السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

توماس ترانسترومر..خبير الخيوط المفضية إلى متاهات الأرواح

توماس ترانسترومر..خبير الخيوط المفضية إلى متاهات الأرواح
8 ابريل 2015 21:00
توماس ترانسترومر هو هذا الشّاعر والكاتب المسرحي الذي حصل رغم كثرة المتشكّكين، على جائزة نوبل للآداب سنة 2011، وقد تحدّث البعض حينها، عن تلاعب في إسناد هذه الجائزة، ولئن كنّا نأسف على تجاهل كتّاب من حجم أدونيس وأموز، فإنّ هذا التّكريم يبدو حقيقة مستحقّا، بل إنّه جاء متأخّرا لأنّ ترانسترومر بمئات أبياته الشّعريّة كان قد كشط الأرض في العمق، ليجعلها تُنبت منهج حياة، والبدلة القياسيّة التي يخيطها الموت المتشمّم حولنا جميعا، يعرفها ترانسترومر ويحملها على ظهره، وهو لا يتوقّف عن دقّ مسامير كلماته كي يثبّت فيها الأشياء الجوهريّة، فيما لا تتجاوز أعماله الكاملة ثلاثمائة صفحة.. وهو زيادة على ذلك من أكثر الشّعراء المعاصرين ترجمة، إذ نقلت أعماله إلى أكثر من ستّين لغة. بكلمات بسيطة، واستعارات شفّافة، ينفذ ترانسترومر إلى داخلنا بلطافة ورخاوة، وقد يكون ذهب إلى الأعمق والأبعد في أحلامه، ليبلغ حدّا يجعله يستحضرها جزءا جزءا، قبل أن يعيدها إلينا. ومع ذلك، فعندما نقبل على قراءته، تبدو كلماته وكأنّها قصص قد أسرّ لنا بها حول شعلته الدّاخليّة، حكايات من الماضي، حكايات جدّه، حكايات بلد لا يزال بكرا، ولكنّها ليست البتّة بطاقات بريد حنين إلى زمن مفقود، فهو يعرف أيضا التحدّث عن العالم الحديث الذي يحيط به. قصائده هي في الأغلب مزامير لزمن آت، يحفظ فيها كلّ شيء ولا يراق فيها دلو حليب الذّاكرة، ثمّ ذلك الإحساس بالتّواجد «هنا وهناك، في مكان آخر» الذي ينبغي أن يحفظ كما الزّهريّة المترعة حدّ الكفاية، والتي نحاذر كي لا نجعلها تندلق. تتملّكه الرّيبة من الكلمات، لذلك أمضى كلّ حياته باحثا عن لغة.. عن معنى عميق للعالم، متجنّبا ما هو عبثيّ وعقيم. لا تؤانسه غير الموسيقى، وهو العازف الموهوب على البيانو، الذي بات يعزف عليه باليد اليسرى بعد أن إن أصيب - وهو في سنّ التّاسعة والخمسين - بشلل نصفي سنة 1990، شلل يضطرّه إلى التنقّل تحت وطأة تلف دماغيّ في كرسيّ متحرّك، ولكن دون الابتعاد عن رفيقيه: البيانو الودود وورق الكتابة. يعيش ترانستومر اليوم منفردا رفقة زوجته في جزيرة على بحر البلطيق منصتا بنفس القدر لنبض الواقع ولحفيف الأشباح. يبدو شعره في ظاهره غاية في البساطة لذلك يتخلّى الكثيرون عنه باستخفاف، بينما نحتاج لتذوّقه أن نجعله يخترقنا كما الرّيح التي تعبر الغابة، فكلماته ليست عالية الصّوت وقويّة، وإنّما هي همسات ثقيلة بمعانيها الإنسانيّة، خفيفة وثقيلة بالأمل في