السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شِباك النقد الديماغوجي

شِباك النقد الديماغوجي
2 أغسطس 2016 22:33
حنا عبود يخبرنا أفلاطون في جمهوريته، أن الأنظمة السياسية تتكاثر كالفيروسات الفتاكة، أوليغارشية وديموقراطية وتيموقراطية وديكتاتورية واستبدادية حزبية... أما الديماغوجية، فهي أسلوب تضليل لا يخصّ نمطاً من الأنظمة، يرفع شعار العامة ويحقق أطماع الخاصة. سلوك تتقنه الثعالب بغريزتها... بعد مكيافيلي صارت الديماغوجية نهجاً له قواعد وأصول، يتدرب عليها المرشحون لكراسي الحكم. ويقال إن من كانت الديماغوجية في طبعه، أمهر ممن يتعلمها. أدرك رجال النهضة العربية خطورة تلك الآفة/‏‏ الديماغوجيا، وكيف تنمو سريعاً في الدين والقومية، فاجتهدوا لإبعادها عن هذين الميدانين المهمّين والخطيرين، اللذين يؤثران مباشرة في حركة النهضة. وكانوا مخلصين لهذا الشعار في غالبيتهم. كانوا يعلمون أن الخوض في المسائل الدينية سوف يفضي إلى الطائفية والمذهبية، وبالتالي تمزيق الأمة. ومع ذلك اكتووا بنار الديماغوجية الدينية، فاتهم الكثير من رجال النهضة بالانحراف عن الدين، ونال طه حسين وأحمد لطفي السيد وإسماعيل مظهر وعلي عبد الرازق... وسواهم القسط الأكبر من النقد الديماغوجي، حتى عندما يتحدث أحدهم بعيداً عن الدين كالجاهلية، أو شعر الغزل، أو شعر المجون، أو شعر الخوارج، أو الثورات التي هبت في وجه الحكم المستبد، أو نظرية التطور، أو توزيع الثروة، أو الثقافة العالمية الجديدة. وفي منتصف القرن العشرين عانى الأدباء والنقاد عنت المتزمتين القوميين، ربما أشد مما عانوا من المتزمتين الدينيين. وكان أخطر التيارات السياسية التيار الذي يجمع بين الدين والقومية. وقد شجعت الأحداث الشرق أوسطية هذا الاتجاه، كالنكبة والنكسة وقضية اللاجئين الفلسطينيين... واستطاعت الديماغوجية أن تتسلل من هذا التيار، إلى الأدب والنقد الأدبي، فاصطادت في شباكها معظم رجال النهضة، ولم ينجُ من اتهاماتها وافتراءاتها إلا أقل القليل. النّاجون لم يسلم من النقد الديماغوجي إلا القليل من رجال النهضة، فحتى الذين لا مأخذ عليهم يهملون في المعاجم والموسوعات الفكرية والأدبية على الشبكة العنكبوتية كالزيات والمنفلوطي... وكان جرجي زيدان من جملة الذين نجوا من سلاطة الديماغوجية، كما أن رجال النهضة لم يخاطبوه إلا بما كان متزناً ورصيناً مع كل الاحترام والتقدير. وقد أعجب العقاد بشخصية زيدان إعجاباً شديداً وأبرز سعة علمه وأصالة حياديته في كتابه «رجال عرفتهم». ويروي أنه قصده ليسأله: أي الفلسفتين أصدق: فلسفة التشاؤم أم فلسفة التفاؤل؟ ويصف تلك المقابلة: «قال لي في بساطة الرجل الذي يتحدث عن الجو أو أحاديث السمر العارض: نعرف من التشاؤم مزاج صاحبه كما نعرف ذلك من التفاؤل، وقد يكون رأيهما واحدًا في حقيقة من الحقائق العلمية، أو الفكرية، ولكن هذا يجعله سببًا للرضا والآخر يجعله سببًا للسخط على حسب مزاجه، فليست المسألة معهما مسألة صحة أو بطلان، ولكنها مسألة التأثر على حسب المزاج». وينهي العقاد كلامه عن زيدان بقوله: «وقد كتب