الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مَن يشتري الألمَ العربيَّ فينا؟!

مَن يشتري الألمَ العربيَّ فينا؟!
27 يوليو 2016 20:54
قد لا ينجح نص في التعبير عن لوحة الفنان التشكيلي المعروف «سعد يكن» كما تفعل لوحته ذاتها. وهي تلوذ ببلاغة ملوحتها السوداوية في سرد متاهة الألم العربي اليوم، وهو يتصاعد مع سواد المصير العبثي المطلق المحيط بنا، كتابوت صمت، صلب، قاتم، يوحي بحلكته أن لا فرار منه. نحن البشر منفيون داخل هشاشتنا، وعجزنا أمام طغيانه، مهاجرين، محاصرين، معزولين، رازحين تحت ركام من الخوف والغموض والقلق العظيم أمام سؤال إبداعات الشر الخارقة وسيوف الظلام الذابحة وهي تختبر فاعليتها وديناميتها على أعمارنا وأرواحنا وأيامنا، كالقدر الأسود الذي لا يُرد إلا بأقدارنا. عبر تدرجات ألوان اللوحة، الغاصة بالسواد المظلم، تسمع -عزيزي القارئ- أصوات صراخ مكلوم، تتأتئ بها أفواه أطياف بشر، وهي مرصوصة بضغطها، هلامية، ممغنطة في جاذبيتها مع الآخرين، ولكنها وحيدة، وغريبة بعضها عن بعض، حيث لا فرح، لا بداية، لا نهاية، لا حلم، لا ماض، لا غد، لا حياة، لا سلام، لا أمان في انغلاق صلب، وتشكيل جارح يفتح فيه الأشداق على سؤال معنى العدم فينا وحولنا! تبدو شخوص اللوحة هلامية، وهي في انكماش قلق السؤال تبحث في ضياعها المتراكم داخلها والمحيط بها، عن حقيقة وجودها في فوضى العزلة القاهرة، الكثيفة بقسريتها، بينما هي مذعنة لهذا التيه فيها، والأشبه بالفراغ الكبير الممتلئة به، معزولة ككتلة من المشاعر القوية الحائرة، والسابحة في فضاء مغلق على أسئلة موجوعة، مؤلمة بفقدها، وحالها كأنها تستجدي في صمتها الصلاتي رحمة الضمير، ورأفة المصير المرفوع على ضباب من أعمدة العدم، وعدم اليقين! نرى في هذا المشهد البصري الكثيف ملامح لقامات بشر حوّلها ثقل الوجع والألم والخوف والعزلة، إلى خائرة، ضعيفة، مصعوقة، محوّرة المعالم، مشوّهة النظرات، منكسرة، لها أطراف متطاولة، حافية، كأنها خِرق أجساد بالية، مربوطة بأسلاك مُحكمة تشدها إلى قاع بئر السواد، وقد خلع عنها كيانها، فاغتربت، وتشردت في غياهب عبودية مفروضة عليها وحولها. كأن موتاً قريباً، قَدرها.. لكنه لم يأتِ بعد. في حين أنه يجاورها، يحيط بها، ويترصدها وهي ضعيفة، منكسرة تصرخ صراخاً صامتاً من وجع السؤال، وهو يتشرد منها قلقاً في غابات السواد. وقلق آخر تلحظه، ولا يجرؤ على البوح، يتسرب من لون الأجساد الشفافة بكثافة بياضها، وهي تحت رحمة سيف الظلمة الطويل، الذي يقطع أي معنى... ويبدو لا يفهم «سوى الخراب». كأن الفنان «يكن» وهو يعايش الألم السوري، ويتذوقه بكل عتمته وضجيجه، يقول لك عبر ألوان مشاعره الكابوسية، وهي تحوم أبعد من مكانها هادرة، حافية، حامضة، غامضة أمام المصير، يقول: لا يمكن أن تكون طبيعياً ساكناً في عزلتك، وصمتك، في واقع غير طبيعي. لا شيء يبدو طبيعياً في هذا المخاض الكابوسي، الذي لا بداية له، ولا تبدو هناك نهاية سوى أرواح البشر، وندوب وجع الروح فيه يحملها كوابيس حسية أينما حل! إذن.. أنت «والخوف وحيدان» وجهاً لوجه بلا معين أو أمان. أنت عارٍ من لحمك، وعنتريتك، في علاقة ندّية