آن. فنحن لا يمكن أن نقرأ لهذا الشّاعر إلاّ ونحن نمضي معه جنبا إلى جنب، وإلاّ فإنّ سحر كلماته سيتوقّف، وسيجعلنا نلوذ بشراب قويّ آخر، ولكن أحيانا ما تذهب الإشاعة أبعد من الصّرخة. يرتبط ترانسترومر بحبّ يصل حدّ التّلاشي بالطّبيعة وبالأشياء السّاكنة، بالنّاس الصّموتين وبالنّجوم النّادرة، وخاصّة بحكايات النّاس، حكاياتهم الصّغيرة التي هي أكثر تأثيرا فيه من ملاحم الشّعراء الغنائيين. إنّه رجل متواضع وصموت، يرقب العالم في لهاثه، ينتصب أمامه.. منصتا إلى الآخرين، دون أن يحشر نفسه في كلّ ما يمتّ بصلة إلى الشهرة والفخر والتّزويق الزّائف، لكنّ كاهله مع ذلك مثقل بالجوائز الأدبيّة، ويجد نفسه محاطا بعدد كبير من المريدين.. أمريكيين وصينيين. كان بالطّبع عالما نفسانيّا، وبالتّالي خبيرا بالخيوط المفضية إلى متاهات الأرواح، ولكن عالمه هي الطّبيعة السّويديّة التي يرقب تفجّرها في الرّبيع، ويتيه في الضّباب الغامض الذي يلفّها في الشّتاء ما بين ثلج ومطر. ترانسترومر هو نقيض الشّاعر العادي، الذي يتعالى صراخه في وجه النّاس والرّيح، ويعدّ وهو لا يزال على قيد الحياة أسباب خلوده، أمّا هو.. فهو بسيط.. وشعره كذلك. إنّه رجل متّئد وسريّ، يزن كلّ مفردة بالميزان الدّقيق للضّروريّ والحيويّ. الآن وقد فقد القدرة على الكلام، فإنّه يترك اللّغة تسيل بداخله.. اللّغة الحقيقيّة. ظلّ لزمن طويل يعتقد بأنّه يتموقع بين عالمين، بين الموتى والأحياء، بل إنّ الموتى ليأتون أحيانا للجلوس على حافّة قصائده، ومن انبعاثهم يتشكّل شعره. جوزيف برودسكي كان معجبا بترانسترومر ويرى فيه: «شاعر من الصفّ الأوّل، يتمتّع بذكاء خارق، وهو الذي سرقت منه أكثر من إستعارة». هو كما مترجمه، كان لهما هذا التّعريف للشّعر: «أن ننظر في عمق القصيد كما ننظر إلى عمق البئر لنستخرج منه رؤى تبدو مقتلعة من العدم». فإذا كان العصيّ على التّرويض لا كلمات تسعفنا لإدراكه، فإنّ ترانسترومر قد قام بسبك الكثير من تلك الكلمات. الحياة في عمق الحنجرة «القصائد تأمّلات حيويّة لا تجعلنا نغفو بقدر ما تساعدنا على فتح أعيننا»، هكذا يتحدّث ترانسترومر في ذكرياته، وبنقاء لا محدود، عن حياته (حياتي): «عندما أفكّر في هذه الكلمات، أرى أمامي خيطا من نور، وعندما أتأمّله من قريب ألاحظ أنّ هذا النّور يتّخذ شكل مذنّب مزوّد برأس وذيل، طرفه الأكثر توهّجا أي الرّأس هو الطّفولة وسنوات التّكوين، أمّا الجزء الأكثر كثافة وتركّزا فهو يوافق الصّبا الباكر الذي تتحدّد فيه الملامح الأكثر تأثيرا في الوجود، إنّني أحاول التذكّر.. أحاول الوصول إلى هناك، ولكن كم هو صعب التحرّك في تلك المنطقة المندمجة، بل إنّ ذلك يبدو شديد الخطورة ويولّد لديّ الإحساس