السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حضارتنا العمياء

حضارتنا العمياء
27 يوليو 2016 20:54
(1) مجرّد بشر من طين هذه ليست مجرّد صورة.. لكنّ هؤلاء هم مجرّد بشر يشبهوننا تماماً لأنّهم قد خُلقوا من طين، أو أنهم قد اتخذوا من الطين طلاء لأبدانهم.. ولأنّهم مجرّد بشر عائدين من أديم الأرض، فقد اتّخذوا من أجسادهم ركحاً استثنائيّاً لتجربة فنّية طريفة وغير مسبوقة، لأنّها لا تحدث سوى مرّة واحدة هؤلاء إذن يرسمون بأجسادهم عالماً أصابه العمى الجماعي هو عمى الاستهلاك.. إنّهم جميعاً يرسمون هويّة واحدة، وليست كلّ الهويّات سعيدة: هؤلاء «عميان عن طواعية»، وقد يحدث أن تُصاب هويّة ما بالعمى أيضاً.. يهرولون، صامتين، متلهّفين، يلقون بأرجلهم على طريق لا يؤدّي.. لأنّه بلا منظوريّة وبلا أفق.. يكتظّون ويسرعون محمّلين بسلال متماثلة مثقلة بالبضائع التي لا نرى منها شيئاً.. لأنّهم هم أيضاً لا يرون غير ما يستهلكون. أمّا زمان الصورة، فهو زماننا على نحو فظيع، فهم نحن بشكل ما، أو هم أنفسنا ومن يقوم مقام أنفسنا: هؤلاء يوقّعون يوماً قريباً من شهر سبتمبر سنة 2013. أمّا عن المكان، مكان الصورة، فقد لا يهمّ كثيراً، لأنّه قد يكون أيّ مدينة أخرى، أو تحديداً أحد الشوارع الكبيرة في قلب باريس «عاصمة النور»، حيث يجوب الناس الشوارع بعيون معصوبة وعقول مصدوعة.. أمّا عن الشخوص الماثلة أمامنا فقد قيل أربعمئة فنّان، في معنى خاصّ جدّاً. نعم، هؤلاء فنّانون من طينة خاصّة، تدفّقوا على ركح الحياة، ركح القساوة، بعد سقوط الجدار الرابع بين الفنّان والجمهور على يد أنطونيو أرتو (1896-1948).. هم فنّانون لأنّهم أيضاً بشر من طينة خاصّة، لكن مع ضرورة المحافظة دوماً على رمزيّة الطين التي تجمع بينهم.. هم يسيرون، لكن مسيرتهم ليست مظاهرة سياسيّة ولا حقوقيّة، لا هي ماركسيّة ولا هي نسويّة، ولا هي مثليّة.. . هذه الصورة حدث فنّي ينتمي إلى جنس دقيق من الفنّ المعاصر، وشخوصها فنّانون على طريقتهم الخاصّة جدّاً، حيث يلتقي الفنّ بالحياة في الشارع، فيمتزج الفنّانون بالمارّة والعابرين من أجل أن يتحوّل الجمهور إلى منتجين للفن، لا مجرّد متقبّلين له. وأيّ كائن بوسعه هنا أن يصير فنّاناً، وأيّ شيء بإمكاننا تحويله إلى حدث فنّي، من عشاء جماعي بين أصدقاء، إلى سوق خردة للسيّارات القديمة. (2) الفنّ الحدثيّ.. فنّ الجماهير نحن لا نبني حقائقنا على ما نراه فحسب، لأنّ ما لا نراه هو أيضاً مسرح للحقيقة وللفظاعة، حيث يمكن أن يلتقيا دوماً في عالم بنيناه على أوهام خلنا أنّها حقائق. منذ ستينيات القرن الماضي وقّع العقل البشريّ حدثاً فكريّاً حاسماً: إعادة توزيع المرئي واللا مرئيّ من جديد، حيث بوسع أجسادنا أن تصير «مجال تجارب، حيث ترتسم عائلة الأشياء» (مارلو بونتي 1959)، وهنا للتجربة معنى دقيق: إنّها النسيج الذي يشدّ جسدي إلى العالم.. فنحن لسنا كائنات متأمّلة، بل نحن تجارب زمنية.. فلحم العالم، ولحم الزمن شيء واحد.. وذلك من معانيه أن تكون أجسادنا أحداثاً فنّية على نحو أنّنا لسنا مجرّد موضوعات للتجريب العلمي، إنّما نحن تجارب للمعنى ولاختراع الحياة في شكل أحداث جماعيّة فنّية.. فالجماعة لا تصلح فقط حطباً للجلاّدين، ولا حقل