الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ضائع في باريس...

ضائع في باريس...
4 نوفمبر 2009 23:12
هل أحببت يوما امرأة؟ نظرت إليه متعجبا من سؤاله، وكنت أهم بالضحك لولا أنني لاحظت أنه جاد في ما يقول. ـ طبعا أحببت العديد من النساء. أجبته مزهوا بكل فخر. لم ينظر إلي وتابع كلامه متأملا برج إيفل المتلألئ أمامنا كنجم ضل طريقه من السماء فاتخذ من الأرض مسكنا. ـ النساء كثيرات يا صديقي لكن كم أنثى تستطيع أن تجد بينهن؟ هل أحببت يوما امرأة كاملة الأنوثة؟ ـ كلا لم أفعل! أجبته وأنا مندهش من سؤاله هذا. منذ وصولي الى باريس، وكريم لم يفارقني. أرسلتني الشركة حيث أعمل في فرعها الرئيسي بباريس للقيام بدورة تدريبية، وبما أنه العربي الوحيد في الشركة فقد أولوه مهمة تدريبي والاعتناء بي. كان شخصا مميزا فعلا، شديد الذكاء والفطنة في عمله، ومليئا بالمرح وحب الحياة خارج أوقات العمل. له الكثير من الصديقات، والعديد من العشيقات، ولكنه أخبرني أنه لم يكن مرتبطا بعلاقة جدية بأية واحدة منهن. سألته عن السبب، فضحك من قلبه ضحكة لن أنساها وقال لي: للحب قوانين وأسس ومبادئ، وأنا أحب خرق القوانين ولا أحترم الأسس ولا أعلم شيئا عن المبادئ. فهمت أن في حياته سرا أو علاقة وصلت به الى هذه النتيجة، لكني لم أسأله عن التفاصيل مع أن الفضول كان يقتلني. تلك الليلة على ما يبدو هو مستعد للكلام عن سره الكبير. ـ هل أحببت أنت يوما امرأة؟ سألته بدوري لشعوري أنه ما سألني هذا السؤال إلا لأطرحه أنا عليه مجددا. لم يجب، بقي شارد الذهن لدقائق وكأنه سافر الى عالم آخر ولا يريد العودة منه، ثم أجابني وهو ما زال محدقا بذلك البرج الحديدي لكن دون أن يراه: ـ طبعا أحببت. أحببت “لجين”. “لجين” حبي الأول والأخير، عرفتها وهي بعد مراهقة صغيرة، تأتي لزيارة شقيقتي الصغرى من حين الى آخر. مسكينة “لجين”، صدقتني، وأحبتني، وأخلصت لي، وآمنت أني أستطيع أن أكون شخصا أفضل مما أنا عليه إن أحببت حبا صادقا. أحببت فيها صدقها وبراءتها فقد كانت تصدق كل ما أقوله لها لأنها لم تعرف يوما معنى الكذب. لم تشك لحظة أنني خائن وقح يتلاعب بعواطفها ويشعر بنشوة الانتصار كلما هامت بي أكثر. كنت أحبها بكل جوارحي دون أن أعرف ذلك لأنني يومها لم أكن أفهم معنى الحب. يوم طلبت مني “لجين” أن أتقدم لخطبتها فوجئت، لم يكن في حسباني أن علاقتي بها قد تنتهي بالزواج، لأني بكل بساطة لم أكن قد فكرت بالزواج أصلا، لكنني أقنعتها أني سأفعل حين تنهي هي دراستها الجامعية وأكون أنا قد وجدت عملا مناسبا. لم تصدقني لجين في ما قلت، وبحدس الأنثى شعرت أن هنالك خطبا ما. لا أعلم حتى اليوم ماذا فعلت حتى علمت عني كل شيء. من سألت؟ كيف تحرت؟ من الذي أخبرها؟ لا أعلم. أعلم فقط أنها أتتني يوما باكية تواجهني بكل ما عرفت عني، بعلاقاتي، بنزواتي، بخيانتي لها، بكلام قلته عنها أمام أصدقائي بأنها بلهاء أتسلى بها كي أنال منها ما أشتهي وأتركها في النهاية بعد أن أمل منها. لقد قلت وفعلت كل ما واجهتني به لكني لم استوعب مدى بشاعة ما فعلت إلا عندما رأيت دموعها. كنت أظن أني اذا ما اعتذرت وتأسفت وقبلت يديها ستسامحني، لكنها لم تفعل. فاخترت الهجرة الى باريس، اخترت أن أترك الوطن وكل ما فيه من ذكريات ظنا مني أني بذلك سأنساها. هنا في باريس كانت الحياة أقسى، فمع كل انهماكي في العمل نهارا وانغماسي في ملذات باريس المجنونة ليلا إلا أنها لم تكن تفارق خيالي لحظة. تصور أني كنت أراها أمامي أينما ذهبت ومهما فعلت، أو هكذا كان يخيل إلي. تصور أنه وبعد مضي أكثر من عشرة أعوام على ما حصل ما زلت أبحث عن وجهها بين وجوه الناس. لم يفارقني الأمل يوما برؤيتها. أتصدق إني أتحاشى عمدا العودة إلى الوطن؟ فبعد وفاة والدتي، واختفاء “لجين” ما عاد ذلك البلد موطني. يقال “موطن المرء حيث يكون قلبه” وأنا يا صديقي أتعس الناس لأني لم أجد قلبي بعد ولم أعرف موطنا يحتويني. أنا مؤمن أن القدر لن يسمح أن ينتهي بي العمر دون أن أعتذر لها عما فعلت، دون أن أخبرها أنني لم أحب غيرها في حياتي، دون أن أبوح لها بكل ما يعذبني منذ أن تركتني. فأنا أؤمن أني سأستطيع أن أجدها من جديد وحين أفعل لن أتركها تضيع من يدي ثانية. نظرت إليه بعدما شعرت أن شيئا في صوته قد تغير فوجدته دامع العين، منكس الرأس، كأنه يعترف بجريمة لا يستطيع غفرانها لنفسه. لم يتركني كريم لحيرتي طويلا، تابع كلامه وهو بعد ينظر الى أرض الحديقة حيث جلسنا: ـ منذ حوالي عام تقريبا، أخبرتني أختي أنها التقت “لجين” صدفة. قالت إنها الآن تعمل مدرسة أطفال في مدرسة كبيرة في العاصمة. تصور، لم تتزوج! لم ترتبط بأحد كل هذا الوقت! أحب أن أظن أنها لم تزل تحبني وتنتظر أن أعود من أجلها بعد كل تلك السنوات. أعلم أن ذلك غير صحيح لكني أفضل أن أصدق وهما أعيشه كل يوم، وهما يؤكد لي بأنها سامحتني وتنتظر مجيئي ولن تمل ولن تتعب من الانتظار حتى آخر العمر. أوهامي هذه جعلتني أكتب لها رسالة. رسالة كتبتها ومزقتها أكثر من مئة مرة. ترددت أن أرسل هذه الرسالة بالبريد ورفضت التفكير بإرسالها مع أختي كي لا أضعها في موقف محرج، ولطالما انتظرت شخصا أثق به يستطيع أن يوصلها لصاحبتها يدا بيد.. وها هي الأقدار تضعك في طريقي وتجعلني أثق بك وأسلمك سري ورسالتي، فهل توصل لها تلك الرسالة؟ هل تفعل ذلك من أجلي يا صديقي؟ ـ طبعا، أجبت وأنا أربت على كتفه، غدا سأعود إلى الوطن وتأكد أنه بعد غد، إن شاء الله، ستكون هذه الرسالة في يدها. طفولية الملامح، بريئة النظرات، ملائكية الابتسامة، هكذا وجدتها. استقبلتني بعد انتهاء دوام عملها في مكتبها في غرفة المعلمين ظنا منها أنني أحد أولياء الأمور. لم أتكلم كثيرا، أخرجت الرسالة من جيبي، رددت كلمات كنت قد حفظتها عن ظهر قلب يتخللها اسمه، وأعطيتها الأمانة. في لحظة واحدة تغيرت كل ملامحها، وتبدلت تلك السيدة الملائكية الابتسامة الى عذوبة حائرة لا تعلم كيف تتصرف. كان من المفروض أن أسلمها الرسالة وأرحل لكنني لم أستطع، فضول سمرني في مكاني يريد أن يعرف ماذا ستفعل الآن. أما هي فلم تمانع في بقائي ولا فضولي، بل دعتني الى الجلوس وحاولت جاهدة أن تعيد تلك الابتسامة إلى ثغرها مع أنني كنت أرى الدمع يتلألأ في عينيها. غريبة تلك المرأة في رقتها! فتحت الرسالة أمامي، قرأتها أمامي، بكت طويلا خلال قراءتها دون أن تخجلها نظراتي، ابتسمت عند الانتهاء من قراءتها، ووضعت رأسها بين يديها وأبحرت في تفكير عميق كأنها تجيب عن الرسالة بروحها، ثم نظرت إلي وسألتني: هل تعرفه؟ ماذا أخبرك؟ كيف حاله؟ أين هو؟ لم أعرف عن أي سؤال وجب علي أن أجيب... لكنني قررت أنني لن أجيب عن شيء مما سألت. تناولت ورقة وقلما كانا على مكتبها، كتبت عنوانه كاملا في باريس، سلمتها الورقة في يدها ونظرت الى عينيها استجديها أن تفهم ما سأقول، وهمست برجاء: اسأليه هذه الأسئلة كلها بنفسك...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©