بالإقتراب من الموت. وأبعد من ذلك، في المؤخّرة يذوب المذنّب في جزئه الأكثر طولا فينتثر دون أن يتوقّف عن الاتّساع. إنّني الآن على مسافة بعيدة في ذيل هذا المذنّب «... لقد بلغت الستّين وأنا أكتب هذه الأسطر. ولد في ستوكهولم في 15 أيريل 1931. تولّت أمّه - وكانت معلّمة - تربيته بعد أن ابتعد والده الصّحفي عن الأسرة. تردّد على جامعة ستوكهولم، حيث درس علم النّفس والشّعر وتاريخ الدّيانات؛ فيما كان هو.. أكثر شغفا بالعلوم الطّبيعيّة، وكان هذا الشغف يجعله يلوذ بالمتحف الوطني للعلوم الطّبيعيّة، حيث كان يحلم بعيدا عن صرامة أساتذته. وكان من المفترض أن يكون متأثّرا بالتشدّد السّائد، وبطغيان النّزعة المحافظة، ولكنّه تملّص من كلّ ذلك ليجد سعادته بجزيرة رونمارو حيث كان يقضّي عطله ليكتب أشعاره. سنة 1990 وبعد أن أصيب بشلل نصفيّ، سيستمرّ في الكتابة وإن بات يعيش بعيدا عن النّاس، ولكنّه كان يرفض أن يكون متنسّكا ومقطوعا عن العالم. وهو يعيش مع زوجته في «فستيراس» غربي ستوكهولم في إحدى جزر البلطيق. الأهمّ هو أن نكون «في المكان حيث يتشكّل التّكوين» حتّى ندركه بوضوح ونفصح عن نبضه وارتجافاته.. بأعين تقرأ مباشرة اللاّمرئيّ، ولكن حواشي الواقع حاضرة فيه أيضا.. الطّائرات.. المدن.. العالم في مسيرته، أي الحياة الرّاهنة. أصبحت زوجته هي صوته، أمّا ابنته «إمّا» فهي مغنّية وغالبا ما تنظّم حفلاتها لقراءة أشعار والدها، أمّا هو فإنّه يؤثر البقاء بعيدا عن وسائل الإعلام. لقد غدت حياته مثبّتة في حنجرته، ولئن أصبح الكلام صعبا بالنّسبة إليه، فهو يقرأ الصّدمة ما بين غاباته في الأيّام الخوالي والصّناعة المتوحّشة. ويقول هذا المستطلع الكشّاف وهو يتحدّث عن نفسه: «لقد ورثت غابة معتّمة، ولكنّني أمضي الآن في غابة أخرى طافحة بالأنوار، كلّ ما يدبّ فيها يغنّي.. يتمايل.. يزحف ويترنّح «، فالرّجل لا يستسلم للكآبة، بل يبقى مبتهجا ومبتسما للحياة، لأنّه لم يفقد قدرته على الدّهشة، الماء.. الموسيقى.. مقاطع من كلمات.. فهو لا يحتاج إلى أكثر من ذلك، وهو الوديع.. المتواضع والحكيم.. حقيقة العبور ترانسترومر هو أشبه ما يكون بمراقب متصوّف، يرصد علامات العالم الغامضة، ويريد لشعره أن تتجمّع فيه كلّ التّعاويذ الغريبة، التي متى توفّقنا في تفكيك رموزها، أنارت لنا حقيقة عبورنا الأرضيّ، ففي أحلام اليقظة يرسم علامات طريق لمجاورة ذلك «المجهول الأكبر» الجاثم بداخل كلّ واحد منّا، الذي يتجاوزنا ولا يتوقّف عن الرّقص في سرّنا. «اليقظة هي قفز بالمظلّة خارج الحلم «، يقول ترانسترومر.. وقد ذهب إلى الأبعد في حلمه، وأقام فيه طويلا، ليستحضره في بيت كلماته ويخبرنا عنه. والوضوح السّاطع لأشعاره تجعلها