الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البشر.. ديدان عمياء

البشر.. ديدان عمياء
8 ابريل 2015 21:04
نادراً ما تصنع الأفلام التي تتمحور حول فكرة دينية بسويّة فنية عالية، لكن فيلم مايك كاهيل (أصول العين) قدم بطريقة غامضة ودلالات رمزية جعلت منه قطعة فنية جديرة بالمشاهدة وحافزاً على التساؤل والتحليل. والفيلم يحاول أن يكتشف التوازن بين العلم والروح، ويبحث في قضية وجودية كبرى، قضية الإيمان بوجود خالق للكون بكل ما فيه. ومع ذلك فإنه لا يركز على معضلة الإيمان الأخلاقية في مجتمع معين، ولكنه يقفز إلى جوهر الصراع بين المنطق العقلي والإيمان الروحي، ولم يتوجه نحو مناقشة هذه القضية بقدر ما أعطى كل القوة للعواطف الإنسانية. يبدأ الفيلم في مختبر أبحاث لثلاثة علماء يجرون تجاربهم على الديدان العمياء وينتقل في رحلة حج إلى مزرعة، ثم إلى رحلة بحث عن الإيمان، حيث تتمركز فكرة احتمالية انتقال التشابكات العاطفية من عقل إلى آخر بعملية تشبه التناسخ (ولكنها ليست كذلك) حتى بين الهند والولايات المتحدة الأميركية!. صراع الأضداد يتحدث الفيلم تحديداً عن قصة حب بين إيان غراي (مايكل بيت) طالب دراسات عليا في مختبر أبحاث، وصوفي (أسترايد بيرغز فريسبي). غراي، يبحث في تطور العين البشرية مع كارين (بريت مارلينغ) وكيني (ستيفن يون)، من أجل اثبات أن العيون لم تكن في بدء الخليقة كما نعرفها، والبصر أو القدرة على الرؤية لم يكن كما نعرفه، بل تشكل وتطور (نظرية النشوء والارتقاء) في الكائنات الحية أثناء تاريخها الطويل. إذن، إيان باحث ملحد، ويشن حملة لإثبات أن العين هي نتاج للتطور وليس من التصميم الذكي لخالق الكون. صوفي، من ناحية أخرى، متجذرة في الروحانية والدين. إنها مباراة كلاسيكية بين الأضداد التي تنجذب إلى بعضها البعض، وقد عكس بناء السرد هذه المباراة بشكل جيد. فقد حمل الحوار معاني جميلة لأفكار خلاقة، إذ حرص «كاهيل» على أخذ الوقت كله في الفيلم وهو يحاول خلق توازن بين العزيمة والإرادة الإنسانية وبين القدر. نسمع صوت البطل في أول مشهد في الفيلم يقدم لقصته ويقول إن كل مخلوق على وجه الأرض يملك زوجاً من العيون الفريدة، كل لها بصمتها الخاصة التي لا تتكرر، ولها كونها الخاص. ويعرض صورة لعيني صوفي، الفتاة التي أحبها والتي كانت شخصيتها تختلف عنه اختلافاً عميقاً في كل شيء. إيان غراي، يرحل بعيداً وباندفاع وقوة مع طريقة صوفي الصبيانية المجنونة في الحب، لكنه يجد أن معتقداته العقلانية (كما يظنها) توضع على المحك بمجرد أن يلتقيها في حفلة هالوين، امرأة مثيرة للاهتمام، جميلة تتصرف بغرائبية تثيره، وتدعي أنها على اتصال مع عالم الأرواح، وهي نفسها روح حرة تسبح في أشعة الإيمان الدافئة وتعيش على حدسها. يقوم من أول لقاء بتصوير عيناها، وهو الرجل المهووس بدراسة البصر والعيون وجمع صورها