الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صناعة العدوّ

صناعة العدوّ
27 يوليو 2016 20:54
تكتسب الجماعة بعض مقومات هويتها من داخلها ومع الآخرين، كما تستمد بعض عناصرها من خارجها وضد الآخرين، والأمثلة لا تنقص المرء للبرهنة على هذه القاعدة. ومن المعلوم أن تكوين الصور النمطية عن الآخر من أسهل الآليات النفسية والذهنية لدى الجماعات، غير أن تجاوز هذه الصور وإقصاءها من مساحة الوجدان والمتخيل من أعقد وأصعب الإجراءات. قد ترجع بعض الصور النمطية إلى التاريخ بحكم الاحتكاكات المختلفة التي تحصل بين الجماعات والشعوب، وقد تجد في الحاضر ما يؤججها ويكرس السلبي من أحكامها ويعمق الحذر والاحتياط من الآخر، كما أن الزمن المعاصر، بقدرته الخارقة على صنع الصور- كل الصور- الواقعية والافتراضية والمتخيلة، وعلى توحيد الرؤى، والاختيارات والأذواق، يولد، في نفس الآن، ما هو لصيق بجوهر الصورة ذاتها، أي تناقضها ومفارقتها وانزياحيتها. تتعقد المسألة أكثر حين تتحالف بقايا الماضي بعوامل الحاضر، وتتشابك الصور في العقل والوجدان، وتختلط الأمور، سيما حين تقدم صور الآخر وكأنها تجسيد لوجود شيطاني، يهدد الأمن ونمط العيش والاستقرار، وتغدو التعبئة أسهل وسيلة لخلق وجدان عام لتأمين شروط المصلحة، والدعاية أنجع طريق لتوليد «رأي عام» مستعد لتصديق كل ما تضخه وسائل إنتاج الصور من أغاليط وتشويهات وحقائق مقلوبة. ولما كانت كل المجتمعات تتركب من أجناس وجماعات مختلفة، إذ تمكنت الدولة الوطنية، نسبياً، من إيجاد أطر مؤسسية وتشريعية لتنظيم اختلافاتها وأنماط تعددها. فإن المجتمع الواحد، نفسه، بحكم التعدد الإثني أو الديني أو الطائفي الذي يميزه، ينتج، مع الزمن، صوراً نمطية تنتقل عبر التاريخ والأجيال، من فئة إلى أخرى أو من طائفة إلى أخرى، وقد تأخذ هذه الصور طابعاً عدائياً إذا ضعفت عناصر التوحيد السياسية، وقد تتلطف، أو تكبت، حين تتغلب هذه العناصر على ما سواها، فكم من حروب شنت باسم الاختلاف الديني أو الطائفي داخل المجتمعات الأوروبية وغيرها؟ وكم من جرائم ارتكبت وتُرتكب باسم هوية تدعي الأصل المطلق أو الحقيقة الوحيدة، كما نشهد على تعبيراتها المأساوية في بعض الساحات العربية، اليوم؟ وكم من أحكام مُسبقة أنتجتها إرادة القوة السياسية بسبب هوسها بإحكام السيطرة أو تبرير استمرارها؟ الإسلاموفوبيا لقد ازدهرت، في الآونة الأخيرة، خطابات وكتابات وبرامج سمعية بصرية حول نزعة «معاداة الإسلام». والحال أن مصطلح «الإسلاموفوبيا» الذي يعني «الخوف أو النظرة الانتقاصية من الإسلام والمسلمين»، تغير مع الزمان. وتستعمل وسائط الاتصال، كما بعض المؤسسات والمنظمات الدولية المنخرطة في محاربة التمييز، هذا المصطلح للإشارة إلى الظاهرة المجتمعية التي تنتقص من الإسلام والمسلمين، غير أن المهتمين بتطور الظاهرة والمصطلح يلاحظون أن هذه الكلمة شرع في استعمالها منذ بداية القرن العشرين، حيث ورد في كتاب «السياسة الإسلامية في إفريقية الغربية الفرنسية لـ «ألان كوليان» الصادر سنة 1910، كما تحدث البعض، منذ ذلك الوقت، عن «هذيان فرنسي معاد للإسلام». يبرز المصطلح في كل مرّة يحدث تصادم كبير بين بعض بلدان الغرب ومكونات المجال الإسلامي، منذ الاستعمار التقليدي إلى جرائم داعش الأخيرة في باريس، مروراً بفرض إسرائيل في قلب الجغرافيا العربية، وتبرير جرائمها الدائمة ضد الفلسطينيين والعرب، والثورة الإسلامية الإيرانية، وفتوى إهدار دم سلمان رشدي، وتسليمة نسرين، وقصة الرسوم الكاريكاتورية، وشارلي إيبدو...