربية القديمة والحديثة التي جرى ذكرها في القسم الأول من الدراسة. كما يُلاحظ أن المواقع العربية الرسمية تبدأ عادة بعزم قوي ولكنها تتراجع بالتدريج نظراً للصعوبات الإدارية والمالية أو المنافسات على المناصب أو تغيّر السلطات الراعية للمشروعات وغير ذلك من الآفات الناتجة عن العمل الرسمي. وتعدُّ مجامع اللغة العربية خير مثالٍ لهذه الظاهرة، وكان مجمع اللغة العربية في القاهرة هو السباق إلى تقديم “معجم ألفاظ القرآن الكريم” و”معجم الأساليب” وهي معاجم أحادية اللغة، وإلى جانبها كان هناك “معجم المصطلحات الحديثة” (من الإنجليزية إلى العربية) في مجالات التخصصات الجديدة التي واجهت المجتمع العربي في الحقول العلمية وجوانب الحضارة الأخرى مثل الزراعة والطب والهندسة والتعليم وعلم الأحياء والكيمياء والقانون المدني والاقتصاد والتربية والتعليم والإلكترونيات، وإلى آخر قائمة احتياجات المجتمع العربي اللازمة للحاق بركب الحضارة الحديثة. وكان إنجاز “القاموس الوسيط” (أحادي اللغة) من جانب مجمع اللغة العربية خطوة فائقة في مجال خدمة اللغة العربية الحديثة باعتداله ودقته وبساطته ومراعاته للاحتياجات العملية للعربي المعاصر وتطوره النسبي في طبعاته الأولى، وقد أنجد القارئ العربي منذ منتصف القرن العشرين، وما زال صالحاً حتى يوم الناس هذا، وهو متوافر على شاشات مختلف المواقع العربية. وإذا انتقلنا إلى العالم الرقمي نجد هذا المعجم يتوسط مجموعة عجيب المعجمية على موقع صخر التي تتألف من ثمانية معاجم عربية في موقع واحد على النحو التالي: المحيط، محيط المحيط، الوسيط، القاموس المحيط، لسان العرب، نجعة الرائد، الغني، تاج العروس. بين الرقْمي والورقي لا شك في أن المنبع الرقمي هو الأشد إغواءً والأقوى تأثيراً، والأكثر مرونة والأوفر غزارة في المعلومات. كما أنه يبدو أقرب إلى عقلية الجيل الصاعد الذي اعتاد على ألعاب الشاشة المغرية، وتمرّس بأساليب وتسهيلات الوصول إلى المعلومة الرقمية وتشعباتها، ووجد المتعة والسهولة في أن يقفز من بابٍ إلى بوابة أو نافذة مثل لمح البصر. إلا أن الاقتصار على المعلومة الرقمية لا يخلو من أخطار؛ ذلك لأن سياسة الباب المفتوح الرقمية تكون مغرية وقد لا تكون مأمونة من ناحية سلامة المعلومة. وكما أوضحت في الدراسة الحالية، هناك مواقع غير موثوقة، ونظراً لما فيها من إغواء يصعب على الشادن أن يطمئن إلى دقتها، ولا سيما في مجال اللغة العربية. كما أن غزارة المعلومات قد تؤدي إلى عكس المقصود وقد تغرق الإنسان بما فيها من تشعبات ليس في الموضوع المطلوب نفسه فقط بل قد تجرّه إلى الابتعاد عن الهدف، بما تيسّره من تفرُّعات واختيارات موصولٍ بعضها ببعض. ويصعب على المبتدئ أن يميز منذ البدء ما هو صحيح وما هو باطل، ولكن بالطبع يمكن تلافي مثل هذه المخاطر من خلال التدريب الجيد، وإن كانت هناك دائماً خطورة الإدمان والهوس. ولنعترف أن هذه المخاطر قد تتوافر في النص الورقي، وإن بدرجة أقل، لأن المغريات أقل. كما أن سلامة المعلومة يسهل تحديدها من خلال الكتاب الورقي الموثوق، ولكن يجب أن نتذكر أن العالم الرقمي هو فضاء مفتوح يختلط فيه الحابل بالنابل وفيه دائماً ما يجرّ الناشئة إلى الإدمان أو على الأقل إلى أبعد مما يبتغون، وبذلك يكون الوقت الذي وفروه من خلال مغريات التجوال الرقمي أطول من الوقت الذي يخسره الإنسان من خلال القراءة الورقية، ويجب استثناء حالة المعلومة التي تظهر بالماسح الضوئي؛ لأنها صورة عن النص الأصلي. كذلك يجب ألا ننسى أن غنى مواقع البلدان المتقدمة غير متوافر في البلدان الأخرى. ومن خلال مقارنة بسيطة بين دقة ووفرة المعاجم اللغوية مثلاً في اللغتين العربية والإنجليزية نجد أن الفرق شاسع لصالح الإنجليزية ولكن الخطر أيضاً موجود في العالم الورقي، إلا أن تلافي الخطأ ليس سهلاً في العالم الرقمي؛ لأنه فضاء مفتوح لشتى الاحتمالات والتفسيرات. ويرجى ألا يفهم من هذه التحفظات أنها تنطوي على تفضيل مطلق للعالم الورقي على العالم الرقمي الذي يوفر ـ والحق يقال ـ بيئة مغرية وسهلة التناول لمن شاء، على حين أن القراءة الورقية مهما كانت تظل أكثر أمناً في حالات كثيرة. وينبغي ألا يفهم من هذه الاحترازات أنه من الممكن الاستغناء عن العالم الرقمي لصالح العالم الورقي أو العكس، بل يجب أن يفهم منه ضرورة العناية الفائقة في حالة العالم الرقمي؛ لأن أخطار الإهمال هنا تبقى أشد وطأة وتأثيراً من الأخطاء المكشوفة في العالم الورقي. والخلاصة أن العالم الرقمي مندفع بقوة صاروخية ويحمل، عندما يستخدم بطريقة سليمة، فرصاً عظيمة للإبداع والبحث والتطور. ويبقى الاختيار الأفضل هو الجمع بين الطرفين. * خبير ثقافي ومشرف عام مركز الترجمة بوزارة الثقافة والفنون والتراث ـ قطر * من محاضرة أُلقيت بدعوة من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©