أيضاً. صوفي برقة روحانيتها تجبر غراي العالم المدمن على البراهين العقلية، إلى إعادة ترتيب أفكاره وتوجيهها إلى منحى معاكس. وعلى الرغم من اختلاف معتقداتهما ينتهيان بالتخطيط للزواج. في يوم الزفاف تتصل به زميلته العالمة كارين لتخبره أنها استطاعت أن ترصد تطوراً في بنية خلايا الديدان العمياء وأنها رصدت خلية حساسة للضوء، أي الخلية المبصرة، مما يعني أن الدودة كانت تملك الصبغية التي بإمكانها أن تتطور لتجعل منها كائنا يبصر، وهذا هو ما كانا يبحثان فيه ويحاولان إثباته طويلاً. تمتعض صوفي وتقول له إن الإنسان مثل الدودة العمياء. فعدم استطاعة الكائن رؤية الضوء لا يعني أنه أعمى، وعدم رؤية الإنسان لله لا تعني أن الله غير موجود. يتجادل غراي معها كثيراً ومراراً، وسرعان ما يبدأ يفقد صبره برؤاها وأفكارها، وربما كان هذا ما غير من توازنهما الروحي معاً. وتسبب بخلق طاقة سلبية أدت إلى مأساة، أو هكذا اعتقد إيان غراي، ففي المختبر وأثناء جداله معها تتأذى عيناه بسائل مخبري يقع عليهما بشكل قدري غير مقصود، ينتهي بعينين مضمدتين، فتصحبه صوفي إلى شقتها. يتعطل المصعد ويؤدي إلى حادث مروع. تقضي صوفي بين يديه بطريقة مأساوية تسبب له صدمة، وحزنا شديدا يجعله ينعزل في بيته ويترك كل أمور حياته، حتى أبحاثه. بعد فترة تنجح كارين بإخراجه من حزنه وعزلته. ويعودان للعمل المتعاون على نظريتهما من جديد، قبل أن يعود الماضي إلى مطاردتهما. عود على بدء بعد سبع سنوات ينشر غراي كتاباً هو بمثابة صفعة لمن يؤمنون بالخلق والخالق، بينما كارين حامل بأول طفل لهما. يولد الطفل وتجري له المستشفى مسحاً للقزحية حتى يتسجل في قاعدة البيانات الوطنية، فيظهر المسح أن عينيه تتوافقان مع عيني رجل آخر. تظن الطبيبة المسؤولة أنها ومضة خاطئة من النظام الجديد. لكنها تعاود الاتصال بعد عدة شهور وتعرض على غراي وكارين إجراء فحوصات على الطفل مرة أخرى لأنها تشك في احتمال إصابته بالتوحد. تثير دراسات الطبيبة سلوك غراي فيقرر السفر إلى ايداوا ليكتشف أن الشخص الذي تطابقت بصمة القزحية الخاصة به مع بصمة القزحية لطفله قد مات قبل عامين، تماماً قبل أن يعلما بالحمل، ما يوحي بنوع من التقمص لروح الرجل المتوفى، الأمر الذي لم يكن غراي ليفكر بإمكانيته حتى. يلجأ غراي وكارين إلى زميلهما السابق العالم كيني، المؤسس لقاعدة بيانات مسوحات القزحية، فيساعدهما في الاطلاع على صور المسح لعيون بعض الموتى، ليريا إن كان هناك أي تطابق سابق آخر. أمام دهشتهم تتطابق بصمة قزحية صوفي مع بصمة قزحية طفلة صغيرة من الهند، يسافر غراي إلى الهند ليبحث عنها. يكتشف أن الطفلة كانت يتيمة ومن الصعب إيجادها. يضع إعلانا كبيراً في وسط المدينة فوق بناء في وسط السوق، يحمل صورة عيني صوفي ويعرض جائزة للشخص الذي تكون له مثل هذه العيون. بعد أن كاد ييأس من إيجادها، تظهر الطفلة