الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحوار.. حرب لكن على أرض اللغة

الحوار.. حرب لكن على أرض اللغة
2 أغسطس 2016 22:40
عبدالسلام بنعبد العالي غالباً ما لا يلجأ السّاسة إلى الحوار إلاّ بعد أن تهدأ الطبول وتسكت المدافع. وهم يستسلمون له أملاً في أن يكون طريقاً أجدى لفك النزاعات ورفع الخلافات، ويأساً من الحروب التي لا تعمل في الأغلب إلا على تأجيج الفرقة وتعميق سوء التفاهم. إنهم يعوّلون على أن تحكيم منطق العقل ومقارعة الأفكار من شأنهما وحدهما أن يقضيا على اللامعقول الذي يطبع الحروب، معتقدين أنه يكفي أن يصدر الحوار عن حسن نية، وأن يتحلى المتحاورون بالصدق والنزاهة، وأن يصدق كل طرف ما عاهد الآخر عليه، كي تتقارب الأطراف، ويُرفع سوء التفاهم، فتسود الهدنة ويعمّ الوئام. يرتكز هذا الاعتقاد على مسلّمة أساسية، وهي أن الحوار ليس مُوَلداً لأسئلة، وإنما هو يكتفي بالتوقّف عند مجرد الاستفسارات بهدف الحفاظ على الإجماع. لا تكمن مهمة الحوار في الحفر والتشكّك والتردّد وخلق المسافات، لا تكمن في إثارة مزيد من الخلافات إبرازاً للفروق، وإنما تتجلى أساساً في البحث عن الوفاق بهدف خلق التطابق والسعي نحو ما يجمع ويؤلف ويؤالف. الحوار سبيل ينهجه طرفان يسعى كل منهما لأن يقرب الآخر مما يُعتقد حقيقة، افتراضاً أن الحقيقة قائمة قبل الحوار، وأن الأسئلة تتقدمه، بحيث لا يعود هو سوى «مسْرحة» لغوية تُمكّن الأطراف المتحاورة من أن يجرّ كل منها الآخر نحوه كي ينجرّوا جميعُهم نحو الحقيقة، وهكذا يتقاربون فيما بينهم باقترابهم من هذه «الحقيقة». لا يبدو أنّ الحوار، من وجهة النّظر هاته، مجال لإعمال الفكر المتروّي بهدف توليد أسئلة وبناء حقائق، وإنما هو جرْي متعجّل نحو حقائق، بل هو الطريق التي تهدي إلى «الحقيقة». فهو لا يُبعد ولا يباعد، وإنما يقرّب ويقارب. إنه تفاعل بين ذوات متكلمة، وأطراف تتخذ الكلام تعبيراً عن آرائها بهدف التوصّل إلى الوفاق والمهادنة والسّلم. ولكن، هل يخلو الحوار بالفعل من كل صراع؟ ألا تسوده، هو كذلك، علائق قوة؟ أليس طريقاً للتعثر والتأزم؟ عندما نقابل بين لغة الحوار ولغة المدافع على أساس أن الأولى لا تسودها علائق القوة التي تطبع الثانية، فإننا نتناسى أن اللغة، التي هي أداة كل حوار، مرتع تناحر القوى ومجال مفعولات السلطات، إنها عشّ الاختلاف وميدان علائق القوة بامتياز. فأن تطلق الأسماء كما سبق لنيتشه أن أوضح، هو أن تمارس سلطة، أن تطلق الأسماء «هو أن تكون سيّداً». استراتيجية التسمية هي استراتيجية هيمنة وتسلط. وتاريخ الأشياء هو تاريخ أسماء. اسم الشيء هو القوة التي تستحوذ عليه وتتملكه. تاريخ الأسماء هو تتابع القوى المستحوذة التي تعطي المعاني وتحدّد القيم. وما الكلمات سوى «كمّيات من القوة في علاقة توتر»، فلا يمكن للحوار الذي يوظّفها ويستثمرها إلا أن يجسّد علائق القوة ومرامي التسلّط والهيمنة. ليس الحوار، والحالة