الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

علم البيان «19»

31 يوليو 2016 23:12
حينما ألَّف الجاحظ كتابه «البيان والتبيين»، بدأه بما يلائم اسم كتابه وموضوع بحثه، فتعوذ بالله في الكتاب من العي والحصر، كما تعوذ من السلاطة والهذر، وهذا يدل على أن معنى «البيان» عنده هو الاقتدار على الكشف عما في النفس من غير فضول أو سلاطة أو هذر، ولعل أهم الأسباب التي دفعت الجاحظ أن يبحث في البيان العربي هو رد عادية الشعوبية الذين لا يرون للعرب فضلاً على غيرهم من الأمم، ولا يقنع الجاحظ أن يدافع عن العرب وبلاغاتهم وبيانهم، وأنه فيهم طبع وسليقة فقط، إنما يسير في الشوط إلى مداه، ويعمد إلى هدم حجج الشعوبية. وبما أن البيان القولي الذي يبدو في خطب العرب وحكمهم ووصاياهم وأمثالهم، معدود من أهم مظاهر بلاغتهم، فإن الجاحظ يقصر كلامه في هذا المقام على فن الخطابة، ويبرز تفوق العرب وأصالتهم فيه، ويؤكد أن كل شيء لهم إنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاينة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف القائل وهمه إلى الكلام، وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني إرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده، وقد كانوا أميين لا يكتبون، ولكنهم مطبوعون لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد. ولا يقصر الجاحظ البيان في فن التعبير القولي أو التعبير الكتابي وإنما يدرسه بمعناه الأوسع، معنى الكشف والإظهار والإبانة عما في النفس، ولذلك تراه ينقل عن بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني أن المعاني القائمة في صدور الناس، والمتخلجة في نفوسهم، والمتصلة خواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، ولا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون له على أمور، وعلى ما يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره، وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهم إياها. وعلى قدر وضوح الدلالة، وصواب الإشارة وحسن الاختصار، ودقة المدخل يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع، والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان. وقد أحصى الجاحظ أصناف الدلالات على المعاني، وحصرها في خمسة أشياء: 1) الدلالة اللفظية 2) الإشارة باليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب 3) الدلالة بالخط 4) الدلالة بالعقد: وهو ضرب من الحساب يكون بأصابع اليدين ويقال له حساب اليد 5) النصبة: وهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض، وكل صامت ناطق، وجامد ونام، مقيم وظاعن، زائد وناقص. والدلالة هي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. ولسنا في حاجة إلى إثبات أن تلك الدلالات - عدا دلالتي اللفظ والكتابة - لا يمكن أن تعد من البيان إذا كان مقصوداً به الأدب، لأن الأدب قبل كل شيء تعبير، والتعبير لا يكون إلا باللسان أو بالقلم. وقيمة البيان أو الأدب في رأي الجاحظ ترجع إلى إقامة الوزن، وتمييز اللفظ، وسهولة المخرج، وإلى صحة الطبع وجودة السبك، لأن الأدب أو الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير. أما المعاني فإنها - في نظره - مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والعجمي، والبدوي والقروي. وهذا الرأي يدل على مذهب من المذاهب، كان الجاحظ أول من نادى به في نقد الأدب العربي، وهو مذهب الصناعة، والافتنان في الصياغة، فالنظرة إلى الأدب ينبغي أن تكون إلى مقدار ما حوى من آثار الصنعة من جودة التشبيه، وحسن الاستعارة، وابتكار الصورة التي يتميز صاحبها على غيره من الأدباء بمقدار ما تأنق فيها، وبمقدار ما غالى في إبراز الفكرة على هيئة غير ما عرف الناس. * المرجع: البيان العربي - دراسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب ومناهجها ومصادرها الكبرى - تأليف الدكتور بدوي طبانة طبعة منقحة 1972م. إياد الفاتح - أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©