الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«تسونامي» وتماسك المجتمع الياباني

13 ابريل 2011 20:42
عدت مؤخراً إلى منزلي هنا في ضاحية سينداي اليابانية، بعد أن هربت مع عائلتي بعد وقت قصير من هروبي معها على إثر كارثة الزلزال والتسونامي الأخيرة. فقد تغير كل شيء في هذه المنطقة في مساء الحادي عشر من مارس المنصرم. فقد حصدت الكارثة أرواحاً كثيرة ودمرت منازل الأحياء منهم، وهذه خسائر ليس ممكناً التقليل من شأنها بأية حال. ما أدهشني حقاً حين عدت لألملم ما تبقى لي في منزلي، رؤيتي لقلة تكاد لا تذكر من المنازل المدمرة، وعودة الحياة إلى طبيعتها بسرعة لم أكد أصدقها. فقبل ثلاثة أسابيع فحسب من اليوم، كانت صفوف السيارات تقف على طول كيلومترات عديدة في انتظار قطرة من الوقود الذي يحرك ماكيناتها. ومن شدة طول هذه الصفوف والتوائها مثل الثعابين، يستطيع المرء بالكاد أن يجد لسيارته منفذاً يؤدي به إلى الطريق العام بينها. أما اليوم فقد تقلصت هذه الصفوف إلى بضع سيارات فحسب. والأعجب أنها تتحرك وليست واقفة تراوح مكانها كما كان عليه الحال قبل ثلاثة أسابيع. كما اختفت كذلك صفوف المشترين الطويلة التي كان يقف فيها الناس لعدة ساعات على أمل الوصول إلى البقالة لشراء حاجاتهم وأغراضهم الضرورية. ومع اختفاء تلك الصفوف، اختفى كذلك أولئك المسؤولون الذين كلفوا بشرح قواعد توزيع المواد والسلع الاستهلاكية للمواطنين عبر المايكرفونات اليدوية المتحركة التي كانوا يحملونها. وقدت سيارتي عند عودتي في الطريق العام، مدققاً في جدران المنازل والمباني المحاذية للطريق بغية رؤية ما تبقى من شقوق من أثر الزلزال والتسونامي، ولكني لم ألمح شيئاً منها على الإطلاق. ثم واصلت القيادة حتى وصلت إلى الضاحية التي أقيم فيها، فزرت جيراني وقدمت لهم بعض الهدايا واطمأننت على حالهم وتجاذبنا معاً أطراف الأنس وحديث الجيران الأحباب. ولكني احترت كثيراً لعودة الحياة والنظام إلى الحياة العامة في الضاحية، قياساً إلى الفوضى العارمة التي تركناها وراءنا في منزلنا السابق. فكل شيء من هذه الفوضى الداخلية يدل على مدى عنف الزلزال الذي ضرب المنطقة. ولما كنت قد واصلت الإقامة في اليابان منذ عام 1989، فلا شك أني أمضيت عقوداً من حضور الهزات والزلازل الخفيفة. ولكني اليوم أجفل خائفاً من أي هزة من الهزات الصغيرة التي أعقبت زلزال الحادي عشر من مارس المنصرم. فما حدث في مساء ذلك اليوم الهادئ الذي صادف يوم الجمعة، هو أن الهزة الأرضية القوية التي أعقبتها موجات "التسونامي" العاتية، أحدثت دماراً لا مثيل له في أي مجتمع مدني حضري في تاريخنا الحديث. ولقد رأيت بعيني مناطق مسحت فيها أحياء وضواح بكاملها، أي ببيوتها وساكنيها وأثاثاتها، بعد أن غمرتها أمواج التسونامي. وعلى مستوى الخسائر المادية، فإنه يصعب جداً تصور حجم الدمار الذي أحدثته تلك الكارثة. وبالقدر نفسه فإنه يصعب جداً تخيل وقوف بعض المباني في مكانها دون أن تتأثر بشيء من تلك الهزات ولا موجات التسونامي الجامحة. وللحقيقة فإنني لا أقصد المباني وحدها، إنما أضيف إليها الهياكل الاجتماعية اليابانية القوية التي لم تهتز لها شعرة واحدة رغم طوفان "التسونامي" وقوة الهزات الأرضية. وحين عدت إلى منزلي، لم يكن عليّ أن أتلمس طريقي وسط ركام الحطام الذي خلفه فيه الزلزال، بل كان يتعين عليّ أن أعيد توصيل الغاز وأصنع شكلاً جديداً للحياة لي ولأفراد عائلتي. فهذا النمط المتكرر من ثنائية الموت والحياة ووحدتهما الوجودية معاً، هو ما ألفه اليابانيون الذين يتعاملون معه على أنه قدرهم الخاص الذي لا سبيل سوى الرضاء به والتعايش اليقيني معه. وقد شكلت هذه القناعة الروحية العميقة لدى عامة اليابانيين بهذه الثنائية القدرية لبنة أساسية من لبنات حياتهم. بل هي القيمة الأساسية التي تمكنهم من إعادة أي دمار تتعرض له حياتهم، سواء بفعل قوى الطبيعة أم الحروب أم غيرهما. وفي اليوم الذي حدث فيه الزلزال الأخير، لا سيما عقب انقطاع الكهرباء وخدمة الهواتف النقالة، كان علينا أن نبتكر مصادر الحياة الممكنة، وخاصة الكيفية التي نوفر بها نظام التدفئة، والإضاءة، وقبلهما قوة الثبات الروحي ومعايشة هذه الإثارة المزلزلة غير المتوقعة بذلك الحجم. ولكن المشكلة أن ثلاثاً من هذه المصادر ليس هناك سبيل لتوفيرها: الماء والكهرباء والغاز.. فما العمل؟ ثم تزايدت حالة القلق العام، خاصة بعد مضي بضعة أيام عادت معها خدمة الهواتف المتحركة، فسمعنا جميعاً بخطر التلوث النووي الذي أصاب موارد المياه والمواد الغذائية، جراء انفجار أربعة مفاعلات بمحطة فوكوشيما. ولم تمض مدة طويلة، وقد بدأت السلطات إخلاء الآلاف من منازلهم مع إجراءات إعلان منطقة العزل النووي. وبدأ التدافع نحو الطرق العامة والمطارات المؤدية إلى محافظات ومناطق أخرى بعيدة عن محيط الإشعاع النووي. وكان عليّ مثل غيري قيادة السيارة لبضع ساعات كي أصل إلى مطار "أتيكا" المحلي. ولك أن تتصور أن الوصول إلى هذا المطار، قد كلف ست ساعات من قيادة السيارة في ممرات جبلية شديدة الانحدار والارتفاع والخطر. ولم يتبق من الوقود في سيارتي سوى 23 ليتراً من البنزين، فهل كانت هذه الكمية كافية للوصول عبر تساقط الجليد الكثيف والطرق غير المأمونة؟ والإجابة الوحيدة هي عمق الإيمان بثنائية الموت والحياة، وبذل الإنسان كل ما بوسعه من أجل الحفاظ على حياته وإعادة بنائها في ظل الظروف المتاحة للبقاء. هكذا تماسكت حتى وصلت إلى مطار أتيكا، وهكذا يتماسك الشعب الياباني كله في وجه كارثة الزلزال والتسونامي. برافن سمايلي - اليابان ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم .سي. تي. إنترناشيونال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©