جرجي زيدان في كل مسألة من مسائل عصره الاجتماعية والفلسفية والأدبية، فكان في كل منها بسيطاً تلك البساطة التي عهدناها منه وهو يتكلم عن أسلوب البكري، أو عن كتاب فلسفة الجمال، أو عن فلسفة التفاؤل والتشاؤم، ولكنه قال فيها جميعاً رأيه الذي لم يناقضه العلم، ولم يأتِ بما هو أثبت منه على اختلاف النظر في الأمور». لم يحظ أحد -كما نظن- من معاصري العقاد، ولا حتى صديقه الحميم المازني، بمثل هذا التقييم الإيجابي المتميّز، فحتى أبو العلاء، بمكانته عند العقاد، وحتى شوبنهور، وماكس نورداو... لم ينجُ من مآخذه. وباستثناء المازني فإن كل أصدقائه نالوا من نقده الشيء الكثير، وبالأخص صديقه طه حسين، فانتقده ولامه كما انتقد بمرارة خصمه اللدود مصطفى صادق الرافعي. وعندما يكون رأي العقاد في رجل كزيدان، بمثل هذه الإيجابية، فلا نشك في أنه من القلة القليلة التي نجت من أحكام النقد الديماغوجي. أما موقف رجال النهضة من روايات زيدان، فيشبه كثيراً موقف النقاد الإنجليز من روايات وولتر سكوت التاريخية: حقائق تاريخية مع قصة مشوّقة. ومما يرجّح أنه من الناجين أن الرافعي يطري زيدان في كتابه «وحي القلم» فيصفه بـ«المؤرخ الكبير» و«العلامة المؤرخ»، وكان يعتز بصداقته. وإذا نجا أحد من العقاد والرافعي، وهما على طرفي نقيض، فإن هذه ميزة قلّما حصل عليها أحد. ويشهد له المنفلوطي في «نظراته»: «وكان شريف النفس، بعيد الهمة، متجملًا بصفات المؤرخ الحقيقي الذي لا يتشيع ولا يتحيز، ولا يداهن ولا يجامل، ولا يترك لعقيدته الدينية مجالًا للعبث بجوهر التاريخ وحقائقه، فكتب وهو المسيحي الأرثوذكسي تاريخ الإسلام في كتبه ورواياته كتابة العالم المحقق الذي لا يكتم الحسنة إذا رآها، ولا يشمت بالسيئة إذا عثر بها، فاجتمع بين يديه في مجلس علمه من أبناء الأمة الإسلامية خاصتها وعامتها، عربها وعجمها، جمعٌ لم يجلس مثله بين يدي عالم من علماء الإسلام ولا مؤرخٍ من مؤرخيه في هذا العصر». ولا ندري لو نشر زيدان شعره هل يبقى الموقف منه على هذا النحو، لأن هذا نادر في الشعر، فمن شعراء النهضة لم ينجُ من النقد الديماغوجي سوى شاعر واحد هو خليل مطران، الذي حظي بإجماع لا مثيل له في الشعر العربي، يشبه إجماع النقد الغربي على هومر. زيدان والصيفي بعد بضع سنين من وفاة العقاد ظهر كتاب «شخصية الأدب العربي» لإسماعيل الصيفي، فنعثر على جرجي زيدان، وقد وقع في شبكة الكاتب تحت عنوان «أثر الخلفية الفكرية الكلاسيكية في النثر»(؟) من دون أن يوضح ما هذه الخلفية، فيترك «الصيفي» الشعر، لينظر في القصة التاريخية التي تهدف إلى إحياء القومية، فيرى لدى النقاد إصراراً غريباً أن جرجي زيدان يمثل مدرسة القصة التاريخية الأولى في القصص العربي الحديث وقد جمعت مقومات «بين آثار الكاتب والصحفي السوري المتمصر والباحث التاريخي» (التأكيد من وضعنا). ويكرر هذه الفكرة فيقول: «وأعود فأقرر أننا نرى إصراراً غريباً على هذه النقاط: أن جرجي زيدان ممثل القصة التاريخية في أولى مراحلها، وأنه يكتفي بجمع المادة التاريخية في محاولة إحياء صورة الماضي...». ويسوّغ الغلطة