سالومينا أمامه فجأة وهي تحدق في العينين المعروضتين في لوحة الإعلانات. يأخذها إلى الفندق ويتصل بكارين عبر سكايب لتجري مسحاً لعينيها على أمل أن تتطابقا مع عيني صوفي، لكن النتائج تأتي غير حاسمة وفيها عشوائية كبيرة. يتحدث مع كارن قائلاً إنه يشعر بالغباء من ركضه وراء هذه الفكرة الخاطئة، ويتجهز لمغادرة الفندق مع سالومينا التي تصاب بالذعر الشديد وتنخرط في نوبة بكاء من منظر المصعد، يضمها فتهدأ، يبدأ غراي بدهشة تقبل فكرة أنها قد تكون متصلة بروح صوفي بطريقة يصعب اثباتها عن طريق العلم. ثم نرى غراي وهو يواصل أبحاثه على مسح قزحيات شخصيات مشهورة راحلة لإيجاد بعض التطابق، محققاً بعض النجاح. ذلك السلوك كان مناقضاً تماما لعدم اعتقاده بقضية الخلق والخالق لكنه مع ذلك يبحث بعيداً وعميقاً في هذا الاتجاه ويسافر بعيداً في العالم ويخاطر ليجد ما يشكك باعتقاده ويهزه بقوة. مفتاح الروح يقال في تراث معظم الحضارات أن العين مفتاح الروح لأنها تطل على أعماق الإنسان ولكن الفيلم ذهب لقضية أبعد من ذلك... ذهب إلى قضية كبرى، قضية ذكاء الخالق والخلق، مع أنه، أي الفيلم، بدا غارقاً في العلم والعقلانية من جهة والحب والعلاقات الرومانسية من جهة أخرى في بدايته. تتردد الصور بين الصامتة والسريالية، وينتقل الفيلم نقلات سريعة تقحم المتفرج في عمليات تفكير وتحليل مع الأحداث، لتقوده في النهاية إلى فكرة أن وجود الخالق حقيقة لا يمكن إنكارها. يقفز المخرج والمؤلف المبدع كارهيل في عمله من فكرة إلى فكرة ومع ذلك يبقى حيادياً لا يميل إلى طرف دون طرف، تاركاً للمشاهد الحرية المطلقة باتباع الرؤية التي يقترحها الفيلم أو بعدم اتباعها. عندما تضرب مأساة موت صوفي بعنف تخضع لهجة الفيلم إلى تحول غريب، لم يعد مجرد قصة حب رومانسية، وإنما بات قصة خيال علمي، ويبدأ المشاهد بالتشوق للبحث ونتائجه، ويبدأ بالشعور بصرخة الرعب والقشعريرة عند كل زاوية مظلمة من زوايا تطور القصة، وتأخذه المختبرات العلمية إلى بحث مختلف وهو البحث عن الذات. في الثلث الأخير من الفيلم يجعلك المؤلف والمخرج تفكر في أسرار الحياة التي لا يجد الإنسان إجابة لها: كيف وصلنا إلى هنا، وأين نذهب؟ مع ظهور مجموعة من القرائن تبدو عشوائية ولكنها تسعى للكشف عن الغموض العلمي، بشكل يملأ المشاهد بالدهشة، يتساءل العالم غراي مثلاً: ماذا لو كانت العينان مرآة للروح فعلاً، ماذا لو كانت هناك روح بالفعل؟ المرأة في الفيلم جسدت ما ينطوي عليه الإنسان من روح وعقل، صوفي الحالمة التي يمور عالمها بالأطياف وتتمثل وحدة الخالق عبر اتصال العوالم والأزمنة، وكارين العالمة التي تمثل العقل والبراهين العلمية الملموسة بالحواس. وهي صورة جديدة بعيدة عن الصورة النمطية التي رسمت للمرأة سابقا. كانت المرأة هي شطري الحياة المكتملين التي تمثل إنسانية الإنسان الكاملة. الفيلم يدور في الظلال الرائعة، في التحول من الحب الرومانسي إلى الإثارة الوجودية. نعم، هناك لحظات عديد ة أثناء الفيلم يسحب البساط فيها من تحت قدمي المشاهد، لحظة يظن أنه قبض على الفكرة، انه فيلم التناقضات الموضوعية: الإبصار والعمى، فيلم الحب الوجودي (كما يتضح مع صوفي) مقابل الحب الحقيقي (كما كان مع كارين)، الإيمان والعلم. كان السيناريو مليئا بعبارات ثنائية المعنى. وإذا كان النصف الأول من الفيلم هو الحب وآلامه، ففي النصف الثاني يحملك تانغو الإيمان بعيداً عبر أدلة مثيرة. في الواقع، إيان وكارين كانا يظنان في وقت أنهما يلعبان دور الخالق في خلق الخلية المبصرة ولكن سرعان ما يظهر لهما أن «الله» أكبر منهما ومن كل مفهوم اختبراه في حياتهما. أما التمثيل فكان بمستوى رائع حتى بالنسبة لأولئك الذين ينظرون ببرود وعدم اقتناع، كان عليهم أن يعترفوا بمستوى التمثيل الممتاز، والتصوير العالي الحرفية، والموسيقى التصويرية السامية، بل والمقصد الأصلي بالكامل. تشعرك نهاية الفيلم أنك أمام بداية جديدة، أفق مفتوح على الواسع من الأفكار والقضايا التي تمس صميم وجود الإنسان، وعندما يفتح هذا الأفق شبه المغلق فإننا لا نعرف ماذا سيكشف لنا. وتترك المشاهد مع انطباع أن هناك شيئا مفقودا، وتتركه أيضاً ليقرر النهاية بنفسه. موسيقى الفيلم التصويرية في ألبوم فني أصدرت تسجيلات ميلان ألبوم الموسيقى التصويرية لفيلم الخيال العلمي، فكانت غرائبية سريالية توافقت تماما مع روحه ، وجعلت عالمه سابحا في ضباب غامض تجره إلى بحر التشكك والإيمان واللايقين. ويضم الألبوم موسيقى الفيلم الأصلية من تأليف «ويل بيتس» و» فيل موسمان» وجاءت الموسيقى في سبعة عشر مساراً كلا منها ليناسب موقفاً ويدعم حدثاً في الفيلم: رسالة إلى نفسي المستقبلية، انفض غبارك، الإحدى عشرة المحظوظة، إلى الباب الخفي، كارين وإيان، الهند، الاكتشافات، سالومينا، الطاووس الأبيض، الفالس. فيلموغرافيا * مثل في الفيلم: مايكل بيت بدور إيان جراي. بريت مارلينج بدور كارين. أسترايد بيرغز فريسبي بدور صوفي. ستيفن يون بدور كيني. كاشيش بدور سالومينا. * فاز بجائزة سايتيجز لأفضل فيلم في مهرجان كاتالونيا للأفلام الدولي، وترشح كذلك لجائزة مهرجان تالين، كما فاز بجائزة صالون ألفريد للأفلام المتميزة في مهرجان الأفلام سندانس. شيء عن المخرج مخرج الفيلم الشاب مواليد 5 تموز 1979. درس الاقتصاد في جامعة جورج تاون وفي تلك الأثناء تعلق بالتصوير. اشترى أثناء دراسته أول كاميرا خاصة به، وبدأ ببناء مهنته المستقبلية، حتى أنه لم يعمل باختصاصه التعليمي بل عمل مصوراً لدى ناشيونال جيوغرافيك، وسرعان ما اصبح أصغر مخرج ميداني ومصور سينمائي في الكادر، ثم عمل بعدها في الأفلام الوثائقية قبل أن يصبح مخرجاً سينمائياً لأفلام درامية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©