الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا تَجْرِ وَرائِي يا نَابَ النّسيان

لا تَجْرِ وَرائِي يا نَابَ النّسيان
2 أغسطس 2016 22:39
ترجمة - المهدي اخريف سيزار باييخو (سانتياغو شوكو 1892 – باريس 1946) من الشعراء الكبار المجددين في الشعر المكتوب بالإسبانية في القرن العشرين. جرّب الكتابة في جميع الأجناس الأدبية: في الكتابة للأطفال، الرواية، المذكرات، الرحلات، النقد الأدبي، المسرح، المقالة السياسية. في الشعر، وهو إبداعه الأساسي، نشر عملين شعريين في وطنه البيرو هما: «النذيرون السود» في (1918)، و«Trilce» في (1922): الأول يحمل إرهاصات بحثٍ عن أسلوب حداثي خاص. أما الثاني فمستلهَم من تيار «الغارة» الشعري الطليعي في أوروبا ومن الدادائية والسريالية في نفس الآن. بانتقاله إلى الإقامة في فرنسا خلال الثلاثينيات من القرن العشرين. عاش ظروفاً صعبة على المستوى المعيشي على الرغم من ارتفاع وتيرة نشاطه الثقافي والإبداعي، بالإضافة إلى انخراطه في النضال السياسي إثر انتمائه إلى الحزب الشيوعي الفرنسي والتزامه عدداً من المهام السياسية دعماً لقضايا التحرر التي آمن بها. لكن على الرغم من كتاباته الكثيرة والمنشورة بالإسبانية والفرنسية (بدعم من زوجته الفرنسية جورجيت) فلم يصدر له أي عمل شعري إلا بعد وفاته وبإشراف من زوجته. يتعلق الأمر بعملين شعريين: الأول ضم مجموع قصائده السياسية تحت عنوان عام هو: «إسبانيا قطعة مني...» والثاني وهو الذي يهمنا هنا لأنه عمله الشعري الأهم الذي كرسه باعتباره شاعراً إنسانياً ذا إشعاع كوني، وهو عمل صدر في طبعات متلاحقة تحت هذا العنوان العام: «قصائد إنسانية». ومنه اخترت لقراء «الاتحاد الثقافي» هذه القصائد: حَجَرٌ أسود فَوْقَ حَجَر أبيض سَأموتُ في باريس تَحْتَ وَابلٍ من مطر، ذات يوم لديَّ منذ الآن ذِكْرى عنه. سأموتُ في باريس رُبَّما في خَميسٍ كهذا، خميسٍ خريفيِّ بالتّمام. خَمِيساً سيكونُ، لأنَّني في هذا الخميس الذي فِيه أنْثُر هذه الأبيات أمْرَضْتُ عَظمَ عَضُدي، ومَا عُدْتُ كما اليوم أَلْتَقِي بي لِوَحدي، طوال كُلِّ طريقي. مَاتَ ثِيسَار بييخو، جميعهم يَضْرِبونه بدُون أن يَكُون مَسَّهُمْ بِسُوءٍ، يَضْربونه بقسوة بالعصا وكذلك بأكثر مِنْ حَبْل، والشهودُ أيَامُ الخميس وعِظامُ العضُد، الوحدة، المَطَرُ والطرقات... فَاتَ مَا سَيَأْتي... فَاتَ مَا سَيَأْتي، مَنْبوذاً أَتَى ليجْلِسَ جَنْبَ نُمُوِّيَ الثلاثيّ؛ فَاتَ بكيفيّة إجراميّة. جَلَس قَريباً مِن هذا المكان، بِجَسَدٍ بَعيدٍ عن رُوحي، ذلك الذي أتَى على حِمَارٍ لأُصاب بالهُزَال، على قَدَميهِ جَلَسَ مُمْتقِعاً. لقد انتهى مِنْ مَنْحِيَ مَا هو مُنْتَهٍ، حَرارةَ النّار والضمير الذي رَبَّاهُ الحيوان تَحْتَ ذَيْله. انْتهى مِنْ إعْرابه لي عن شكُوكه إزاء فَرَضياتٍ بعيدة، زَاد هُوَ بالنظر مِنْ إبعادها. انْتهى من القيام كما ينبغي بما يلزم بمقْتضى الصَّفيق الجلد لأجْل مَا هُو مَحْلُومٌ فيَّ ومقتولٌ فيه. انتهى مِنْ إيقاع تَعْذِيبه الثاني بي (لا وُجُودَ للأوَّل) على كامل أضلاعي وعَرَقه الثالث في عِزِّ الدَّمع. هَو ذَا قَد فَاتَ بِدُون أن يكُون أَتى. 12. 