إلخ. وإذا كان معجم «لوبوتي روبير» Le petit Robert قد حدّد معنى «الإسلاموفوبيا» سنة 2006 في كونها تمثل «شكلا خاصّاً من الحقد الموجّه ضد الإسلام والمسلمين، والذي يظهر في فرنسا من خلال أعمال عدائية وتمييز إثني ضد المهاجرين المغاربيين»، فإن هذا المعجم نفسه اختزل هذا التعريف في طبعته لسنة 2015 معتبراً أن الإسلاموفوبيا تحيل على «عداء اتجاه الإسلام والمسلمين». وعلى العكس من ذلك يرى «مجلس أوروبا» أن «الإسلاموفوبيا اعتداء على حقوق الإنسان وتهديد للتماسك الاجتماعي». احتقان مجتمعي يدور نقاش واسع حول هذا الموضوع الذي يعكس، في العمق، صراعاً فكرياً حقيقياً، واحتقاناً اجتماعياً داخل المجتمعات الأوروبية، ومنها البلدان التي ظهرت فيها على شباب المهاجرين من أصل مغاربي مظاهر التشدد والراديكالية، والتعاطف العلني أو العملي مع الظاهرة الداعشية. غير أن المشكلة تتمثل، بالنسبة لشرائح واسعة من النخب الأوروبية، وحتى الإسلامية، في إمكانية التنديد بالعنف الذي تمارسه أقلية متطرفة باسم الدين، والإصرار على فرض نموذجها على المجال العام الأوروبي، سواء بالدعوة الدوغمائية أو بالقتل، وفي إرادة فهم الأسباب الموضوعية التي أنتجت هذه الظاهرة، كما تتمثل في ضرورة الحفاظ على حرية التفكير والرأي وإمكانية نقد الدين، سواء كان يهودية، مسيحية، أو إسلاماً، خصوصاً أن بلداً مثل فرنسا تعوّد على تقليد نقدي طويل للدين منذ «فولتير» والأنوار، وتجنّب السقوط في الخلط بين هذه الحرية والاتهام السهل بالعنصرية أو بالإسلاموفوبيا، وبرفض الآخر. من هنا صعوبة استعمال مصطلح «إسلاموفوبيا»، لأنه، كما يلاحظ «ريجيس دوبري» Régis Debray (وهو من أكثر الناس اهتماماً بالظاهرة الدينية، منذ الستينيات في كتابه «نقد العقل السياسي، أو اللاوعي الديني»، وهو من أوصى، في تقريره الشهير سنة 2002 بعنوان «تعليم الواقعة الدينية في المدرسة العلمانية»، بتأسيس «المعهد الأوروبي لعلوم الأديان») أن مصطلح إسلاموفوبيا يضع المرء أمام مساومة غير مقبولة تخلط ما بين نقد الدين وبين ما يتعرض له المؤمنون بهذا الدين من إهانات وتمييز. الأمر الذي لا يسمح به «الضجيج» الإعلامي والسياسي الدائر اليوم لتمييز المؤمن عن المجرم والقاتل. ولذلك يبدو من المشروع التساؤل عن الكيفية التي تسمح لعلم الاجتماع وتقنيات استطلاع الرأي من الكشف عن عناصر الصور النمطية؟ وكيف يمكن استظهار الموقف من الآخر؟ أسباب لقد أصبح لـ«علم الصور Imagologie» أهمية مميزة في استطلاعات الرأي والبحث عن الموقف من الآخر. وهو اهتمام يستدعي أكثر من اختصاص، من التاريخ إلى السيميولوجيا، مروراً بعلم الاجتماع وعلم النفس وتحليل الخطاب.... الخ، ولم تعد مراكز البحوث الاجتماعية تكتفي بتقنيات الاستقصاء السوسيولوجي فقط، لأن بعض المواقف تفترض تحليلاً متعدد الاختصاصات. فالبحوث التي ينجزها المركز الإسباني للبحوث الاجتماعية C.I.S في مدريد، سنوياً، حول تصورات الإسبان عن الآخرين يثبت هذه الحالة. من بين نتائج هذا البحوث- وهي نسب تتكرر بشكل بنيوي تقريباً في كل استطلاع سنوي- أن المغاربة يأتون في أول قائمة الشعوب المجاورة التي يحتاط منها الإسبان. لعوامل الهجرة والمخدرات، وأحياناً العنف الجهادي، والصراع حول الصيد البحري دور كبير في تأجيج هذا الشعور، وهي عوامل ولدتها شروط الحاضر، ولها واقعية صادمة، سيما إذا اقترنت بصور العنف الآتية من جنوب المتوسط، لكن لعوامل التاريخ المشترك بين إسبانيا والمغرب دور خفي في تشكيل هذه الصور. ولكي لا يرجع المرء إلى التاريخ البعيد نكتفي بالإشارة إلى أن المغرب تمّ اقتسام أراضيه في بداية القرن العشرين بين فرنسا وإسبانيا ضمن معاهدة دولية نصت على احتلال شماله وجنوبه من طرف إسبانيا واستيلاء فرنسا على وسطه. ولم يكتف الإسبان باستغلال المناطق التي كانت تحت سيطرتهم، بل جندوا المغاربة، خصوصاً على يد فرانكو، لضرب الجمهوريين وتكسير شوكتهم. ويصعب على الحركة الشيوعية والجمهورية الإسبانية نسيان هذه الصورة أو محوها من متخيلهم الجمعي، حتى ولو عبرت بعض فصائلها عن تعاطفها مع استقلال المغرب واسترجاع سيادته، لذلك فإن اقتران صور الفاشستية الفرانكوية بتجنيدها لمحاربين من شمال المغرب ضد الحركة الديمقراطية الإسبانية، في العشرينيات، بقي راسخاً في اللاوعي السياسي للنخب السياسية الإسبانية، أما حين تضاف إلى ذلك العوامل الحاضرة من احتلال لمناطق مغربية وهجرة وحشيش وعنف، فذلك ما يؤجج الصور النمطية السلبية، وما لا يخدم شعارات التقارب والتعاون، وإقامة مجال متوسطي سليم، أو بناء شراكة حقيقية. أظهرت نتائج البحث الذي أنجزه المركز الإسباني للبحوث الاجتماعية، في السنة الماضية، أن 57.7% لا يطمئنون، نهائياً، للمغاربة ولا يثقون فيهم، في مقابل 28.5% الذين يعبرون عن موقف إيجابي منهم، وجاء الفرنسيون بعد المغاربة فيما يخص سؤال الثقة. أما الجهة التي تهدد الأمن القومي الإسباني، فإن أكثر من نصف المستجوبين يرون أن المغرب يشكل خطراً على إسبانيا، في حين أن 28.8% فقط هم الذين ينظرون بإيجابية إلى المغرب، وجلهم لهم روابط ما بهذا البلد، إما من خلال السياحة، أو الصداقة، أو الزواج المختلط. قد تبدو هذه الأرقام عادية بحكم الماضي وثقل مشاكل الحاضر. بل وقد تؤشر هذه النسب على درجة التحوط الذي يمكن أن تحمله جهات وأقاليم إسبانية إزاء بعضها، أو حتى إيطالية، إذ كان من الصعب على أي كان أن ينزع، إلى زمن قريب جدّاً، من ذهن الكاتالانيين اعتبار أن العالم الثالث يبدأ عندهم من المنطقة الأندلسية، وبأن ظاهرة فنية ورياضية واحتفالية تبدو للعالم أنها ظواهر قومية مثل الفلامينكو والطوريرو، يعتبرها الكاتلانيون ظواهر أجنبية عنهم فرضتها عليهم الفترة الفرانكوية بالقوة والعنف، بل إن شعب «كاتالونيا» له لغته وتاريخه وذاكرته المشتركة، وهو في غنى، حتى من الناحية المادية، عن باقي الأقاليم الإسبانية، ولاسيما قياساً إلى المركز (مدريد) والأندلس، ولذلك ازدهرت، وتوسعت