الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندي أمل (1/2)

1 أغسطس 2016 22:25
كان يجلس في المقهى وحيداً، يحتسي فنجان قهوته، يحاول أن يخط بقلمه مقاله الجديد، فهو لا يستطيع الكتابة أو التعبير عما يجول في خاطره عبر التكنولوجيا الجديدة «اللابتوب» أو حتى آلة الطباعة التقليدية، والتي كانت سائدة، وربما لا تزال منذ قرنين من الزمان، لم يكن يستطيع الإحساس بما يكتب ما لم تمتزج أنامله بالقلم، تحتضنه وتعتصره تارة، وتحنو عليه تارة أخرى، وهي تخط الحروف وترسم الكلمات، ليصب فيها الإحساس عسى أن تنبض الكلمات بالحياة، وفي خضم كل الأحداث المتلاطمة والمتسارعة من حوله، والتي لا تستقر على حال، تمنى أن يكون مقاله اليوم مختلفاً عما يكتب كل يوم، واحتار كيف يبدأ، فكل الدروب تؤدي إلى البغضاء المنتشرة بين بني الإنسان وتداعياتها، والتي تملأ الفضاء وتتناقلها الشاشات، فلا مفر ولا مهرب من هذه الفوضى، وهذا الضجيج الذي يحيط بنا ويحاصرنا بلا فكاك، كان المقهى يذيع أغاني أم كلثوم، وها هي تصدح بصوتها الشجي، وكأنما تدعونا لعوالم الزمن الجميل، وهي تغني الأولة في الغرام للموسيقار زكريا أحمد، وشعر بيرم التونسي، كان زكريا أحمد علامة فارقة في الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن الماضي بألحانه لكثير من المطربين، ومنهم كوكب الشرق أم كلثوم، والتي خلدتهم معاً وعلى مر الأجيال، ومعهم التونسي، وهو من أشهر شعراء العامية في مصر، أم كلثوم التي كان يجتمع العرب لسماعها في كل البلدان في سهرة الخميس من بداية كل شهر عبر المذياع ليتذوقوا الفن والغناء الأصيل، وأخذته الذكريات بعيداً مع اللحن والكلام، وصوت أم كلثوم لسنوات طويلة جداً مضت مع الذكريات، ليتذكر جارهم الصغير عيسى حين مرض وفارق الحياة، وكانت أمه كلما سمعت هذه الأغنية تبكيه حزناً لفراقه، وحين تشدو أم كلثوم مقطعاً منها يقول «حطيت على القلب إيدي وأنا بودع وحيدي وأقول ياعين.. ياعين بالدمع جودي ياعين» ولهذه الأغنية قصة، ففي عام 1944 توفي محمد ابن الموسيقار الشيخ زكريا أحمد، وحزن عليه حزناً شديداً فطر قلبه وعافت نفسه الدنيا، لدرجة أنه لم يذرف دمعة واحدة من شدة حزنه، وزارته أم كلثوم لمواساته ولعلها تستطيع إخراجه من حالة اليأس والقنوط التي حلت به، ولم تفلح في التخفيف عنه، وفكرت أن الوحيد القادر على إخراجه من حزنه هو نديمه وصديق عمره الشاعر بيرم التونسي، فقالت «ابعتوا لبيرم»، كان بيرم وقتها بالإسكندرية، ولم يعلم بما جرى، وعندما عاد إلى القاهرة كان قد مر على الحادثة أيام، فلما دخل بيرم عليه لم يشعر به زكريا لأنه لم يكن يعي ما حوله من شدة تأثره وذهوله، عندها أدرك بيرم أنه لن يخرج من تلك الحال سوى بالموسيقى والشعر، فاسمعه «الأولة في الغرام»، حتى وصل إلى المقطع الذي يقول فيه، حطيت على القلب أيدي وأنا بودع وحيدي وأقول يا عين.. يا عين بالدمع جودي ياعين، فانسابت دموع الشيخ زكريا وأخذ في البكاء، وبعد أن هدأ قليلاً أمسك بعوده ليبدأ بتلحينها وهو يبكي، فأبكى معه بيرم، وظلا يبكيان معاً تارة ويدندنان، وبعد ليلتين اكتمل اللحن، لتخرج إلى النور تلك الأغنية الخالدة «الأولة في الغرام». ذاك كان عهد من زمن جميل مضى، وها نحن وعبر عقود من الزمان، نجتر ذكريات من ذاك الزمان بمرها وحلوها، ونستحضرها علناً، نرطب بها جفاف واقعنا المؤلم، وقسوة أيامه ومرارة أحداثه، ونتساءل، أليست الحياة هي هبة من الله لنا وها نحن نفرط فيها بين بغض وشقاق وفرقة وتناحر، حتى وصل الأمر بنا حد الاقتتال والاحتراب، وعدونا الوحيد يجلس في شرفته يدندن أغنية الظفر ويلحنها ويغنيها ويعيش أحلى أيام حياته بيننا، تملأ الغبطة قلبه والحبور، وترتسم البسمة والضحكات على محياه والسرور، مزهواً بنصره، فهو لم يعهد مثل هذه الراحة والعطلة، ولم يتمتع بإجازة واحدة وهو بيننا منذ سبعة عقود عاشها في خوف وقلق وترقب وتخطيط ومكر وتدبير، وربما كان مبالغاً في قلقه، فنحن كنا ولا نزال في غفلة عنه، لاهين معظم تلك العقود والعهود. مؤيد رشيد - أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©