تخاطب مباشرة القرّاء. تحمل أحد كتبه التي يعرّف فيها ببعض شعراء بلاد الشّمال عنوان «ينهمر مطر من النّجوم في سريرنا».. عنوان يتلائم جيّدا مع قوّة وهشاشة الشعر المنفلت لترانسترومر. فأسلوبه في الكتابة يراوح باستمرار بين سرد لليوميّ.. العاديّ أحيانا.. والمثقوب غالبا باستعارات باهرة، ثمّ الهايكو الشفّاف والمشرق. كلّ شيء مصاغ بوضوح دون تفلسف مربك، ببديهيّة مذهلة، وكأنّها كلمات نابعة من إنسان بسيط ويقظ، ويستخدم صورا ليكشف عن أحاسيسه ولكنّها «صور الأطفال الذين ندفع بهم إلى الخارج كي يتدبّروا أمرهم بأنفسهم»: «قصائدي هي أمكنة للتّعارف، إنّها تسعى إلى إقامة علاقة مفاجئة بين مكوّنات الواقع التي تعمل اللّغة والتصوّرات المنمّطة على استبعادها، فالتّفاصيل الكبرى والصغرى لمشهد ما، تكون موثّقة فيه، كما تتدفّق على هذه القصائد، الثّقافات والنّاس على اختلافهم كما في العمل الفنيّ الإبداعيّ، وفيها تقبل الطّبيعة على الثّورة الصّناعيّة.. إلخ.. وما قد يبدو مواجهة هو في الحقيقة من قبيل التّشابه والإنسجام، إنّ اللّغة والتصوّر الإصطلاحي التّقليدي، يساعدانا على التّعامل مع العالم وبلوغ أهدافا ملموسة ومحدّدة، ولكن في اللّحظات الهامّة من الوجود نقف على تفاهتها وعبثيّتها، فندرك أنّه متى استسلمنا لسطوتها، قادتنا إلى العزلة والإنطوائيّة والدّمار المطلق، لذا فإنّي أرى في الشّعر إمكانيّة لردّ الفعل على مثل هذا النّوع من التطوّر، فالقصائد هي تأمّلات حيويّة لا تجعلنا نغفو، وإنّما تسعى كي تبقى أعيننا مفتوحة». فالزّمن، معنى عبورنا، الموت الذي يجول خلسة، الأحلام البعيدة التي تمثُل أمامنا من جديد، العالم المعاصر الذي غدونا لا نعرف التّخاطب معه، تجاوز صخبه الدّاخلي، المستقبل الغائم وغير الآمن.. كلّ ذلك نجده ماثلا في شعر ترانسترومر، بإصرار. لا يتوقّف هذا الرّجل عن البحث، ويتسلّل بين شبابيك الخيال والواقع، كاشفا عن أساطير قديمة، ولكن أيضا تفاصيل الحياة اليوميّة، فالعالم في نظره يبقى غامضا، بل دامسا، ولكن وراء الظّلال، ترتسم علامات محمّلة بالمعاني عن أفعالنا وحياتنا. وما يجعل ترانسترومر شديد الأصالة هو تفنّنه في الاختصار، واستعماله كلمات شديدة التّماسك والاكتناز، ببضعة أسطر مختزلة يستوقفنا، ليجعلنا نرى وجودنا وهو يمرّ ويمتدّ، وكلّ ما هو انتقاليّ وغير موثوق في تواجدنا بهذا العالم. يقول: «لقد تشرّبتم الخيال كيما تصبحوا مرئيين». غير أنّ ترانسترومر يرفض تصنيفه كشاعر متصوّف: «المتصوّف هو من يعيش في الحضرة الآلهيّة.. أمّا أنا فلا أرى سوى خيال ذلك الحضور عندما يمرّ أمامي.. وأحيانا ما أكون غير واثق من ذلك».. ولكنّه يلامس المعاني بحسّ صوفيّ غموض لقد شرع