تتصارع، وخوف يستعصي على المحاورة، عنيد، شديد المراوغة، ثرثار، يستبسل عليك، وعلى وهن الجسد العربي الوحيد في صيف كوني أسود لا ينتهي، عاجز عن الموت المعافى، وعن الحياة، بعيداً عن راحة الاستسلام، والسلام، زاهداً مرغماً في ملكوت بئر العجز، مهجوراً في عزلة قسرية. حركة الأجساد لكن.. تأمل معي وتنفس.. ما بعد طغيان لغة العزلة، وسطوة السواد في مأساويته، كما قد يبدو لك للوهلة الأولى، وأنت مشدود تلاحق مسار قسوة الخطوط، والتقاطعات اللونية الصارخة، وهي في عناق إيروسي بين الضوء والظل، وبين سماء تنخفض، وسواد يعلو في لعبته على الأجساد، ينتابك شعور غامض من النقاء، يرتفع بك على إيقاع تجليات نقاء لون الإضاءة وهي تزداد بياضاً، وهشاشة كلما ازدادت سطوعاً، وقرباً من الأجساد العارية من كل شيء سوى مشاعرها. تشعر حينها كأنك في حضرة مسرح حركي للغة حسية شفافة غنية بحيويتها المتراكمة فوق صمتها، مغناجة في رقصها الداخلي على أنغام خفية، تتصاعد من حركة الأجساد وهي تتلوى على إيقاع أصوات البراري الموحشة فيها، كأنها تبحث عن خلاصها، وعن حلم الخلاص، في خفة ذكية، تجعلك لا تدرك الفارق بين واقعية الحلم، وعبثية الواقع، وهي تميل حيناً إلى الكاريكاتورية، وربما إلى السخرية مرة أخرى في تماهٍ جميل تسحبك إليه براعة يد الفنان التشكيلي «سعد يكن» وهو يرسم الفكرة غارقة في الصورة، وهي تختبر ما تبقى لنا من قدرة على الصراخ، واستفزاز شعور الدهشة فينا، وربما توليد الصدمة الكهربائية، لرؤية ما تبقى صالحاً منا للاستعمال، أو بالأصح ما لم يُدمر بعد، ولا يزال قادراً على أن يحفز طاقة الحياة فينا، رغم قلق السؤال. ألا تشعر أن عريننا النفسي، وأنت تتأمله ناطقاً بخرابه دونك، يدعوك للبحث في داخلك عن فرح سابق، عن خلاص صحي، يليق بإنسانيتنا المهدرة؟ ألا تقول لك اللوحة أن تبقى مريضاً بالأمل لأننا محكومون بالأمل على ما يبدو؟ أليس هذا قدر العربي منا؟ وجع صحيّ هنا يتحول الوجع الذي ينتابك إلى وجع صحي سليم ومعافى شَكَلَه وهندَسه لك خيال الفنان عبر دراما لونية وحركة تعبيرية كثيفة تؤكد في طياتها تمسك صاحبها بالفن، كأداة فاعلة للدفاع عن معنى الحياة فيه وفينا. ولكن خلاصة الرؤية وأمام هذه اللوحة، تستعصي مشاعر اللغة وهي ترسم المجهول فينا، والمرء يتأمل خرابه الداخلي، بالأبيض والأسود، عارياً، حاداً، صخرياً وهو يستدرجك بواقعيته الفجة إلى متاهة السؤال عما يصنع الزمان المنكسر فينا؟ أم نحن ما نصنع بالزمن؟ عاجزاً عن اجتياز منطقة الألم فيك، وأنت ترى زمنك العربي وحشياً، وشرساً، يستدرجك إلى الامتلاء بجهل لا حد له. وأنا.... وأنت فيه.... كعربي/‏ة/‏ مبجل...مرهون إلى مصائر غامضة، وسوداء الغموض، والإنسان المتمدن فيه يسقط في درك التوحش «في واقعية كابوسية، جعلت مني.. ومنك، ومن الزمن العربي.. حكايات من وجع ينحر بعضها بعضاً كل يوم. أقدارنا فيه حقائب سفر منفلتة من التهجير، والترحيل القسري في جحيم الفراغ، سفراء لمهنة الألم والحزن، ننتظر بلهفة الإحساس المتبقي فينا، خريف حرف الراء من «الحرب»، وعودة الحب إلى ضمير الرحمة على أرض السلام العطشى لشمس النور وهي تشرق من شرقنا... حينها