11. 1937 عَثْرةٌ بين نجمتين ثمة أنَاسٌ لا يملكون حتى الجسدَ مِن شدّةِ بؤسهم، لِشَعْرهم وُجُود كمّيٌّ فقط، الهمُّ العبقريُّ مُتدَنٍّ عندهم، أمَّا الشَّكْلُ فَإِلَى أَعْلى؛ لا تَجْرِ وَرائِي يا نَابَ النسيان، يَبْدُو أنَّهُمْ مِن الهواء يخرجون، يُراكمون التأوُّهاتِ ذهنيّاً، يَسْمَعُون سِيَاطاً واضحةً في أحْنَاكِهِمْ. مِنْ جِلْدِهِمْ يخرجون، يَكْشِطون النَّاوُوس الحجريَّ الذي فِيه وُلِدوا، وإلى موتهم يصعدون ساعةً تِلْوَ ساعةٍ وعلى مَدِّ أبجديتهم يسقطون يا لَلكثرةِ، يا لَلقِلّة، يا لَهَنَّ! يا لغُرفتي، وأنا أسمعُهُنَّ بالعَدَسة! يا لِمَا في صدري حَالَما يبتاعون بدلاتٍ، يا لقَذَارتي البيضاء، في ثُمالة مُحْتشدة! طُوبَى لِأُذُنَيْ سانشيز طُوبَى للأشخاص القَاعِدِين طُوبى للرجُّل المغمور وامْرأتِه! طوبى للقريب بالكُمّيْن، العنُق والعينين! طُوبى لِمَن ينتعل حذاءً ممزّقاً تحت المطر، مَنْ يَسْهَر على جُثَّة خبزةٍ بِعُودَيْ ثِقابٍ، مَن يمسك باباً بإِصْبَعٍ، مَن لا يملك عيد ميلادٍ مَنْ فَقَد ظِلَّه في حَريقٍ، الحيوان الذي يَبْدُو شبيهاً ببَّغاءٍ، الذي يبدو رجلاً، الفقيرِ الغنيّ البَائِسِ المحضِ، الفقير الفقير طُوبَى لِمَن بِه جُوعٌ أو عَطشٌ لكنْ لا يملكِ جوعاً يُشبع به عَطشه، ولا عَطشاً يُشبع به كلَّ مجاعاته. طُوبَى لِمَنْ يَعْمَل في النهار في الشَّهر، في الساعةِ، الذي يَعرَقُ مِن حُزْن أو خَجَلٍ، ذلك الذي يذهب، بأمْرٍ من يَدَيْهِ إلى السينما، من يسدِّد ثمنَ ما يشتَريه بما يَنْقُصُه. مَنْ ينام على ظهره، طوبى لِمَنْ لم يَعُدْ يذكرُ طفُولَته، طُوبَى لِلأصْلع بلا قُبّعة السَّليم بلا أشواك، اللِّصِّ بِلا وُرود، لِمَن يَحْمل سَاعةً وقد رَأى الله، لِمن يملك الشرف ولا يموت! طُوبَى للطفل الذي سقط و مازال يبكي وللرجل الذي سقط فتوقَّف عن البكاء. يا للكثير، يا لَلقَليل القليل يا لَهُنَّ! الروح التي عَانَتْ مِن كَوْنها جسدَك أنت تُعاني مِنْ الغُدَّةِ الصمَّاءِ، ذلك بَادٍ، أو رُبَّما تعانِي مِنّي، مِن فِطْنتي السَّافرةِ، المُضمرَة، أنت تُعاني مِن الكائنِ شِبْهِ الإنسانيِّ الشّفّاف، هناك، قريباً، حيث الظُّلمة الحالكة. أنْتَ حول الشمس تَدورُ، قابضاً على الرُّوحِ، مُمَدِّداً عظامَك الجسديّة، وَمسوّيّاً عُنَقَك؛ ذلك بَادٍ تماماً، أنْتَ تعرفُ مَا يُؤْلِمُك، تَعْرف ما