الدعوات المطالبة بالاستقلال عن إسبانيا. المهم أنه يمكن أن لا نتوقف عن استحضار المواقف والأحكام المسبقة التي تحملها، أو تلوكها هذه الفئة أو الجهة أو تلك عن الفئة أو الجهة الأخرى، غير أن الصور النمطية حين تقترن بفهم متعصب للهوية قد تنتج فظاعات يصعب توقع مداها وانعكاساتها، وأما إذا ارتبطت باستراتيجية للسلطة فالأمر لاشك منذر بأوخم العواقب، ومثال لبنان والبوسنة، مازالا حاضرين في الأذهان والأجساد والصور. أما ما يجري في سوريا من تقاتل تحت كل الذرائع المعلنة والمتسترة، وأمام السلبية المطلقة للمؤسسات الدولية، فإنه لا شك يدخل ضمن خانة الجرائم ضد الإنسانية. في حين أن ما يحصل في العراق باسم الطائفة والمذهب والدين ينذر بتراجيديا لا أحد يمكنه ادعاء توقع تداعياتها على هذا البلد وعلى بلدان الجوار. أليست الديمقراطية وثقافة التسامح هما الأفق الأوحد لتعميق نسبية الأحكام؟ وهل نمتلك ما يلزم من الشروط الثقافية للالتزام بقبول الآخر وبقيم المجتمع الديمقراطي في ظل هذه المناخات اللاغية لمقتضياتها ومبادئها؟ الإسلاموفوبيا ازدهرت، في الآونة الأخيرة، خطابات وكتابات وبرامج سمعية بصرية حول نزعة «معاداة الإسلام». والحال أن مصطلح «الإسلاموفوبيا» الذي يعني «الخوف أو النظرة الانتقاصية من الإسلام والمسلمين»، تغير مع الزمان. وتستعمل وسائط الاتصال، كما بعض المؤسسات والمنظمات الدولية المنخرطة في محاربة التمييز، هذا المصطلح للإشارة إلى الظاهرة المجتمعية التي تنتقص من الإسلام والمسلمين، غير أن المهتمين بتطور الظاهرة والمصطلح يلاحظون أن هذه الكلمة شرع في استعمالها منذ بداية القرن العشرين، حيث ورد في كتاب «السياسة الإسلامية في إفريقيا الغربية الفرنسية لـ«ألان كوليان»الصادر سنة 1910، كما تحدث البعض، منذ ذلك الوقت، عن«هذيان فرنسي معاد للإسلام». صورتان تتنوع مصادر توليد الصور النمطية وتتباين، بدءاً بالدين إلى الطائفة إلى اللغة إلى الجهة إلى الطبقة إلى المصلحة... الخ كل المسوغات قابلة للاستثمار وتمجيد طهرانية الذات ونقائها وتقديم الآخر في أشكال شيطانية، المسيحي والمسلم، الشيعي والسني، الماروني والأورثوذكسي، الأشكنازي والسفارديم، الأبيض والأسود، الشمالي والجنوبي، المدني والقروي،... الخ. أسباب لا حصر لها تنتج صورًا ونكتًا وحكايات، يتداخل فيها الواقعي والمتخيل، ويتضخم فيها التخيل وكثيراً ما يتحول إلى لحظات جماعية للهزل والتسلية، كما قد يتخذ صيغاً عدوانية في حالات الغضب والتوتر. الإسبان والآخر أظهرت نتائج البحث الذي أنجزه المركز الإسباني للبحوث الاجتماعية السنة الماضية، أن 57.7 % لا يطمئنون، نهائيًا، للمغاربة ولا يثقون فيهم، في مقابل 28.5 % من الذين يعبرون عن موقف إيجابي. وجاء الفرنسيون بعد المغاربة فيما يخص سؤال الثقة. أما الجهة التي تهدد الأمن القومي الإسباني، فإن أكثر من نصف المستجوبين يرون أن المغرب يشكل خطراً على إسبانيا، في حين أن 28.8 % فقط هم الذين ينظرون بإيجابية إلى المغرب، وجلهم لهم روابط ما بهذا البلد، إما من خلال السياحة، أو الصداقة، أو الزواج المختلط.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©