لا شيء يكسرنا. ثنائية الإنسان تتميز تجربة الفنان التشكيلي الحلبي «سعد يكن» المسكون بهاجس البحث والتجريب، بتركيزه على ثنائية الإنسان في تعامله مع ذاته من جهة، ومع العالم الخارجي من جهة أخرى بأسلوب تعبيري يشع بقوة من ملامح وجوه شخصياته، وحركات أجسامهم، وعلاقتهم بالمكان والزمان، في مغامرة لونية انتقائية تعيد صياغة وجودنا ورصد مشاعرنا تجريدياً بما يتناسب مع تشعب وتعقيدات الحالة النفسية التي يصطادها الفنان «يكن» في جوهر بحثه عن معنى الحياة عبر شخوصه الإنسانية، وهي في لحظات التيه والعزلة والوحدة، حيث الإنسان هو القيمة العليا لأعماله بعيداً عن التصوير المباشر، باتجاه التشريح والإيحاء الذي يبرع به «يكن» مع لعبة التضاد اللوني، وتوظيفها بشكل متقن في غالبية لوحاته، ما يجعل جميع شخوصه تحمل في ملامحها شيئاً من المأساة، وتتماهى مع الموسيقى التي تبدو حاضرة دائماً في لوحاته كأداة تعبير أساسية. يقول محمد جمعة حمادة في كتابه عن «يكن»: سعد يكن نسيج وحيد يطير خارج السرب، ليشكّل مدرسة فنية متكاملة، وبحسه الجمالي راح يعيد صياغة الإنسان، كما يحب أن نراه، إنه يسكن فوق الجدار، يراقبنا في حركتنا اليومية، يقدمنا في صور متلاحقة، كما الحقيقة في تجليها الأسمى والأعمق. لحظات هاربة يقتنص الفنان «يكن» لحظات هاربة من واقع الألم العربي اليوم، ويفرشها في مشهد تشكيلي كثيف أقرب إلى العبثية الساخرة، والسرد الدرامي المفجع في تصارع قلقه الجنائزي الهادر كالمحيط، وبلا حدود في فضاءات اللوحة، وهي تصعد قسرياً نحو الأعلى، حيث رحم قيافة الدم، وهي حُبلى بأجساد بشرية هلامية ضبابية الملامح وكثيفة في تموضعها، وتراكم الغموض فيها، وهو يتصارع مع الوضوح الذي قد يتبدّى لك، ولكنك عبثاً لا تدركه. أجساد متراصة بقاماتها المديدة، منثورة في راحة الأبدية، في موت ليس جميلاً ولا مُعافًى، مثقلة بملامح صامتة، يكتبها أنين لا يصل، وهي مغمورة بدم الموت، راضخة باستسلام أراه جبرياً، لقدرٍ أحمق، اختارها غذاءً لموت الموت فينا. الأزمنة الضائعة لخص التشكيلي سعد يكن طبيعة رؤاه الفنية كما جاء في كتاب «مرايا الأزمنة الضائعة»، لمؤلفه محمد جمعة حمّادة، بالقول: في عملية التحوير الجسدية، استخدم الوجوه والأطراف كوسائل تعبير رئيسية عن الحدث الدرامي في اللوحة، فالأطراف تعبّر عن الحركة، والوجوه تعبّر عن البعد النفسي للدراما الإنسانية، هناك فرق كبير بين تحوير الشكل وتشويهه، فالتحوير يأخذ معنى إيجابياً، بينما كلمة التشويه تأخذ معنى سلبياً. شيء عن الفنان * الفنان التشكيلي سعد يكن، ابن حي السبيل الحلبي مواليد (1950). * مقيم في بيروت منذ عامين، بعد تعرّضه للاختطاف أكثر من مرّة، على أيدي خفافيش الظلام، ونجاته بأعجوبة. * يتميز إنتاجه منذ سبعينيات القرن الماضي، بالكم والنوع على الصعيد الداخلي، والخارجي. * من معارضه التشكيلية المعروفة: تجليات، أوركسترا الصيادين، جلجامش، المايسترو، ألف ليلة وليلة، والمقاهي. * له أعمال مقتناة في متاحف دمشق وحلب، إضافة إلى أعمال أخرى مقتناة في مجموعات خاصة في أنحاء العالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©