تجارب للمستبدّين، أو للإرهابيين والمهووسين.. والجماعة حدث يُخترع أيضاً حيث تُصاب هويّة جماعة ما بالتعب. هذه الصورة عيّنة خاصّة مماّ يسمّى بالفنّ الحدثي، وظهر هذا الفنّ منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين مع الرسّام الأميركي ألان كابرو (1927- 2006)، والشاعر والرسّام الأميركي جون كاج (1912-1992). وقد عرّفه كابرو بكونه «ما لا يحدث سوى مرّة واحدة»، فهو حدث لا يتكرّر، وحتى إن وقع ثانية فهو لا يقع على نفس النحو، ويقوم هذا النوع من الفنّ على المجموعة، أي على فكرة تحويل الجمهور إلى مساهم ومنتج للتجربة الفنّية، الفنّان ههنا يكفّ عن أن يكون وحيداً.. إنّ الكثرة والجمع والمجموعة هي الهويّة الجديدة للفنّ الحدثي، حيث يجتمع الناس دوماً من أجل قراءة قصائد بأصواتهم، أو عزف الموسيقى في الشوارع، أو الرقص الجماعي، أو الرسم على قارعة الجدران العامّة. وقد تحوّل هذا النوع من الفنّ إلى ضرب من الثورة الفنية في ستّينيات القرن الماضي، وبخاصّة في ألمانيا مع جوزاف بيوس وولف وستال وآخرين.. والهدف هو التمرّد والاحتجاج على القيم الإبداعية الكلاسيكية والتقليدية التي تفصل بين الفنّ والحياة، والفنّان والمتفرّج، والأثر الفنّي والتجربة الفنّية. والهدف الكبير من هذا الفنّ هو اختراع شكل جديد من الجماهير النشيطة المشاركة فعلياً في التجربة الفنّية، وتبعاً لذلك يقع تحرير الفنّ من جملة من التعريفات التقليدية، بحيث تقع مراجعة مفهوم الفنّان نفسه، فيتّسع المفهوم إلى الجمهور بوصفه فنّاناً أيضاً. ويقع تحرير الفنّ أيضاً من مقولة الأثر الفنّي الكبير كما كان يعتقد ذلك الرومانسيّون، ومن مفهوم الجمال الكلاسيكي الذي نظّرت له الحداثة الجماليّة من كانط إلى هيغل، نحو آفاق للمعنى وللحياة على نحو مغاير. يخترع هذا الفنّ إذن نوعاً من العلاقة الجديدة مع الجمهور، ويرفض أن يقع السطو على الحدث الفنّي من طرف السوق. إنّه فنّ مضادّ للقيم الثقافية الإمبريالية القائمة على تحويل الفنّ إلى سلعة تُباع وتُشترى، لم يعد الفنّ أثراً أو عملاً فنّياً مستقلاً عن الحياة الاجتماعية، حياة الشوارع والمقاهي والفضاءات العمومية عامّة، بل هو فعل ونشاط ومناسبة جماعية وتجربة لشكل من الحياة، إنّ الفنّ ههنا حدث وحدثيّ، بمعنى أنّه يحدث بشكل استثنائي، كي يستفزّ الناس إلى ضرورة الانتباه إلى ما يحدث لهم في الحياة اليوميّة، وهو فنّ حدثيّ لأنّه بوسعه في كلّ مرّة أن يمنح لقاءً فريداً لأيّ كان مع التجربة الفنّية. إنّ هذا الفنّ إنّما ظهر كنوع من التحدّي للنزعات الطلائعيّة، بغرض اختراع مفهوم مغاير للعلاقة مع الجمهور، وليس لهذا الفنّ أسلوب وحيد، فهو فقط يسعى إلى أن يصالح بين الفنّ والحياة، ويجعل من الفنّ متدخلاً نشيطاً في الحياة اليوميّة. يقول ألان كابرو في هذا السياق: «إنّ الحياة اليوميّة هي أكثر إثارة من أيّ أثر فنّي». وقد وقع استلهام هذا النوع من الفنّ من بعض المدارس الفنّية مطلع القرن الماضي، مثل الدادائية التي أعلنت أنّ «الفنّ ليس مطالباً بأن يستجيب لماهية الفنّ نفسه»، والسرّيالية «القائمة على الاستفزاز والاحتجاج، والإثارة والمبالغة»، والمستقبلية «حيث تقوم التجربة الفنّية على أحداث فنّية من قبيل قراءة القصائد