الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سقوط «نظرية فريدمان»!

30 يوليو 2016 23:22
ربما تكون إحدى أهم النظريات الحديثة المتعلقة بالاقتصاد الكلي macroeconomy، وهي تلك التي وضعها الاقتصادي البارز «ميلتون فريدمان» (1912- 2006)، قد فقدت بريقها الآن بعض الشيء. وقد تكون في طريقها إلى مجاهل النسيان. ويمكن أن تكون لهذا أيضاً تداعياته المؤثرة على أسلوبنا في التفكير المتعلق بوضع السياسات الاقتصادية والمالية. وتُعرف هذه النظرية باسم «فرضية المدخول المتواصل» PIH، وقد أدرجها فريدمان كمادة أساسية لبحث أكاديمي قيّم أنجزه عام 1957، وما زالت تحتفظ بقوتها وتميزها في الوسط الأكاديمي. وتؤكد هذه النظرية أن استهلاك الناس من المواد المختلفة لا يعتمد على مستوى كسبهم في هذه الأيام، بل على ما يتوقعون كسبه خلال فترة حياتهم كلها. ويقول فريدمان في نظريته: «إذا لاحظت ذات مرة أن المال بدأ في التهاطل على محفظتك، فلن تسرع إلى إنفاقه كله، بل ستفكر في إيداعه في حسابك البنكي. أما لو حصلت على ترقية وظيفية، فستبدأ بزيادة إنفاقك المالي الشهري لأن هذه الزيادة تُعدّ مؤشراً على أن قدرتك على الكسب قد ارتفعت على المدى البعيد». ولهذه الفرضية المتعلقة بالسلوك البشري نتائجها الهائلة أيضاً على السياسة الاقتصادية. وإن كان ما يقوله فريدمان صحيحاً، فإن «فرضية المدخول المتواصل» تعني أن فعالية التحفيز المالي ستكون أضعف بكثير مما كان يعتقده الاقتصاديون في ستينيات القرن الماضي. ولو تخيلنا أن الحكومات حاولت الرفع من معدلات الإنفاق بإرسال الهِبات المالية إلى الناس عبر البريد الإلكتروني، فسيفضل هؤلاء إيداع أموالهم في البنوك بدلاً من التوجّه نحو زيادة الإنفاق. وهذه الفرضية مهمة إذن في توجيه السياسات المالية. ولهذا السبب، نلاحظ أن العديد من النظريات الأكاديمية تم وضعها استناداً إلى «فرضية المدخول المتواصل». ويرى فريدمان أن المستهلكين يتجهون نحو تخفيض مستوى استهلاكهم لأنهم لا يرغبون بالوقوع في حالة الإفلاس. ومن الناحية النظرية، سيتجه الناس نحو الإنفاق في امتلاك الأصول المالية التي يمكنها أن تحقق لهم المكاسب خلال أزمات الركود وبما يجنبهم شدّ الأحزمة على البطون خلال الأيام العصيبة. وقد بلغت «فرضية المدخول المتواصل» من قوة الانتشار ما جعل كل النظريات التي تتعلق بالاقتصاد الشامل الحديث مبنيّة على أساسها. وتكرّس تلك النظريات الفكرة بمعادلة حسابية تدعى «معادلة يولير للاستهلاك» CEE ظهرت في الغالبية العظمى من النماذج الأكاديمية للاقتصاد الشامل خلال العقود القليلة الماضية، وهي النماذج التي تعتمدها معظم البنوك المركزية من أجل وضع أسعار الفائدة. وتُظهر هذه المعادلة أن مقدار ما تقرر استهلاكه اليوم بالمقارنة مع ما ستنفقه غداً يحدده سعر الفائدة المعمول به في البنوك. وهذا ما يجعل من غير المبالغة القول إن فرضية فريدمان تُعتبر بمثابة حجر الأساس في صياغة كثير من النظريات الحديثة للاقتصاد الكلي. ولسوء الحظ، فإن هناك مشكلة واحدة تعتريها، مفادها أنها نظرية خاطئة بكل تأكيد. وأنا لا أقصد طبعاً أنها خاطئة بكل ما ورد فيها، بل إنها خاطئة في بعض التفاصيل. وهناك احتمال كبير أن نجد العديد من المستهلكين الذين يختارون نفس السلوك الاستهلاكي الذي تصوّره فريدمان. إلا أن المشكلة تكمن في أن هناك كثيراً أيضاً من المستهلكين الذين قد يسلكون سلوكاً مختلفاً عن ذلك الذي أشار إليه. كما أن لدى المنظّرين الاقتصاديين المحدثين قرائن تشير إلى أن لهذه المجموعة الأخيرة كذلك تأثيرها المهم على السياسات المالية. وكانت اختبارات سابقة قد أيدت «فرضية المدخول المتواصل». ولكن، وفي عام 1990، بيّن الاقتصاديان جون كامبيل وجريج مانكيو أن نحو نصف المستهلكين فقط يخضعون لمبدأ فريدمان. وأما الباقون، كما يقولان، فيميلون إلى إنفاق كل ما لديهم لو حصلوا على مكافآت استثنائية في العمل، أو لو حصلوا على منح حكومية. ويقتصر الاختلاف في هذه الحالة على تناول مآكل أفضل وفي مطاعم فاخرة أو شراء المزيد من المفروشات واللوازم المنزلية أو تبذير الأموال بطرق مختلفة. وجاءت الضربة القاضية للنسخة الحسابية الرياضية لنظرية فريدمان عام 2006. ففي الوقت الذي تشير فيه المعادلة إلى أن ارتفاع أسعار الفائدة يدفع الناس إلى إنفاق أقل وادخار أكثر، وفقاً لما يقوله فريدمان، إلا أن الاقتصادي النظري ماثيو كانزونيري وجد أن العكس تماماً هو الذي يحدث. وقال كانزونيري إنه، بغض النظر عن الأسباب، اكتشف الحقيقة التي تفيد بأن الناس يميلون إلى الاستهلاك أكثر عندما تكون أسعار الفائدة أكثر ارتفاعاً. ويؤيد هذه النتيجة التي توصل إليها كانزونيري أيضاً بحث تم إجراؤه في آلاسكا، حيث وجد الباحثون أن زيادة العلاوات المالية التي حصل عليها السكان هناك من الصندوق الأميركي المخصص لهذه الغاية، دفعت السكان إلى زيادة الاستهلاك بدلاً من ادخار فائض المدخول في حساباتهم البنكية. وهذا السلوك يتناقض مع ما تصوّره فريدمان. وخلاصة القول إن نظرية فريدمان تميزت بقوة تأثيرها على السياسات والدراسات المالية، إلا إنها لم تتمكن من الصمود أمام الاختبارات الميدانية التي أنجزها الاقتصاديون الأكاديميون مؤخراً. *أستاذ مساعد في العلوم المالية بجامعة «ستوني بروك»- نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©