الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كنائسُ النَّقْدِ

كنائسُ النَّقْدِ
2 أغسطس 2016 22:36
عبدالدائم السلامي متى رُمنا توصيفَ الممارسة النقدية العربية المعاصرة قلنا إنها ممارسة لا تنهض على وعي نقدي يتغيّا مجاوزة السائد من الحكومات الذوقية لتأسيس نظام جماليّ حُرّ الرؤية وذاتيّ الأداة، وإنما هي ممارسة توفيقية مهادنة ونمطيّة أوقعت المُنتَج النقدي في عديد المطبّات والهَنات، وصار فيها الفعل النقدي عمل المتقاعدين عن العمل الذين يملؤون به فراغَ وقتهم ويقتلونه. من هنات النقد ثباته في خانة مدرسانية اجترارية ومتعالمة يكتفي فيها الناقد بالظاهر من ماء النصوص، فإن حَفَلَ بوديانها العميقة لا تراه إلاّ فاقدًا ما يحتاجه الحفرُ من صبر ومداومة عليه كبيريْن. ذلك أنّ غاية الناقد، وهو ينجز قراءة نصّ مّا، أن ينتصر لفكرة في رأسه هو وليس لفكرة في رأس النص، يفعل ذلك مُتّكِئًا باطمئنان على مقولات نظرية غربية دون وعي منه بأنّ أصحابها قاموا بمراجعات لأغلبها ليقينهم بأنها لم تعد تفيد الفعل النقدي. وعليه، تراه يلوي أعناق النصوص لتُلائم فكرته حتى يكاد يستلّ منها أنفاسها، وفي خلال ذلك يظلّ يحشد في كتابته من الشواهد ما يتجاوز حجم كلامه الشخصيّ، بل تراه يستلذّ الإكثار من عبارة «قال فلان» وأخواتها دون أن يسأل نفسه: وماذا قلتُ أنا؟ وهو سؤال طرحه بعضنا ويجب أن يطرحه الكثير منّا. ويبدو أن تلك القراءة المدرسانية منعت النقد العربي من أن ينهض على مشروع فكري واضح وجريء وملبٍّ لانتظار نصوصنا الإبداعية المعاصرة. وفي زعمنا أنه متى لم يتكئْ الفعل النقدي على دعامة مشروع صار فعلا غير شرعي أدبيا. ومن ثمة، يخرج من مجال الجماليّ ويدخل حقل التجاريّ، ويصير ممارسة ربحية تحكمها قوانين العرض والطلب وتخضع لطوارئ الأزمات الدولية وللموالاة والمحاباة. وعليه، لم يُفلح النقد العربي المعاصر، على وفرة إصداراته ومقالاته، في تأصيل ممارسة نقدية مناسبة لثقافة نصوصنا الإبداعية. حيث ظلّ أغلب ما كُتب فيه مجرّد تطبيقات تجريبية لمناهج وافدة ذات مَيْزات فكرية وجمالية قد تتقاطع حينا مع ثقافتنا العربية ولكنها تختلف عنها أحيانا أخرى كثيرة. وهو أمر بدت فيه الكتابة النقدية كلاما عاما شبيهًا بِجُبّة تصلح لكلّ أجساد النصوص الإبداعية المُنجَزة في النثر والشعر بقديمها وحديثها أو حتى تلك التي لم تُنجَز بعدُ. بل إننا لا نعدم في مدوّنة النقد العربي المعاصر وجودَ نقّاد يستجلبون المنهجَ ويُطبّقونه بأمانة على نصّ من زمن الجاهلية كما يطبّقونه على آخر من القرن الحادي والعشرين دونما وعيٌ منهم بأن لكلّ منهج قرائي حاضنةً حضاريةً هي منه مُحدِّدٌ من مُحدِّدات مقولاته الجمالية، ودون تبصُّرٍ لديهم بما لحركة الزمن من تأثير في سياقات حَدَثِ الكتابة وفي شروط فعل التقبّل معًا، لا، ولا حتى تنبّه منهم طفيف إلى اختلاف ذاكرة النصوص وتنوّع هواجسها الثقافية. ولعلّ في هذا التوصيف ما يُجيز لنا القولَ إنّ ممارستنا النقدية الراهنة لا تزيد عن كونها ممارسة نمطيّة باهتة، فلا تُقبِلُ على النصوص إلا متى وافقت هواها المنهجيَّ، وإذا أقبلت على نصٍّ مَّا فلا تراها إلاّ جالسةً على رقاب معانيه، حاشرة إيّاه