هذه، مرتعاً للمهادنة والوئام، ولا تحكمه فحسب آليات منطقية ودوافع أخلاقية، وهو لا يتوقف على صدق المتحاورين ونزاهتهم وحسن نيتهم. وإنما هو حرب على مستوى اللغة. إنه صراع مقنّع يكون النّصر فيه لمن استطاع أن يفرض نفسه، ويحدّد المعاني، ويطرح الإشكالات، ويعرّف المفهومات، ويعيّن الحقائق، وينحت الأسماء. بناء على ذلك فإن كان، ولا بدّ، من الحديث عن الوفاق والالتئام والتراضي كمرمى للحوار، فإنه التراضي حول شق السّبل وفتح الآفاق، التراضي، لا حول ما يُطَمْئِنُ ويُرضي، بل التراضي حول ما لا يُطمْئِن وما لا يُرضي، وبهذا فلن يغدو الحوار هرولة نحو حقيقة قائمة، وإنما جدل بين أسماء ومسميات، بين شك ويقين، بين حقائق وأخطاء، بين أسئلة وأجوبة، بين متحققات فعلية وآفاق ممكنة. ليس الحوار إذاً هو الوسيلة التي أجرّ عن طريقها الآخر نحوي لكي ننجرَّ معاً نحو «الحقيقة»، وهو ليس أداة سهلة المتناول للوصل والاتصال، وإنما طريق عسير للانفصال والحفر وإثارة مزيد من الأسئلة، وطرح فائض من الإشكالات. إنه طريق لا تخلو من عثرات وأزمات، بل صراعات ومقارعات. إلا أن المفارقة هنا هي أن هذا التباعد وذاك الانفصال، هما أكثر الوسائل ضمانة نحو التقارب والوصال. إن الحوار هو الطريق التي تنكشف فيها حِيَل اللغة ومصائدها، وهو ما به يصبح سوء التفاهم هو الطريق الأضمن نحو كل تفاهم. إنه المعركة التي يخرج منها كل طرف مخالفاً لذاته منتصراً عليها. ذلك أن النقاط التي يتبلور عندها التعثر و«يتوقف» الحوار، أو على الأقل يتأزم، لا تفرق بين المتحاورين، وإنما تضع مسافة بين الفكر وبداهاته، بين الفكر ومسبقاته، أو لنقل بين الفكر وبين نفسه وهو يسعى للانفصال عنها. إنها النقاط التي تسوي جهل الجاهلين بمعرفة العارفين. فكأن المسافة بين المتحاورين تزداد قرباً كلما ازداد بعدهم، لا بعضهم عن بعض، بل عن ذواتهم. كل متحاور يزداد قرباً من الآخر كلما ازداد بُعداً عن نفسه، وأعاد النظر في مسبقاته، وأمعن النظر في مدلولات الكلمات التي يستعملها، واللغة التي يوظّفها. كأن الالتقاء بين أطراف الحوار لا يتم إلا عند نقاط افتراق، وكأن الاتصال بينها لا يتم إلا عند نقاط انفصال: نقاط التأزم والتأزيم التي تعيد فيها اللغة النظر في الكلمات ومعانيها، ويتخلص عندها الفكر من مسبقاته، ويتحرّر من يقينياته، ويتخفّف من «حقائقه»، بل وييأس من كل حقيقة جاهزة. إنها النقاط التي يغدو عندها أطراف الحوار«في الهمّ سواء»، وليس أيّ همّ، بل الهمّ الفكري الذي قال عنه هايدغر: «إنه الهمّ الذي تتحول فيه الأشياء التي تبدو معروفة إلى أشياء تكون أهلاً للمساءلة». إن الحوار أداة لرفع سوء التفاهم، لكن ليس أساساً بين الذات وبين الآخر، بل بين الذات وبين نفسها، بين الثقافة وبين نفسها. الحوار حركة تسعى عن طريقها كل ثقافة لأن تنفصل عن ذاتها بغية التقارب عن طريق إحداث الفروق وخلق الاختلافات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©