الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شرخ في قلبي

شرخ في قلبي
14 ابريل 2011 20:18
تقاعد زوجي من وظيفته الحكومية بعد الخمسين من عمره بقليل، لكن يبدو على ملامحه أنه تجاوز السبعين، سقط معظم شعر رأسه، إلا قليلا وغزاه الشيب تماماً، والتجاعيد على وجهه كأنها بصمات السنين، وحصل على مكافأة نهاية الخدمة وكانت مبلغاً لا بأس به، وقرر أن يستثمر المال في أي مشروع، ويستفيد من تشغيله ويسد وقت فراغه، خاصة أنه من النوع الذي لا يحب البقاء بلا عمل. فكر زوجي كثيراً فوجد نفسه لا يفهم في أي مشروع استثماري، ولا يريد أن يكون معه شركاء حتى لا يختلفوا، ويريد أن يكون صاحب القرار، ولجأ إلى الكثيرين من أصدقائه ومعارفه يستفيد بآرائهم في اختيار المشروع المناسب، ومنهم من أشار إليه بأن يريح رأسه ويودع المبلغ في البنك ويحصل على عائد يضمن عدم الخسارة، ومنهم من أشار بأن يشتري سيارتين أو ثلاثاً لتشغيلها بالأجرة لكن تدخل آخر وقال متسائلا: ماذا لو تعرضت السيارة لحادث فإنه سيخسر كل شيء، وهكذا توالت الأفكار إلى أن استقر زوجي على إقامة مصنع للمواد البلاستيكية يعتمد على المواد الناتجة من القمامة، وذلك بعد دراسة نظرية قالوا إنها دراسة جدوى. خلال عام تم إنشاء المصنع وبدأ التشغيل والإنتاج، وبسب قلة خبرة زوجي في هذا المجال ولسوء التوزيع، ولعدم متابعة المبيعات، توقف العمل وأصبح زوجي من المفلسين وقد ضاع كل ما يملك وأصيب بأزمة نفسية حادة كادت تودي بحياته، ووقفت بجانبه وقمت بدوري كزوجة كما يفرض عليَّ ديني وأخلاقي وتربيتي، إلى أن خرج من هذه الأزمة التي تركت رواسب في نفسه، ولم يكن قادراً على التخلص منها تماما لأنه صاحب شخصية لا تقبل الهزيمة، تقترن بالعناد، ويرفض الاعتراف بالواقع. أبنائي الثلاثة في ذلك الوقت ولدان وبنت كانوا يدرسون في المرحلة الجامعية، وفي كليات عملية ويحتاجون إلى مصروفات كبيرة، وأنا موظفة عادية، وراتبي يكفي بالكاد متطلبات الحياة الأسرية، وزوجي بدلا من أن يتولى هذه المسؤولية تحول الى عبء علينا خاصة بعد خسارته في تجربته الاستثمارية، وحتى يهرب من هذه الأوضاع ويخفف عني قرر أن يسافر إلى الخارج بحثاً عن عمل، ولأنه متعجل، سافر قبل أن يحصل على عقد أو يجد وظيفة محددة. كانت خسارة المصنع أقل وقعاً وتأثيراً علينا، لأنها أموالنا وضاعت ولا مشكلة، لكن السفر غير المحسوب كانت خسارته أكبر، فزوجي لم يعثر على أي فرصة عمل مناسبة أو غير مناسبة، واضطر للاستدانة كي يعيش، وعرفت أنه يعاني الأمرين، ويحز في نفسه ما هو فيه، وما نحن فيه، وبدأت استجديه واستحلفه وأرجوه أن يعود لأننا بحاجة لوجوده معنا لكن كبرياءه مازال يمنعه، ورفض مع أن ديونه كل يوم في ازدياد، حتى فوجئت بمن يحضر من طرفه ويطالبني بالسداد، وقد دفعت له حقه صاغرة حتى أحافظ على كرامة زوجي وهو في هذه الظروف. مع ضيق ذات اليد ومحدودية راتبي وكثرة المطالب لم أنس مستقبل أبنائي، فالأول في كلية الهندسة ويحتاج إلى مكتب ليزاول عمله بعد التخرج، والثاني في كلية الطب ويحتاج إلى عيادة خاصة، والثالثة في كلية الصيدلة وتحتاج إلى صيدلية، لم أجد أمامي إلا اللجوء إلى البنك وحصلت على قرض كبير دفعته كمقدمات لهذه المشروعات الثلاثة في وقت واحد في تصرف هو أقرب إلى الانتحار أو الجنون، لأنني سأكون