بالقوّة في خانات نقدية غالبا ما تُشوِّه فيه صُورَه الفنية وتُجبره على قول اعترافات لم تخطر على باله أبدا، بل وربما كانت اعترافاتُه مناقضةً أصلا لبنيته الفنية ولمزاجه الدّلاليّ ولروحه الثقافيّ. فوضى النقد ولا تُخفي ملاحظةُ مشهدنا الثقافي حقيقةَ أنّ حال النقد المعاصر تشي بفوضى عارمة طغت فيها سلطة النقّاد على رعاياهم من الكتّاب، وخضع أثناءها هؤلاء الرعايا إلى وصايا حكماء النقد في كل فعل إبداعيّ ينجزونه، حتى صارت لنا، مع بعض التعميم المتعمَّد منّا، آلاف القصائد التي لا تختلف إلاّ في العنوان، وظهرت عندنا مئات الروايات التي ما إن يفكّر الروائيّ في كتابة واحدة منها حتى يكون بمستطاع القارئ الحدسُ بتفاصيلها لحسِه بأنها ستُكتب وفق الخطاطة والثيمة السرديتيْن اللتيْن كُتِبت وفقَهما سابقتُها وارتضتها ذائقةُ حُكّامُ النقد وحكمائه وعلمائه. وإن من أسباب فساد علاقة الناقد بالكاتب ما يعود إلى أمرين: أولهما استمراء الكاتب لوقع سياط الناقد على كيانه الإبداعيّ وضُعف نزوعه إلى التحرّر من سلطته، وثانيهما قوّة الناقد العلائقية على شَكْم قلم أيّ مبدع يُبدي عصيانه عليه. وقد ساعد هذا الوضع على أن يحتلّ الناقد في متخيّل أغلب الكتّاب العرب صورتيْن: صورة أولى ظاهرة ومُصْطنَعَة يتجلّى فيها كائنا مقدَّسا بأثواب راهب أو بعمامة داعٍ يعلم ما بين أيدي الكتُّاب من معنى وما خلفهم، ويتوجّب أن تُقدَّم إليه الهدايا وتُكتَب فيه المدائحُ والأذكارُ خوفا منه ورهبة، ويَسْكت الجميعُ إذا تكلّم هو حتى لا تُصيبهم لعنتُه أو يلتهم قلوبَهم الصغيرة النيّئة ويُحوّل قصور معانيهم إلى قبور مظلمة يُشرف على نوبات التعذيب فيهاعفريت أقرع، وفق ما يشاع من تصوُّرٍ تخويفيّ عن عذاب القبور. وفي الصورة الثانية، وهي صورة خفيّة وحقيقيّة، يظهر الناقد دكتاتورًا يحكم معاني النصوص بالقوّة، وحين تستعصي عليه تلك النصوص وتتمرّد على سلطانه النقديّ بسبب ضعفِ آلاته القرائية تراه يستجلب لها مرتزقة من المناهج الغربية ليسكت أصواتَ معانيها ويزجّ بها في سجون معانيه. وبسبب من هذا، بدا المشهد النقديّ الأدبيّ في أزمة حبلى بتقرّحات كثيرة، حيث استغلقت ألفاظ النقّاد واستغربت دلالات كتاباتهم وكثرُ جفافُها حتى باتت النصوص الإبداعية بالنسبة إليهم أرضًا للتجريب واللعب على ذقون معانيها، ومن ثمة فقد النص النقدي جمهوره ولم يبق له إلا نفر من النخبة النقدية وطلبة المدارس. وهو أمر أدّى إلى عزلة هؤلاء النقاد وكساد سلعتهم القرائيّة، وخلَق توتّرا في علاقتهم مع المبدعين الذين اندفع كثير منهم إلى التشفّي من غلوّ كتابات هؤلاء النقاد بمنافستهم لهم في حلبتهم النقدية، عبر ممارسة نقدٍ «تجميلي» و«تلميعيّ» لنصوص زملائهم بضربٍ من الكلام المجّاني الذي يتمّ فيه إلباسُ باطل النص أثوابَ الحقّ في أغلب الأحوال. وإن في هذا ما يُنبئ بتعثّر حركة الإبداع في ساحتنا الثقافية، وبضآلة مستوى نتاجها الكتابيّ، وبعكوف النقد فيها على مقرّراته النظرية المستوردة أو دخوله في سوق المضاربة بالمعاني دونما تنبّهٌ منه إلى ضرورة مراعاة ثقافة النص العربي مراعاة النقد الغربي لثقافة نصوصه. وهي أمور تتعاضد ما سبق لنا أن ذكرناه في ما مرّ معنا لتكشف عن غياب مشروع للنقد العربي كانت ملامحه قد ظهرت مع بدايات القرن الثامن الميلادي ولكنّه توقّف عند عصر الانحطاط، ليخلفه مشروع آخر يكرّس الخرافات ويميل إلى الحشو وينبذ المعرفة. ولنا في هذا الشأن أن نسأل: كيف لكاتب لا يمتلك ناصية لغته أن يُنشئ نقدا لنصوص أدبية تنهض على عماد تلك اللغة؟ ثم هل يتأتّى لناقد لم يقرأ نصيبا من مدوّنتيْ الشعر والرواية أن يميّز الجيّد من النصوص ويتنبّه فيها لأدبيّتها؟ ويبدو أنّ صورتيْ الناقد المذكورتيْن سابقا قد تعاضدتا لتُحيلا على تحوّل الممارسة النقدية العربية إلى شكل من أشكال «الاعتراف» الكَنَسِيِّ؛ يدخل النصّ إلى فضاء القراءة، ويجلس صاغرا قبالة الناقد (له فهمٌ مجروحٌ لمنهج مّا) ليعترِفَ له بذنوبه الفنية والدّلاليّة أملاً منه في التطهّر منها. إلاّ أنّ «طُهريّة» المناهج الغربية لا يجب أن تُخفي عنّا ما تشهذه من صراعات بينيّة حوّلتها إلى ما يشبه الكنائس؛ حيث يسعى كلّ منهج منها إلى تفنيد وجاهة المناهج الأخرى لكي يُثبت وجاهةَ تصوّراته، ولكي يُشيع بين الناس أنه الوحيد الذي يهدي إلى الحقّ التأويليّ. وما عسى أن تكون المناهج في مجال السرد غير خطاباتٍ لأناسٍ يدّعون قدرة الكشف عن معاني الروايات ليُخفوا بذلك عجزَهم عن كتابتها؟ ألم ينشر جيرار جينيت، وهو أحد منظّري السَّردية الحديثة، كتابًا بعنوانٍ فجٍّ هو «Bardadrac» وناله فيها فشلٌ «حكائي» كبيرٌ، فهل من القراء مَن سمع بهذا الكتاب؟ ألم يتمنَّ رولان بارت أن يكتب رواية بعنوان «Vita Nova» وطالت أمنيته ولم تحقّق حتى ساعة وفاته؟ المنهج ابن بيئته علينا أن نعي بأنّ كلّ منهج إنما هو وليد بيئة ثقافية معيّنة، وحينما يصل إلينا مترجَما فإنّ الترجمة لا تصفّيه من ثقاته، بل هو يصل بأزمات واقعه وتاريخه وأحلامه التي تختلف عن أزمات واقعنا وتاريخه وأحلامه، ومن ثمة فقلّما يصدق منهج في فهم نصوصنا، وإذا افترضنا أنه فَهِمَها فلن يكون فهمُه لها إلا عبر لَيِّه لأعناق معانيها وإجبارها على قول ما لا تنوي قوله. ولعلّ من خلوص المناهج النقدية لبيئاتها الثقافية ما كان من حال المنهج الشكلاني، فهو لم يظهر بسبب احتياج النصوص إليه احتياجا فنيا وإنما ظهر بسبب سياق فكري معلوم جعل نقّاد تلك النصوص الأدبية يفضِّلون البحث في أشكال النصوص دون الحفر في دلالاتها درءًا منهم لمخاطر التصادم مع نظام الاتحاد السوفييتي الشمولي الذي لم يكن يرضى وقتذاك من المعاني إلا بما يخدم أيديولوجيته. لا يعني قولنا هذا رفضا منا للمناهج، وإنما هو دعوة إلى الوعي بفلسفاتها وبحدودها الإجرائية، وفي زعم الكثيرين أنّ المنهج هو الذي يعيش من النصوص، وهو يحتاج إليها ليُثبِت صِدقَه ولا يحتاج النصّ الإبداعي إلى منهج ليثبت أدبيتَه، وهذا ما لم يأخذه الناقد العربيّ في حسبان ممارسته النقدية، حيث اختار أن يكون مُوظَّفَ معرفة عالِمة، بكل ما تعنيه الوظيفة من التزام بإنجاز مهامّ معلومة مُسيّجة بمحاذير صارمة، وكلّما أخلص لوظيفته وآمن بأوهام بهجتها المعرفية ودافع عن قوانينها بشراسة المُؤجَّرين كلّما نال رضاءَ مؤسّسة النقد التي تؤجِّرُه وكُتِب في سجلاّتها من الناقدين. والحريّ بنا التذكير به في هذا الشأن هو أننا لم نعد نلفي في