الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فتنة الجسد المبتل..

فتنة الجسد المبتل..
28 أكتوبر 2009 22:02
تشتغل رواية ناصر الظاهري “الطائر بجناح أبعد منه” كثيراً على تمثيلات ما هو مرئي في أحداثها، خصوصاً أنها تنتمي إلى روايات ما يعرف بـ “السير ـ ذاتي”، وهي الروايات التي “يضع الكاتب جزءاً من ذاته في أعماله” دائماً، كما يقول توماس كليرك. فعندما تعيش “ذات” الروائي حيوات مكانية هائلة، وتتواصل مع الكثير من الأشياء المرئية والبصرية عبر أفعال تواصلية معها حتى تمسي مادّة أساسية للتخيُّل الروائي، فإن كل تلك الذخيرة من الصور المرئية التي مرّت على الروائي في حياته، ستتحقق في النَّص الروائي من خلال تسريدها Narrativivsation تخيُّلياً لتصبح ذلك النَّص المقروء الذي يتضمَّن تمثيلات المؤلِّف الجسديَّة؛ المؤلِّف كراو ضمني، وكراو فعلي، وبالتالي الراوي الضمني والمروي عنه في آن واحد كما هو الحال مع الشخصية الرئيسة في رواية ناصر الظاهري “الطائر بجناح أبعد منه” الذي عمد فيها إلى توظيف تقنيات سردية يحضر فيها الراوي عبر ثلاثة مستويات. تمثيلات متخيَّلة يكشف نص الرواية عن تمثيلات جسديَّة متخيَّلة هائلة. ما هو مؤد، ومن منظورنا المعرفي، أن الجسد ليس الجسم Body؛ فالجسد Metabody هو كينونة إشارية وعلاماتية ورمزية بعدية. كما أن هوية الجسد “ليست شيئاً آخر سوى مجموع أشكال تجلياته”. من بين تمثيلات ناصر الظاهري الجسديَّة في روايته هذه، وفي ضوء فهمنا لمعنى الجسد، تحضر الجسديَّة النسوية المتخيَّلة كعلامة أيقونية Icon Sign مفعمة بالدلالات الأنثوية ذات الحضور الجسدي المتخيَّل. ويتضح ذلك في الفصل ما قبل الأخير الذي ختم به الظاهري روايته تحت عنوان “ما قاله الهُدهد.. ما سمعته بلقيس”، وهو الفصل الذي قدَّم له بعتبة نصية Seuil جاء فيها: “إلى نسائي الجميلات، الكثيرات، النائمات في الذاكرة لأن يوماً جميلاً كان يمضي بكنَّ ومعكنَّ في أطراف عيونكنَّ... الشقي بكنَّ دائماً، وما زال، الصامت بإخلاصه، لكن وللأبد..” (الرواية: ص 145). يوحي هذا النَّص/ العتبة بتعدد العنصر النسوي في حياة المروي عنه “إلى نسائي الجميلات، الكثيرات..”، إلا أن تمثيل ناصر الظاهري للمرأة يكثِّف الجسديَّة النسوية في أنموذج جسدي/ أُنثوي واحد لكنه مأمول، خصوصاً وأنه سيتحدَّث عن جسد امرأة مبتل بالماء، كاشفاً، من خلال نمذجة هذا الجسد Paragon، عن جسديَّة أنثوية متخيَّلة. لنقرأ المقطع النّصي الأتي: “كان يعشقُ دوماً أن يرى امرأة مبتلَّة بالماء، أو متدثرة بملابس ما بعد الحمام.. ساعتها يبدو وجهها رطباً، بريئاً كخدِّ طفل. تسترخي المرأة بعد رحلة الماء مخزنة الدفء ورائحة الطُّهر” (الرواية: ص 148). يكشف هذا النَّص عن وحدات مرئية عدَّة. ولكن لا بد من التذكير بأن النّاص Textor هنا، وهو المؤلِّف والراوي الضمني معاً، استخدم فعل “يرى”، أي أنه جعل من المروي عنه “الرائي” شريكاً في توليد وإنتاج الجسديَّة المبلولة. كما أن الصيغة الإخبارية التي بدأ بها النَّص/ المقطع “كان يعشقُ..” تمثل فعلاً تواصلياً مع جسديَّة المرأة المبتغاة، وهو فعل يحيل على جسد المرأة الكلي “يرى امرأة مبتلة بالماء”، وهو الجسد الذي لو بحثنا عن كينونته لما أدركناه سوى كعلامة جسديَّة واحدة هي أنه جسد مبتل أو مبلول بالماء. لكن هذا لا يكفي؛ فالنّاص راح يضخُّ جملة من العلامات الجسديَّة الأخرى التي تكشف عن تفاصيل هذه الجسديَّة الأنثوية المبلولة، ومن ذلك تركيزه أولاً على جسديَّة الوجه المبلول بقوله: “... ساعتها يبدو وجهها رطباً”. الحد الفاصل تمثل عملية الغُسل Washing هنا، حداً فاصلاً بين “جسم أنثوي” و”جسد أنثوي”؛ جسم ما قبل الغُسل، وهو جسم غير مبتل، وجسد ما بعد الغُسل، وهو الجسد المبتل، بمعنى أن فعل الغُسل، وبالماء تحديداً، لعبا دوراً رئيساً في توليد الجسديَّة المبلولة التي هي كينونة جسديَّة/ إشارية مضافة إلى الجسم النسوي. ولا يكاد الأمر ليختلف بالنسبة إلى “الوجه”؛ فقد كان الغُسل بالماء حداً فاصلاً بين وجهين أنثويين؛ وجه دون الغُسل