مطالبة بنفقات زوجي والمنزل والأبناء ومصروفات دراستهم وتسديد الأقساط المتبقية للملاك أو تسديد قسط البنك، وكنت عندما أفكر في الأمر لا تعرف عيناي طعم النوم، ويتملكني الخوف من المجهول القادم والوضع الذي لا أعرف أن كنت اخترته أم أنه واقع لابد منه ولا أجد أمامي غيره، وسرح خيالي بعيدا وأنا اتساءل ماذا لو عجزت عن السداد، فلا أجد جواباً غير أن السجن سيكون في انتظاري، ورغم أنني صاحبة دموع فياضة تسيل لاتفه الأسباب وأضعف المواقف، فإنني بحثت عنها في هذا الموقف فلم أجدها. لم أجد أمامي الا ربي، لجأت إليه واستعنت بالصبر والصلاة، فجاءني الفرج من حيث لا أحتسب، ولا أدري كيف تم الوفاء بكل هذه المتطلبات، وكل ما هو ملموس لي أن زوجي بعد أن ضاقت به الحال في الخارج وقضى عامين بلا فائدة عاد والتحق بعمل مناسب وساهم في هذه المطالب، ولأن طمعي في كرم ربي كبير وأنه لن ينساني ولن يتركني، فقد قمت بحجز ثلاث شقق متجاورة في بناية واحدة لأبنائي ليكونوا معاً متماسكين مترابطين متقاربين، ووفقني الله الى ما أقدمت عليه. انتهى أبنائي الثلاثة من دراستهم وتخرجوا ليجدوا أنفسهم في وضع جيد أفضل بكثير من أقرانهم، وعلى الفور تقدم لابنتي شاب ميسور، كان زاهدا فيما أعددت لها ورغم هذا كنت مصرة على أن تحتفظ بما خصصته لها واعتبرته حقها، وفي النهاية اتفقنا نحن وهي وزوجها على أن تبيع الشقة والصيدلية ويضيف اليها زوجها مبلغاً على الثمن ويحضر لها بدلاً منهما في مكان أفضل وأكبر، وبقدر ما فرحت وسعدت بزواجها، بقدر ما حزنت على فراقها، خاصة وهي تقيم في مدينة تبعد عني مسافات طويلة، ولن تغني الهواتف والاتصالات عن الرؤية والقرب. أما ابني الأصغر فقد حصل على بكالوريوس الطب وتزوج هو الآخر، وسافر مع زوجته لاحدى الدول الأوروبية ليكمل دراسته العليا في الماجستير والدكتوراه، فقد كان متفوقاً وكان من نصيبه منحة مجانية. أما ابني الأكبر فهو أحبهم إلى نفسي لأنه أولهم، وإن لم يكن مثل أخيه وأخته في حنانهما معي واهتمامهما بي، وأنا لا أدري سبب حبي الزائد له، وإن كنت عاشقة لابني وابنتي الآخرين، ربما يكون تعاطفاً معه لسوء حظه في زيجته، فزوجته مدللة إلى حد لا يطاق ولا يناسبنا، تنظر الى الناس جميعاً من علو، وابني غاية في الهدوء والطيبة، اذا تحدث فهو مثل الفتاة العذراء صوته خفيض، ومثل أخيه وأخته، ربيتهم جميعاً على الأخلاق والالتزام، عانى كثيراً من الخلاف معها في وجهات النظر وطريقة التعامل ولم يعرف كيف يتفاهم معها، حتى أن هذا الحليم الوديع غضب وخرج عن شعوره وطباعه، وضربها ولكن بعد أن اهانته وسبته بأبيه وأمه. وزاد الأمر تعقيدا أنها حررت ضده محضرا بالشرطة تتهمه بضربها فوصلا الى طريق مسدود بعد أن تم استدعاؤه كالمجرمين والتحقيق معه، ووصل الخلاف إلى إجراءات الطلاق، لكن الأمر ليس بهذه السهولة حيث إن بينهما طفلتين ستدفعان ثمن الانفصال ولا يعلم الا الله كيف تكون النهاية. مع هذا كله تسامحت فيما أصابني من أذى في نفسي وولدي وزوجي، ولجأت إلى العقلاء من المقربين وإلى أهل الخير للإصلاح بينهما، مع أن قلبي لا يطيقها، ونفسي لا تقبلها. ومع زواج ابنتي وإقامتها في مدينة بعيدة، وسفر ابني الثاني والقطيعة التي فرضتها زوجة ابني الأكبر، فجأة وجدت نفسي وحيدة بعد أن انتقل زوجي إلى الرفيق الأعلى، ووصلت