المنجز النقدي العربي الحديث حقيقة النصوص وما يعتمل فيها من معنى، وإنما صرنا نقف فيها على حقيقة آراء النقاد، وهو ما يمكن معه القول إنّ الكتابات النقدية، في أغلبها العامّ، يمكن أن تمثّل عيّنات تشخيصية لأمراض النقاد النفسية والثقافية والاجتماعية وذلك من جهة ما تكتظّ به من نوايا قرائية مُسقَطة على النصوص سواء أكانت تروم مدحَها أم ذمَّها. وفي خضمّ هذا الصراع الحادّ بين ما يُسمّى ثورات تنزع إلى تأسيس وعي حضاري جديد وما يُسمّى ثورات مضادّة تروم تكريس السائد وتجميله، فإنّ النقد العربي الراهن مدعوّ اليومَ إلى إجراء مراجعة حادّة ومؤلمة، وإلى الانتصار إلى كلّ جديدٍ وحُرٍّ وإنسانيّ، والخروج من قاعات الحَشْر الجامعي وبروتوكولاتها المتعالية على معيش الأفراد والنزول إلى شوارع الكتابة وميادينها الحقيقية حيث حرارةُ الإبداع تُذيب مرارة الواقع، وحيث المعنى يتشكّل جميلا في الهامش والأطراف بروح تفاؤلية مكتنزِة برغبة في الانتصار على المكرَّسِ بجميع قداساته. بل إن النقد مدعوّ إلى محاورة مدوَّنته الأدبية والانفتاح على جميع المناهج وجميع الفنون والعلوم انفتاحا حُرّا لا يخالطه الرضوخ لإكراهاتها وتعاليمها. ومتى فعل ذلك، يكون مالكا لزمام نفسه، ولزوايا نظره لمفردات الأشياء والأحياء بكل ما فيها من معانٍ ورموز. ومن ثمة يغادر عادة تقويل النصوص إلى فعلِ تأويلها، ويتحوّل من كتابة اغتصابيّة ومعيارية جافّة إلى كتابة إبداعية جديدة تنهض على دعامة نصوص أخرى في الشعر والرواية والقصة وغيرها وتلوذ بها سبيلا إلى بناء أدبيتها، ويصير قادرا على التخليّ عن شغفه باستحضار مقولات السرد وإسقاطها على النصوص، وقادرا من ثمة على إبداعِ معنى له جديدٍ وبِكرٍ تكون عجينتُه معاني النصوص التي يشتغل عليها ويكون ماؤها ثقافةُ الناقد وخبراته الحياتية. ومتى تحقّقت للنقد هذه الثقافة وآمن بها، أصبح جنسا مثل باقي أجناس الكتابة الأخرى، وحاز على أهلية الحضور في حقول الإنتاج الإبداعي، ولن يعود بمقدور موظَّفي المعرفة «المنهجية» بمُتعالياتها النظريّة (أولئك الذين يحبّذون صفة: علماء النقد، ولا ينفكّون يروٍّجون لِمِلَّتِهم) الخوض فيه إلا مَن كان منهم مبدعا أصلا، أي ينتمي إلى عُمّال النقد لا إلى علمائه. عُمّال النقد نحن واجدون ضربا للنقد الجيد في ما كتب التونسي توفيق بكّار عن كتاب «حدّث أبو هريرة قال» لمحمود المسعدي، حيث نقف فيها على حضور نصّ إبداعي راقٍ مكتوب عن نصّ إبداعي راقٍ آخر، حتى لَيشتبه علينا الأمر كثيرًا بين لغة بكّار ولغة المسعدي اشتباها مُحيٍّرا؛ كأنّما النصّان قد أُبدِعا لكي لا يستغني أحدهما عن الآخر أو ليزيد أحدهما من وهج الآخر حتى يطير كلّ منهما في فضاء الأدب بألف جناح. ومتى تحقّقت للنقد هذه الثقافة وآمن بها، أصبح جنسا مثل باقي أجناس الكتابة الأخرى، وحاز على أهلية الحضور في حقول الإنتاج الإبداعي، ولن يعود في مقدور موظَّفي المعرفة «المنهجية» بمُتعالياتها النظريّة (أولئك الذين يحبّذون صفة: علماء النقد، ولا ينفكّون يروٍّجون لِمِلَّتِهم) الخوض فيه إلا مَن كان منهم مبدعا أصلا، أي ينتمي إلى عُمّال النقد لا إلى علمائه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©