الكبيرة التي وقع فيها الباحثون والنقاد فيقول: «وأحسب أن مؤرخي الأدب المعاصر ونقاده ممن قرروا ذلك قد قرؤوا هذه الروايات في صباهم أو صدر شبابهم حين كان الاهتمام منصرفاً بالدرجة الأولى إلى الخط العاطفي الذي تتضمنه رواية زيدان التاريخية، وحينئذ فإن تقويم المادة التاريخية في رواية زيدان كان بعيداً عن مجال الاهتمام، وحين أراد مؤرخونا ونقادنا هؤلاء أن يصدروا رأياً في هذه الروايات اكتفوا بأصداء خافتة من قراءات الصبا، وبما يقرره المؤلف نفسه في مقدمات بعض رواياته، فعدّوها روايات تاريخ الإسلام». ويضيف: «وساعدت على ذيوع ذلك وشيوعه أقلام لا تتحرى الحقيقة في ما تكتب»... من غير أن يشير إلى حقائق التاريخ التي حرّفها أو تجاهلها زيدان. هكذا يحكم وهكذا يفكر بالنيابة عن كل المفكرين والأدباء والباحثين والنقاد الذين شاركوا في صحافة زيدان [مجلة الهلال - كتاب الهلال- روايات الهلال - مكتبة الهلال - مطبعة الهلال] وغير صحافة زيدان، بأن حكمهم عليه إنما يعود إلى قراءات الصبا، وقد خُدعوا بما يقرره المؤلف نفسه في مقدمات بعض رواياته. وقد فات هؤلاء الكتاب من مؤرخين وباحثين -ويعدّون بالمئات- أن يشيروا إلى ما أشار إليه الصيفي، فهم لا يعرفون أنفسهم بمقدار ما يعرفهم الصيفي، وقد غشهم زيدان بما روّجه في مقدمات رواياته وما ذكره من مراجع تاريخية... ناهيك بالأقلام التي لا تتحرى الحقيقة فيما تكتب! ومن غير أن يذكر اسم قلم من تلك الأقلام أو اسم باحث من الباحثين، ومن غير أن يأتي برأي أي أديب أو ناقد ممن أشار بالجملة إليهم وزعم أنهم حكموا على روايات زيدان متأثرين بـ«قراءات الصبا» ينتهي إلى ما يلي: «ولكن إذا أردنا الحقيقة بصرف النظر أو بسد السمع عن كل ما يذاع ويشاع بأن هذه الروايات ليست إلا ترجمة قصصية لما يردده بعض المستشرقين أو الحاسدين للتاريخ الإسلامي، والذين يودون لو طمسوا كل صفحاته المشرقة»، هنا أيضاً لم يذكر اسماً واحداً من المستشرقين بل تعامل بالجملة، كما في السابق. وينتهي إلى إصدار حكمه: «فليست روايات تاريخ الإسلام التي قدمها جرجي زيدان إلا روايات المخازي والمعايب والفتن والخلافات، وليست رواية لأمجاد هذا التاريخ ومفاخره، كما هو الشأن في كل قصص تاريخي قومي تكتبه أقلام قومية، وترى في بعث الأمجاد والمفاخر حوافز إلى العزة والنهوض والتقدم على هدى الأجداد...»، مما يوحي بأن زيدان ليس أكثر من متآمر، يردد آراء المستشرقين، من دون تقديم حيثيات. فكيف فات العقاد هذا التآمر، وهو الذي يلتقط التآمر مهما دقّ وتوارى، وترديد آراء المستشرقين، وهو الخبير بآرائهم، فكال المديح لزيدان وضنّ بمثله على شخصيات النهضة من دون استثناء؟ من أقدم الروايات التاريخية، حتى أحدثها، من هومر حتى ميشيل زيفاكو، لم نجد رواية تاريخية واحدة تسير على النهج الذي رسمه الصيفي، فإلياذة هومر فضيحة بشرية، إذ تنشب حرب إبادة بسبب إقدام شاب متهور على اختطاف زوجة منيلاوس، ملك إسبارطة. وما غضب «أخيل» إلا من أجل أسيرة، انتزعها منه أغاممنون، فكلف الإغريق مئات القتلى، لتخلفه عن المشاركة في القتال. هذه اللوحة التاريخية لهومر العزيزة اليوم على قلب الإغريق أكثر من أي رواية حديثة، لا تزال تحفة أدبية لم يخبُ بريقها، وتُقرأ عالمياً أكثر من أي رواية أخرى. ميشيل زيفاكو -المحامي والناشر والمخرج السينمائي والروائي والكاتب العلماني والمعادي للكهنوت، والداعية المتحمس للفوضوية... وكلها صفات تغري الديماغوجيين بالتهجم عليه- لو كان حياً لشكر الظروف التي لم تتح لـ«صيفي» فرنسي أن يزن رواياته بميزان «الصيفي» العربي. كتب روايات «باردليان» تحت سلسلة عنوانها «الغيلة» أو «المؤامرة» أو ما تعبّر عنه الإنجليزية بـcloak and dagger -مصطلح مأخوذ من جلسة مجلس الشيوخ الروماني، التي خالف فيها المتآمرون قانون الدخول إلى المجلس، فأخفوا خناجرهم تحت عباءاتهم، لاغتيال يوليوس قيصر- فقدمت سلسلة من «المخازي والمعايب» حققت أوسع شهرة من غير أن يتهمه أحد بالتآمر على تاريخ فرنسا... ثم ماذا يقول «الصيفي» الأمريكي في روايات إبادة الهنود الحمر والحرب الأهلية وروايات الغرب (الكاوبوي)؟ فريد من نوعه لم نسمع من أحد أعلام النهضة وما بعد النهضة، وحتى اليوم، إلا الثناء على رائد الرواية التاريخية، رغم مآخذهم المعروفة. فلا بد أن نتساءل: كيف أغفل كل هؤلاء تلك «الحقائق» الخطيرة التي أفصح عنها «الصيفي»؟ وكيف سها نقادنا أنهم اطلعوا على الروايات في صباهم، وحكموا عليها في رشدهم، ولو أعادوا قراءتها لغيّروا رأيهم...؟ ثم هل كانوا من الغفلة حتى تفوتهم تلك الصلة المشبوهة بين كتابات زيدان والمستشرقين؟ أين كان أبو العلا العفيفي وعبدالرحمن بدوي ومحمد لطفي جمعة ومحمد مندور وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم ومحمد النويهي...؟ هل يُعقل أن يكون «الصيفي» الناقد الفريد من نوعه، الذي يعامل القضية كأنها من المسلمات؟! يبدو أن «الصيفي» ينطلق من الديماغوجية القومية -بنت القرن الماضي- التي تقدس تاريخها وتستخف بتاريخ الشعوب الأخرى. خلفية دينية قومية تحت عنوان «الخلفية الفكرية للكلاسيكية العربية دينية قومية» يكتب الباحث: ثمة فوارق جوهرية بين الأفكار التي سادت في المجتمعات الأوروبية في القرن السابع عشر، والأفكار التي سادت في المجتمعات العربية، وبخاصة مصر والشام في القرن التاسع عشر، ففي أوروبا سادت أفكار تؤثر في موقف المفكرين من الكتاب المقدس، ومن طريق الاتفاق أو التناقض أن يدع الناس الكتاب المقدس بدافع من روح العلم التي أشاعها أمثال جاليليو وديكارت ونيوتن، وأن يولعوا في الوقت نفسه ببعث تراث وثني في الآداب، والمهم الذي وراء هذا الاتفاق أو التناقض أن الأدب الكلاسيكي قد طبعه طابع عام في أوروبا، وقد ظهر هذا الأثر أكثر جلاء في أميركا، وهو التخلص من النزعة الدينية. أما في البلاد العربية بعامة وفي مصر والشام بخاصة، فقد كانت النهضة ذات طابع ديني إسلامي، ولقد حمل لواء هذه النهضة رجال في مقدمتهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي ومصطفى صادق الرافعي وعباس العقاد. د. إسماعيل الصيفي كتاب: شخصية الأدب العربي ص: 14-15
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©