في عملي إلى سن التقاعد، ولم يعد لدي ما أفعله، صحيح أنني حققت كل أحلامي وطموحاتي وما كنت أريده لأبنائي، لكن الوحدة قاتلة، فليس هناك من يؤنس وحدتي، قد يظل باب مسكني مغلقاً لعدة أيام متصلة لا أفتحه الا لإخراج القمامة. فكرت يوما بعد أن ضقت بهذه العزلة أن أزور ابني في بيته الذي لم أدخله الا مرة واحدة منذ تزوج قبل خمسة أعوام، توهمت أنني سأعد مفاجأة له ولزوجته ولابنتيه، وحملت الحلوى والفاكهة واللعب للصغيرتين وتوجهت إلى هناك عصراً حيث يكونون جميعاً قد عادوا إلى المنزل، وجدتهم يتناولون الغداء، دعاني ابني لاشاركهم، لكن في الحقيقة لم تكن دعوته جادة في الوقت الذي صمتت فيه زوجته عن جميع الكلام المباح، حتى أنني فهمت من تلميحها في حديثها معي أنني ارتكبت خطأ جسيماً لا يغتفر، لأنني حضرت بلا اتصال وموعد مسبق، أصابني حديثها بصدمة وذهول، وتحجر تفكيري لدرجة أنني عجزت عن الرد بأي شكل سواء بالنفي أو القبول أو الموافقة أو الاستنكار، فقد دارت بي الدنيا للحظات فقدت فيها التركيز، وبمجرد أن أفقت، نهضت عائدة إلى منزلي ولا أدري كيف وصلت، وجادت عيناي بالدموع، بكيت كما لم أبك في حياتي، حتى عندما فقدت أبي وأمي وزوجي، فهذه الشقة التي تريدني أن أحضر إليها بإذن وتصريح مسبق اشتريتها من عرقي وجهدي ومالي، وإن لم تكن لي فهي بيت ابني. اتخذت قراراً لا رجعه فيه، بأن تكون تلك هي زيارتي الأخيرة لها، لكن ما يؤلمني أنني أرى في عيني ابني حزناً دفيناً، وأنه يعاني شيئا ما لا يريد أن يبوح به، وأنا لا أجد غير هذه المرأة النكدية، فهو لا يزورني الا على فترات متباعدة ولدقائق معدودة، أحياناً لا يجلس ويظل واقفاً إلى أن ينصرف، رغم قرب المسافة بينه وبيني، ولم تفكر زوجة ابني على مدى سنوات طويلة في أن تزورني ولو مرة واحدة، حتى أنني عندما فقدت أخي الأكبر ثم أختي، لم تكلف خاطرها لتقدم اليَّ التعازي ولو باتصال هاتفي، وأيضاً بعدما وقعت فريسة لأمراض الشيخوخة مازالت عند موقفها. أصبح ابني هذا من أصحاب المشروعات والأعمال وكان مشغولا طوال الوقت، ولذا كنت ألتمس له العذر في قلة زياراته لكنني مثل كل أم أريد أن أراه سعيداً بحياته ونجاحاته وأمواله الكثيرة، فمازالت سيارته من الماركات القديمة جداً ولا تليق به، ومازال يقيم في تلك الشقة التي اشتريتها له، ويدفعني حبي له أن أحدثه في ذلك، فيجب أن يشتري سيارة حديثة فاخرة، وفيلا فخمة ويستقدم، خدماً وسائقين، وكررت ذلك كثيرا، إلا انه في كل مرة يتهرب من الإجابة، إلى أن حدث ما كسر قلبي المشروخ، وعلمت بالصدفة البحتة عن طريق زوجة ابني الثاني، أن ابني الأكبر هذا عنده كل ما كنت أتمناه له، لكنه يخفي عني كأنني حسود لا أتمنى له الخير، بل اشترى سيارة خاصة لزوجته من ذوات الدفع الرباعي وسيارة أخرى خصصها للصغيرتين واستأجر لها سائقاً خاصاً لتوصيلهما إلى المدرسة والنادي وصديقاتهما. كان شرخ قلبي هذه المرة أكبر مما فعلته زوجته في بيته، فإن كنت أنا حماتها، فإنني أمه، لم أجد سبباً ولا مبرراً لتصرفه، ولم أقتنع بما ساقه ابني الثاني وابنتي بأن زوجته هي السبب، لأنني ما كنت أريد أن أشاركه ولا أطالبه بشيء، فقط كنت أريد أن يكون سعيداً وأعلنت القطيعة والخصام. لكن لم يتغير حبه في قلبي.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©