والبيانات على الركح». أمّا عن زمنيّة هذا الفنّ فهي زمنيّة الزائل الذي يحدث بشكل استثنائي وعابر، هي زمنيّة مضادّة لزمان المتحف الثابت، وهو في ذلك يمنح للفنّ زمناً جديداً هو زمن الحياة، التي تقوم على لعبة الصيرورة والتغيّر الدائم، ذلك أنّ الزمان ههنا هو زمان لعبيّ حدثيّ حيويّ، هو زمان الحياة اليومية، كما هي دوماً بصدد الحدوث. وفي هذا السياق يمكن الإحالة إلى تعريف ألان كابرو لهذا الفنّ، حين يقول: «ما هو الفنّ الحدثي؟ هو لعبة ومغامرة وجملة من الأنشطة التي يقوم بها المشاركون من أجل اللعب»، ذلك «أنّ شعباً لا يلعب هو شعب مريض» (شيلر)، وهذا الفنّ لا يقتضي تصفيق الجمهور، بل هو يطالب بألا تصفّق الجماهير، لأنّه ليس فنّاً للمتعة المطبخيّة، بل هو فنّ يثير ويستفزّ ويخترع الحدث. (3) لكن ما الحدث؟ يقول الفيلسوف والفنّان الفرنسي المعاصر بول فيريليو Paul Virilio: «إنّ ما يحدث يمتلك ضرباً من السبق علينا»، وذلك يعني أنّ ما يحدث لنا في حياتنا اليوميّة، وما يصنع نمط العالم الذي نسكنه، إنّما يحدث ويقع في غالب الأحيان دون أن يستشير أحداً منّا. فنحن آخر من يعلم كيف تُصمّم ملابسنا، وكيف تُصنع أدويتنا، وكيف تُدبّر أمور المال في أوطاننا، وكيف تُرسم خرائط عقولنا ومدننا، وكيف تُستفزّ مشاعرنا وكيف يسير العالم من حولنا. لقد صار الجميع مواطنين مستهلكين، لا تتعدّى معنى المواطنة لدينا غير مواطنة استهلاك العالم، وقد تحوّل العالم في عصر العولمة إلى زمنيّة جديدة، لا هي بزمنيّة الأبديّة التي كانت تحتضن العصور الغابرة، ولا هي بزمنيّة التاريخ الذي اكتشفته العصور الحديثة. نحن بصدد زمنيّة الزائل والحادث والحدث، وليس من باب الغريب أن تمثّل مسألة الزمان مركز انهمام عميق من طرف الفكر المعاصر، منذ كتاب «الكينونة والزمان» 1927 لهيدغر، و«الزمان والسرد» 1983 لريكور، وصولا إلى «الوجود والحدث» 1988 لألان باديو، و«ما يحدث» لفيريليو 2003. وبعيداً عن شغف التلصّص على هؤلاء الفلاسفة، وهم يخطّون الثنايا لإنسانية تكاد تفقد إنسانيّتها، في خضمّ ما حدث لها بعد حروب عالميّة وأحداث إرهابيّة وسقوط دول ودمار أوطان، كانت ههنا يوماً ليس ببعيد، نكتفي بالتوجّه فقط نحو زمنيّة الحدث، بما هي زمنيّة الفنّ الحدثيّ نفسه، ومن أجل ذلك نحن مطالبون -حسب اقتراح الفيلسوف ألان باديو- بأن نرفض: أوّلا الانخراط في حقل فكر النهايات، ما بعد الحديثة: أي نهاية الفلسفة «هيغل» ونهاية التاريخ «فوكو ياما» ونهاية الذات «هيدغر» ونهاية الكاتب «رولان بارط» ونهاية الإنسان «فوكو».. ففكر النهايات هو فكر متواطئ مع نظام العولمة، الذي أسقط العالم في الاكتئاب العالمي، وفي زمن الكارثة. ثانياً: رفض الالتحاق بركب مفكّري الكارثة، الذين يماهون بين التقدّم والكارثة، منذ بنيامين إلى دريدا، مروراً بحنّا آرندت، وثالثاً: رفض اتّباع موجة الفكر الذي وقع تدجينه، وتحوّل إلى أداة لتجميل النظام العالمي الجديد في صورته الإمبريالية المتوحّشة، رابعاً: رفض تحويل الثقافة إلى سلعة والإنسان إلى مكنة استهلاكية مسعورة. (4) كوجيطو السلع إنّ الإنسانية الحالية قد دخلت في عصر جديد، هو عصر الاستهلاك، فذاك أمر قد بات بدهيّاً منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو ما ينبّه إليه المفكّرون المعاصرون من قبيل جان بودريارد في كتابه «مجتمع الاستهلاك» 1970. فقد بات الاستهلاك عنوان الإنسانية الحاليّة، حيث أصبح الإنسان لا يحيا إلاّ وهو محاصَر بالأشياء التي يستهلكها، هي محيطه الحيويّ المفضّل، إلى حدّ يصير فيه ممكناً القول إنّ «الاشياء هي التي تستهلكنا». ومجتمع الاستهلاك هذا إنّما يحتاج إلى أشيائه وموضوعاته، من أجل إهلاكها والقضاء عليها. أليس في هكذا أمر ضرب من الدور المثير للغثيان، في مجتمع صار فيه الكلّ ملهوفاً على الاستهلاك؟ وماذا لو كانت اللغة على حقّ تماماً في حرفيّتها العارية، فيكون الجميع ملهوفين على طلب الهلاك؟ وربّما نحن إزاء ولادة نوع جديد من الكوجيطو، قياساً على كوجيطو ديكارت، غير أنّ الأمر لا يتعلّق بـ«أنا أفكّر إذن أنا موجود» بل «أنا أتبضّع إذن أنا موجود»، فهل يستطيع إنسان السلع أن يفكّر بنفسه؟ أم أنّ حضارة السوق هي حضارة العمى، عما نستهلك أكلاً ولباساً وترفيهاً..؟ هذا هو ما تظهره الصورة أعلاه: صورة تجسّد كوجيطو السلع في أحد مظاهره، وهو ما أراد لفت الانتباه إليه جمع من الفنّانين تحت راية ما يُسمّى الفنّ الحدثي، يتعلّق الأمر بتظاهرة فنّية نظّمتها شركة «فيجا Veja» للأحذية في سبتمبر 2013 في شكل من الاحتجاج على مجتمع الاستهلاك، وقد نظّم هذا الحدث الفنّي كلّ من المخرجين السينمائيين مارسالو داني وماركوس بيلهوس. إنّ هؤلاء الفنّانين قد اختاروا السير في شارع الشانزيليزيه بباريس، واتّخذوا من الطين طلاءً لأجسادهم، واختاروا تغطية عيونهم بقطع قماش بيضاء، لكن لماذا اختار هؤلاء الفنّانون الطين رمزاً موحّداً لهم؟ ولماذا ظهروا في مظهر العميان؟ هل لأنّ الطين هو أديم الأرض الذي يجمع كل البشر، بوصفهم جميعاً أبناء الأرض؟ وأنّهم مهما اقتنوا من الماركات الباهظة الثمن، ومهما أحاطوا أنفسهم بالسلع، أيّاً كانت قيمتها، فهم في آخر الأمر، من الأرض وُلدوا وإليها يعودون؟ (5) سماء العميان لموضوع العميان تاريخ رمزيّ عميق: فالكثير من المبدعين كانوا عمياناً من قبيل هوميروس والمعرّي وطه حسين.. والكثير من الأساطير والقصص حول العميان، حول إسحاق ويعقوب وحول أوديب. وفي القرآن يُذكر الأعمى عدّة مرّات: «ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا» (سورة طه). وأيضا «ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشه ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى».. وكذلك قوله: «قال ربّي لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى»، وقد كتب الشعراء عن العميان مثل بودلير في ديوان «زهور الشرّ» (1857)، ورسم الرسّامون العميان من قبيل لوحة «عازف الغيتارة الأعمى» (1778) لفرنسيسكو غويا، ولوحة «طعام الأعمى لبيكاسو» (1903)، وكتب الفلاسفة عن العميان أيضاً، من قبيل «ذاكرات الأعمى» لدريدا (1990). لكن إلى أيّ نوع من العميان ينتمي عميان مجتمعات الاستهلاك؟ وأيّ شكل من البشر اخترعه كوجيطو السلع؟ إنّهم فقط عميان عن طواعية، هؤلاء الذين يختارون كلّ يوم الاستسلام وراء قيم السوق، فتراهم يتلهّفون على البضائع يكدّسونها في سلالهم كلّ يوم، ثمّ يمضون بلا هدف، غير التهام ما اشتروا، وغير إهلاك ما تنتج منظومة حضارة، صارت فيها قيم المحبّة والرحمة والكرم والتآخي والتضامن مع الفقير والجائع والمظلوم، هي آخر ما يفكّر فيه كلّ منّا قبالة نفسه وعقله وضميره. نحن إذن في حضارة العمى بامتياز، غير أنّ العمى هنا ليس عاهة بيولوجيّة، بل هو مرض في الحضارة واختلال في نمط العالم الذي فقد قدرته على أن يكون عالماً. ذاك هو معنى هشاشة الإنسان واكتئابه الدائم، وسقوط أفق المعنى عن سمائه، لذلك ينظر عميان الاستهلاك في هذه الصورة إلى السماء فلا يرون شيئاً غير عمى رغباتهم المسعورة في استهلاك المزيد من البضائع، ويعني كوجيطو السلع أنّ الاستهلاك قد عوّض التفكير، وأنّ السلع قد عوّضت القيم، وأنّ اللهفة وراء البضائع قد عوّضت طلب الحقيقة ومحبّة الحكمة والرغبة في المعرفة. كوجيطو السلع هو إذن كوجيطو البطون المنتفخة، والعقول الفارغة، فأيّ مستطاع لإنسانيّة عالم السوق المعولم، ذات العيون المعصوبة والقلوب المعطوبة غير كينونة واهنة ومستقبل مرتعش وضمائر كسولة، وماذا ترك هؤلاء المدمنون على السلال المملوءة، والموائد المترفة، بلحومها ومُحلّياتها ومكسّراتها، للجياع الذين يزداد عددهم كل يوم هنا وهناك في هذا العالم. كوجيطو السلع قد يموت جوعاً، هذه ليست مجرّد استعارة خطابيّة، بل هي حقيقة استشرفها علماء البيئة والطاقة والمستقبل، فليس الأمن الغذائي فقط هو المهدّد اليوم، بل كلّ أشكال الأمن، من الأمن السياسيّ إلى الأمن البيئيّ، ومجتمعات الاستهلاك هي أيضاً مجتمعات بصدد الموت جوعاً.. لكنّ الإنسانية اليوم لا تستهلك ما تأكله البطون فحسب، بل وأيضاً هي تطلب هلاك طبقة الأوزون والطاقات الجيولوجية العميقة للأرض، والحيوان والنبات وكل مجال الحياة الذي صار مهدداً بكل أشكال تكنولوجيات علم الجينات المعاصرة، التي تسطو على الحياة فتحوّلها، وتستنسخها وتستفزّها وتشوّهها بأشكال مختلفة، وربّما سنلاقي إنسان كوجيطو السلع يوماً ما على نفس الصورة، لا يحمل أيّ شي في جعبته غير جوعه وفزعه ورعبه، وما هو مثير للهلع أكثر، إنّما هو أن يشتدّ العمى بالجميع، إلى حدّ هلاك الجميع. خاتمة: «وأنت تعدّ فطورك فكّر بغيرك لا تنسَ قوتَ الحمام وأنت تخوض حروبك، فكّر بغيرك لا تنسَ مَن يطلبون السلام وأنت تعود إلى البيت، بيتك فكّر بغيرك لا تنسَ شعب الخيام وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكّر بغيرك ثمّة من لم يجد حيّزاً للمنام» محمود درويش ضد الطلائعية ظهر الفن الحدثي كنوع من التحدّي للنزعات الطلائعيّة، بغرض اختراع مفهوم مغاير للعلاقة مع الجمهور، وليس لهذا الفنّ أسلوب وحيد، فهو فقط يسعى إلى أن يصالح بين الفنّ والحياة، ويجعل من الفنّ متدخلاً نشيطاً في الحياة اليوميّة. يقول ألان كابرو في هذا السياق: «إنّ الحياة اليوميّة هي أكثر إثارة من أيّ أثر فنّي». وقد وقع استلهام هذا النوع من الفنّ من بعض المدارس الفنّية مطلع القرن الماضي، مثل الدادائية التي أعلنت أنّ «الفنّ ليس مطالباً بأن يستجيب لماهية الفنّ نفسه» والسرّيالية «القائمة على الاستفزاز والاحتجاج، والإثارة والمبالغة»، والمستقبلية، «حيث تقوم التجربة الفنّية على أحداث فنّية من قبيل قراءة القصائد والبيانات على الركح».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©