ترانسترومر باكرا في كتابة قصائد نثريّة ثمّ شعرا تقليديّا عن التوحّد بالطّبيعة من قبيل «غروب الشّمس ينسكب كالثّعلب على الأراضي، وفي لحظة «يلهب الأعشاب».. ثم ّ استحوذ عليه الجانب الغامض للأشياء، ومنذ أكثر من ثلاثين سنة طغت على شعره النّزعة الشّخصيّة، فاكتسى ألوانا داكنة، ولكنّه يبقى منفتحا على الآخرين وعلى الواقع، إنّه يكابد لمعرفة ما لا يعرف، وكما يقول هو: «إنّني ألاحظ بروز ما يشبه الأسطورة الدّينيّة، وبشكل متكرّر هنا وهناك في قصائدي الأخيرة، والتي قد تعني بالنّسبة إليّ أن أبقى حاضرا، وأن أتعاطى مع الواقع واختبره لأجعل منه شيئا آخر». عندما يكتب ترانسترومر يبدو وكأنّه يقتنص أنفاس الأساطير والظلّ المهرول فوق الثلج، ولكنّه أيضا ذلك الذي يرقب تغيّر العالم، والفوضى السّارية فيه.. تقنياته وأحاديثه، وهو أيضا ذلك الذي يعرف كيف يقرأ الهيروغليفيّة التي تنبعث منها لمع من نور، فتتكشّف بذلك أجزاء هامّة من الواقع التي عالجها الشّعر، ولمدّة طويلة، بالكثير من التردّد، رافضا الإجابة على التّعقيدات الجديدة التي تحدثها العلوم والتّقنية. ترانسترومر هو شاعر الزّمن الرّاهن أيضاً، الذي يصف في ذات الوقت، الشّاحنات ومنشآت البناء، واللّحظات التي يمضيها في التّحليق، لا يبدي حنينا إلى الماضي أو إلى أرض مفقودة منسجمة كالطّبيعة في طفولتها، إنّه يتبنّى هذا العالم في تعاملاته وفضاءاته، فيعتنقه ويدوّنه، وأحيانا ما ينتابه الشكّ فيولّد لديه رغبة تغيير ذلك الواقع. وأحيانا ما يرتفع شعره فوق الإنكسارات، وأحيانا أخرى نجده يتلكّأ على سطح الأرض، دون تغيّر في الأشياء ودون ترابط. ما قد يزعج القارئ هو اعتماده لغة مألوفة، بل عاديّة أحيانا، ولكن وبصورة مفاجئة، موشّاة باستعارات شبيهة بالنّيازك، وهذا «التّطهير» لليوميّ قد يثير استغرابنا نحن الذين تعوّدنا تنقية وتلميع مظاهر الأشياء، فترانسترومر ليس شاعرا غنائيّا وإنما شاعر إشارات، تكون تارة باهرة وتارة أخرى سرديّة، ويمثّل ذلك في آن واحد قوّة وهشاشة شعره، فهو لا يشيد من ذكرياته ومن تجلّيات الجمال قصرا من جليد، إنّه يريد أن يكون شاعرا حديثا منفتحا على العالم. ويعتمد ترانسترومر بصورة أساسيّة أسلوب السّرد، وبالتّالي أسلوب سهل وفي المتناول، ولكنّه مجرّد من الألغاز الشّعريّة التي تروق لشعراء كثيرين، إنّه يرفض العفويّة التي لا تمثّل بالنّسبة إليه الحقيقة، ويرى أنّه ينبغي أن نترك وقتا كافيا للكلمات كي تبلغ درجة النّضج والاكتمال. حاجته الماسّة إلى الحقيقة تجعل منه مسهّد بالنّهار، جامعا لنبضات العالم الذي يحيط بنا والذي نلتقيه أحيانا. كلّ القطع التي تكوّن محيطنا، يحاول ترانسترومر تفكيك رموزها، ليفصح عن تلك الحقيقة