يَنْزِل مِنْ أجلك بالحبْلِ إلى الأرض. أنت تَحْيا أيُّها المسكين؛ لا تُنكر ذلك، إنْ مُتَّ، لا تُنكِرْ ذلك؛ إنْ مُتَّ بسبب عُمْرك؛ وَاهاً، وبسبب عَصْرِك؛ أنْتَ، رغم بُكائِك، تَشْرَبُ، رَغْم نَزْفِك تُطِعَمُ نَابَك الهجين، وشَمْعَتَكَ الحزينةَ، تُطعِمُ أجزاءك: أنْتَ تعاني، وتعاني أنت تُعَاوِدُ المعاناة، بشكل رهيبٍ؛ أيُّها القِرْدُ البائس يا فَتَى دَارون، يا يَعْسُوباً يترصَّدُني، أيُّها الميكروب الفظيعُ، الشديدُ الفظاعةِ وأنت تَعْلَمُ ذلك إلى حَدِّ أنَّك تتجاهَلُهُ منفجراً بالبكاء. أنْتَ وُلِدْت من بَعْدُ، ذلك أيضاً يبدُو مِنْ بعيدٍ، شقيٌّ وصَامتٌ، وتتحمَّلُ الشَارعَ الذي مَنَحَك الحظَّ، وتَسْألُ سُرَّتَكَ: أين؟ وكيف؟ يا صديقي، كم أنت اليوم غَارِقٌ حتى أُذُنَيك في عَامِكَ الثَّامن والثلاثين، سَوَاءٌ كنتَ نيكُولاسَ أو سانتياغُو هذا أو ذاكَ، مَعَكَ كُنْتَ أو مَعَ فَشَلك أوْ مَعي أسِيرَ حرِّيتك الهائلة، مَسْحوباً مِن لَدُنِ هِرَقْلِكَ المُستقِلِّ... لَكِنْ إنْ عَدَدْتَ بأصابعك إلى اثْنَيْن فالأمْرُ أسوأ، لا تُنْكر ذلك، يا أخي. لا أم نعم؟ بل لَا ثُمَّ لا أيها القرد البائس... أَعْطِني القدم... لَا اليَدَ، قُلْتُ... تحياتي وَلْتُعانِ ما تُعانيه!... 8. 11. 1937 البؤساء الآن سَيَطلع النهار، ضَعْ حَبْلاً على ذراعك، فتِّش أسفل الفراش، توقَّف مِنْ جديد في رأسِكَ حتَّى تَسير على اليمين. أحْضِر الكيسَ الآن سيطلع النهار. عَمَّا قريب سَيَطلعُ النهار، أمْسِك بقُوَّة بمصيرك الكبير بيَدِكَ. قبل أن تتأمَّل، فَكَّرْ، فَمِن المرعب أن تسقط لِلوَاحِد التعاسةُ وتسقُط لَهُ السِنُّ تماماً أنت بحاجةٍ إلى الأكل، لكنَّني أقُولُ لك لا تحزن، فالحُزْن لَيْس شَأْنَ الفقراء ولا الشهيق جَنْب قبرك، رتِّق، تذكَّرْ، ثِقْ بْخَيْطِكَ الأبيض، دَخِّنْ، اِطْوِ سَجِّلْ لائِحتك واحْفَظْها خَلْفَ صورتك. النَّهار عَمَّا قَلِيل سيأتي. حَضِّر الروح. عما قريب سيطلع النهار، هَا هُمْ يمرّون، هَا قَدْ فَتَحُوا عيناً واحدةً في الفندق، عَلَيْك بالسّوْط، وَجِّه إليه إحْدى مراياك... أَوَ تَرْتعِشُ؟ إنه الوضعُ البعيدُ لِلْوجْه والوطن الجديدُ لِلْمَعِدة. مَا زَالُوا يشخرون...! أيُّ كَوْنٍ بِهِ كُلُّ هَذَا الغَطِيطِ! تَأكَّدْ من مَسامِّك كيف هي، كم أنْتَ وحيدٌ! سوف يطلع النهار، حَضِّر الحُلْم سوف يطلع النهار، أكرِّر عبر العُضْوِ الشَّفَهِيِّ لِصَمْتك. عَلَى عَجَلٍ خُذِ الجُوع باليُسْرى وخُذْ باليُمْنى العَطَشَ، عَلى أيّ حالٍ، كُفَّ عن أن تَكون فقيراً مع الأغنياءِ أَجِّجْ بَرْدَكَ، فَفيهِ يَكتَمِل دِفْئي، «أيها» الضحيّة المحبوب سوف يطلع النهار، حَضِّر جَسَدَك. النَّهار آتٍ، الصَباحُ، البَحْرُ، النّيزكُ كُلُّها تَسِيرُ خَلْف تَعَبك