وتحته، ووجه وقد انسكب وتبدّى عليه الماء فمنحه قيمة جسديَّة جديدة تكاثفت في صفة “الرطوبة”، والرطوبة مقابل “الخشونة” هي صفة محمولة على الوجه، وهي علامة جسديَّة مضافة ولدت جرّاء فعل تواصلي قوامه الغُسل بالماء. لم يكتف الراوي بذلك، بل ضاعف من طاقة الوجه الرَّطب كعلامة جسديَّة عندما لجأ إلى التشبيه؛ تشبيه الوجه الرَّطب بـ “خدّ الطفل” من خلال صفة محمولة أخرى هي صفة “البراءة”. إن وجوه الأطفال خالية من التجاعيد، نقية الملمس، بهية الجلد، ناصعة الإطلالة، بريئة المحيا. وكل تلك السمات/ العلامات Signs تجعل من هذه الوجوه بريئة من تأثيرات الشمس الحارقة والهواء المغبر، ومن تعفير هموم الحياة، ومتاعب العيش التي تظهر علاماتها السلبية على الوجه قبل أي جزء من أجزاء الجسم البشري الأخرى. ولذلك استعان الناص بكينونة وجه الأطفال كمعادل موضوعي لبراءة الوجه الأنثوي المبتل. في النَّص/ المقطع ذاته، يعود الراوي إلى ضخ جملة من العلامات التي تكشف عن الجسديَّة الأنثوية المبلولة وقد انجلت Clearness عبر ما يسميه ناصر الظاهري بـ “رحلة الماء”. وفي هذا السياق تتجلى ثلاث علامات جسديَّة هي: “الاسترخاء”، و”الدفء”، و”رائحة الطُّهر”. لو أردنا أنْ نتعامل مع نصية هذه الصفات/ العلامات الجسديَّة في ضوء نظرية جوزيف كورتيس الخاصة بـ “المربَّع السيميائي” الخاص ببنية النَّص العميقة، لوجدنا أن الاسترخاء يتضاد مع “الشَّد”، والدفء يتضاد مع “البرودة”، ورائحة الطُّهر تتضاد مع “رائحة العفن”. إلا أن ما يعنينا هنا هو مستوى البنية السطحية التي هي منتهى الغاية من السرد وغاية حضوره أمام المتلقِّي. فهذه الصفات ليست سوى علامات مضافة على الجسد المبلول، وهي التي تهبه حضوره الجسدي المغاير. إن كلاً من الماء وفعل الغسل وهبا الجسم النسوي جسديَّته المبلولة، ووهباه أيضاً طاقات أخرى قوامها الاسترخاء Relaxation بعد توتر، والدفء Warmth بعد برودة، ورائحة الطُّهر Scent Pureness بعد أن كان ملفوفاً بروائح غير ذات شذا طيب. على أن هذه الطاقات الخبيئة فتحت للجسد الأنثوي المبتل تجلياته العلاماتية التي تحيل على كينونة جسديَّة مغايرة الحضور في نصاعتها ونقائها ورطوبتها واسترخائها ودفئها وطهر روائحها الزاكية. لم يترك الراوي الجسديّته الأنثوية المبتلة تخيُّلياً في حال العري Nakedness، بل جعلها “متدثرة بملابس ما بعد الحمام”، وهي ملابس ذات طقسية جسديَّة خاصة تحيل على الجسد المبتل من جهة، وعلى تحقيق المزيد من العلامات الجسديَّة عبر ممانعة الجسد عن حضوره العاري من جهة أخرى، وإن كان هذا الحضور وحده يمثل لوحة مرئية مكتفية بذاتها. إن تدثُّر الجسد المبلول بهذا النوع من الملابس ذات الطقس الإغوائي يعني لجوء الناص إلى فكرة الحجب Covering التي تمثل في حدِّ ذاتها فعلاً تجسيدياً هائلاً كان منه الإصغاء إلى جسديَّة الوجه الرَّطب كعلامة نابضة بالحيوية والنداء الإغوائي، كما أن هذه الملابس يمكن أن تدخل مع الجسد المبتل في فعل تواصلي؛ فعل لمسي، وفعل احتكاكي، وفعل تمنُّعي، وفعل بصري بالنسبة إلى الرائي، ولكن كل مظاهر الفعل التواصلي هذه لا تجري إلا بتسوية اتفاقية؛ فالجسد نصف العاري أو العاري حتى لا يسمح لكينونته بالظهور من دون اتفاق خاص بين الرائي والمرئي. وشم إنَّ حجب جزء من الجسد بواسطة أثواب Clothes أو زينة Ornament معدنية أو حجرية أو كيميائية أو وشمية Tattoo، ليس سوى كشف عن جسديَّة أخرى منه، وهذا ما سعى إليه الناص في هذا المقطع قصد تكثيف ظهور الجسديَّة الأنثوية بأكبر قد من العلامات الدّالة والناطقة عليه، وما ملابس ما بعد الحمام سوى مؤشر واضح على ذلك. إن تجربة ناصر الظاهري في تمثيل الجسد الأنثوي المتخيَّل كجسد فاتن، وعبر روايته “الطائر بجناح أبعد منه”، تنتصر للجسد الأنثوي في تجلياته اليومية وقد دخل في تجربة الخروج من جسميته الباهتة صوب جسديته المضاءة غسلاً بالطُّهر والنصاعة والبراءة من خلال “الماء” الذي استحال إلى مرجعية في توليد الجسد الأنثوي المبلول.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©