الماديّة التي غمرت أدواتنا لقيس الثلج والأحلام. وعندما نقرأ ما يكتبه: «لا سلام إلاّ في الدّاخل، في ماء المزهريّة الذي لا يراه أحد، ولكن الحرب تعصف على السّطح «.. فلا أحد قد يشكّ بأنّنا أمام شاعر كبير. أمّا الثّمن الذي علينا دفعه كي نلج عالمه الرّائع، هو أن نتخلّص، ونحن في الطّريق إليه، من حالة الملل، كي نتباطأ عند اللّحظات السّاحرة التي يتبدّى فيها.. صوتا لذاكرة العالم، المهرّب بين عالم الأموات وعالم الأحياء، وهو الذي يقول عن قصائده أنّها: «كتبت بطباشير الحياة على السبّورة السّوداء للموت». ينبغي لنا أن لا نقرأ دفعة واحدة ترانسترومر، بل علينا أن نتمهّل في طرق دروب أجمته، لنفاجأ بالدّهشة عند المنعطفات والحفر والفسحات، وأن نقتفي أثره وهو يصف هذا العالم المتغيّر على الدّوام، أن نعرف كيف نقلّب سجلّ السّماء، والغابات التي يحملها بداخله، ينبغي أن نتأمّل لوحاته عندما نقرأ ما يكتب.. وما يكتبه هو حقيقة تشكيل بديع. و إلاّ «فلتغلقوا أعينكم ولتغيّروا جيادكم «لأنّه» وسط الغابة هناك فسحة غير متوقّعة لا يمكن أن يهتدي إليها من عميت عليه السّبيل». أمّا ترانسترومر الذي وُهب رشد النّوارس التي تحلّق، وهي «تداعب فروة البحر «فإنّه يقول: «إنّي أحمل بداخلي كلّ وجوهي العتيقة كما تحمل الشّجرة حلقات نموّها، فمجموع هذه الوجوه هو.. أنا». يدايَ أشدّ فراغاً من قميص على حبل غسيل قصيدة غزليّة لقد ورثت غابة دكناء، كنت نادرا ما أزورها. ولكن في يوم ما، الأموات والأحياء سيغيّرون أماكنهم. حينها، ستبدأ الغابة مسيرتها. لسنا من دون أمل. الجرائم الكبرى تظلّ بلا تفسير، رغم كلّ مساعي طاقم الشّرطة. وبالقدر ذاته، هناك في زاوية من حياتنا، محبّة غامرة لا تفسير لها. لقد ورثت غابة دكناء، لكنّني اليوم أذهب إلى غابة أخرى يغشاها الضّياء. كلّ ما يدبّ فيها، يغنّي، ينبض، يزحف ومتهيّج. إنّه الرّبيع و الهواء منعش. أنا خرّيج جامعة النّسيان، ولي يدان أشدّ فراغا من قميص على حبل غسيل. من على الجبل أقف فوق الجبل وأتأمّل الخليج. السّفن تستقرّ على صفحة الصّيف. «نحن مشّاؤو النّوم.. أقمار طافية» هذا ما تقوله لي الأشرعة البيضاء. «هائمون نحن في بيت غاف ندفع بلطف الأبواب. و نتّكئ على الحريّة ». هذا ما تقوله لي الأشرعة البيضاء. رأيت يوما قوّة العالم إلى زوال. كان ينساب في نفس المجرى – أسطول واحد. ها نحن مبعثرون الآن. لا رفقاء لنا«. هذا ما تقوله لي الأشرعة البيضاء. آثار السّاعة الثانية بعد منتصف اللّيل: ضوء القمر. القطار توقّف وسط السّهل. في البعيد، النّقاط الضّوئيّة لمدينة تتلألأ عند تخوم البصر. كما لو أنّ رجلا مضى بعيدا في الحلم إلى حدّ فقدان القدرة على تذكّر أنّه كان هناك وهو