بالرايات، ولأجل كبريائك الكلاسيكية تَعُدُّ الضّبَاعُ خُطَاها عَلَى صوت الحمار، الخبّازةُ تُفكّر فيك اللَّحَّام يفكِّر فيك، مُتحمِّساً، الفأْسُ والحديدُ والمعدن، لا تَنْسَ البتَّة أَلَّا أصدقاء أثْنَاء الصلاة، النّهار آتٍ، حَضِّرِ الشَّمْس. سوف يجيء النهار، ضَاعِفِ النَّفَس، ثلِّثْ طِيبَتَكَ الحاقدة وَقَوِّ خَوْفَك، هَبْهُ تَرابُطاً وفخامةً، ذلك أنَك، يبدو من تَفْرِجَة مقعدك، أيُّها الفاني، حَلُمْتَ هذا اليوم أنَّك عِشْتَ مِنْ لا شيء وَمُتَّ مِنْ كُلِّ شيءِ. عَجَلةُ الجائع مِنْ بَيْن أَسْنَاني أخْرجُ مُدَخَّناً، مُطْلِقاً أصواتاً، بَاذلاً أقصى جهد، مُنْزِلاً سَراويلي... مَعِدتي خاويةٌ، المَعِيُّ الدقيقُ خاوٍ تماماً لديَّ، البؤس يَسْحبُني مِنْ بين أسناني آخذاً إيَّاي بِعُودٍ مِنْ قَبْضة القميص. أمَا مِنْ حَجَر لأَجْلي لِأَقْعد الآن عليه؟ ولو كان ذلك الحجرَ الذي تتعثَّر به المرأة التي وضعت للتَّوّ مَوْلُودَها. أُمُّ الحَمَل، العِلَّةُ، الجذر، أَلَيْست في مُتناولي الآن؟ وَلَوْ تِلْك الأُخْرى التي مَرَّتْ مطأطِئة رَأسها لِرُوحي! وحتى تلك الموطوءَةُ أوِ الكريهَةُ أو تلك التي ما عَادَتْ تَصْلُح حَتَّى لِيُرْمى بِهَا أحَدٌ، تِلْك بالذات أعطُونيها، أعْطُونيها الآن! وَلَو تلك التي سَتَعْثرون عَلَيها فاسدةً ووحيدةً في شتيمةٍ ما، فَلْتُعطُونيها لِأجلي الآن! حَتَّى العَوْجَاء والمتوَّجة التي فِيها تَرِنُّ مرّة واحدةً فقط خَطوات الضَّمائر المستقيمة، أو، بالأقل، تلك الأخرى، التي، مَقْذُوفةً في منعرج مُسْتَحقٍّ، سوف تسقط لِذَاتِها. في مَهَّمة حُشوة حقيقية تلك بالذَّات أعطونيها الآن كِسْرة خُبز أمَا مِنْ كسرة خُبز لِي الآن أنا لن أكون غير مَنْ كُنْتُه على الدوام، لَكِنْ فلتُعطوني صخرةً أجْلِس عليها، أعطوني من فَضْلِكم، كِسْرة خُبز لأجلس، أعْطُوني بالإسبانية، شيئاً في النهاية، مِن شَرَابٍ، مِنْ أكْلٍ مِن حياةٍ، من راحةٍ، وبعدَئذ سأذهب... أعْثُر على شَكْل غريب، قميصي مُتسِخٌ مُمَزّقٌ، لا أمْلك شيئاً، وهذا فَظيعٌ فيم يَهُمّني إنْ أَنا جَلَدْت بالَخَطِّ نَفْسي وَرأيْتُ النقطةَ تَتبُعني مُهَرولةً؟ فيم يُهمُّ إنْ كُنْت وَضَعْتُ بَيْضةً على الكتف بدَلاً من المعطف؟ بِمَ انتفَعْتُ مِنْ كوني أحْيَا؟ بِمَ أنتفع مِنْ كوني أموت؟ ما جدوى امتلاكيَ عينين؟ ما جدوى امتلاكي رُوحاً؟ فيم يُفيذني إن كان شَخصِي فيَّ يَنْتَهي وفي بَكَرتي يَبْدأ جَدْولُ الريح؟ فيم أفادني، عَدِّي دَمْعَتيَّ الاثنتين، بكائيَ الأرْضَ، وتعليقي الأفقَ؟ مَا جَدوى أن أبْكي مِنْ قدرتي على البكاء وأضحَك من القليل الذي ضَحِكت؟ فيم يهمُّني إن كُنْتُ لا أنا أحيا، ولا أنا أموتُ؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©