يعود إلى حجرته. كما لو أنّ أحدهم مضى بعيدا في المرض حدّ تحوّل الجوهر إلى شرارات، سرب ضئيل و بارد عند تخوم البصر. القطار ساكن بلا حَراك. السّاعة الثّانية: ضوء قمر وهّاج. ونجوم نادرة. الأحجار الأحجار التي رميناها، إنّي أسمعها تسقط مشرقة عبر السّنين، الأعمال المفكّكة للّحظة تطير في الوادي، وهي تعوي من قمّة شجرة إلى أخرى. تسكن في الهواء الأكثر ندرة من هواء الحاضر، تنساب كما الخطاطيف من قمّة جبل إلى آخر، إلى أن تدرك الهضاب العليا الأخيرة عند تخوم الوجود. حيث أعمالنا لا تسقط شفّافة في أعماق غير أعماقنا. تحت الضّغط المروحيّة ذات الزّرقة السّماويّة مُصمّة للآذان نحن نعيش هنا في منشأة مهتزّة حيث يمكن أن تنفتح فجأة أعماق المحيط قواقع وصفير هواتف. لا يمكنكم مشاهدة الجمال إلاّ وهو مائل، وعلى عجل. الحبّة سميكة في الحقل. وألوان كثيرة في مجرى أصفر، الأخيلة التي لا تنعم بالرّاحة في رأسي تنجرف إلى هناك. إنّها تريد أن تنسرب داخل الحبّة وتندلق ذهبا. الظّلام يعمّ. عند منتصف اللّيل، أذهب إلى فراشي. السّفينة الأصغر تنسلّ من السّفينة الأكبر. أنت لوحدك فوق الماء. الهيكل الأسود للأخوّة يزداد شرودا في البعيد.. ألاّجرو (allegro) بعد يوم أسود، ها أنا أعزف موسيقى لهايدن، فأشعر ببعض الدّفء في اليدين. المفاتيح جاهزة، المطارق تسقط بلطف. الصّوت مشرق، أخضر ومترع بالصّمت. الصّوت يقول بأنّ الحريّة كائنة و أنّ أحدهم لا يدفع ضرائب لسيزار. أضع يديّ في جيوبي المليئة بهايدن و أتصرّف كإنسان هادئ أمام ما يجري. أرفع رايتي، راية هايدن، والإشارة هي: »نحن لا نستسلم. ولكنّنا ننشد السّلام» الموسيقى بيت من زجاج ينتصب على منحدر، الصّخور تطير. الصخور تتدحرج. الصّخور تتدحرج مباشرة عبر البيت. و لكن كلّ لوحة بلّور تظلّ سليمة. الزّوجان أطفآ النّور وظلّه الأبيض يلتمع النّور لحين قبل أن يذوب كقرص في كأس من الظّلام. ثمّ في الأعلى. جدران النّزل ترتفع في السّماء الدّامسة. حركات الحبّ باتت مقيمة، وينامان. و لكنّ خواطرهما الأكثر سريّة لا تلتقي إلاّ حين يلتقي لونان وينسكب أحدهما في الآخر. على الورق المبلّل لرسم تلميذ، ظلمة وصمت. ولكنّ المدينة تتجرجر متثاقلة لتغدو قريبة. هذا المساء. بشبابيك مبلّلة، البيوت اقتربت. غدت حشدا قريبا ينتظر. كتلة من وجوه لا ملامح لها. مرثيّة أفتح الباب الأوّل حجرة كبيرة غارقة في نور الشّمس سيّارة ثقيلة تمرّ في الشّارع ترتجّ لها الخزفيّة. أفتح الباب الثّاني. أصدقائي.. لقد شربتم الظّلمة لتكونوا مرئيّين. الباب الثّالث. حجرة ضيّقة بنزل. تطلّ على زقاق. فانوس يومض فوق الأسفلت. رماد جليّ للوجود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©