الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعر يخترق الجنون

شعر يخترق الجنون
14 أغسطس 2008 00:08
يعتبر الشاعر فيرناندو بيسوا (188 ـ 1935) من اقرب الشعراء البرتغاليين إلى قلوب المترجمين وعشاق الشعر في المغرب، فقد اهتم الكثير من هؤلاء بترجمة أعمال هذا الشاعر الأسطوري وتقريبها من القارئ المغربي والعربي· ومن أبرز هؤلاء المترجمين: وساط مبارك، سعيد الباز، عبد القادر الشاوي، المهدي أخريف هذا الأخير الذي عكف منذ سنوات عديدة على ترجمة الأعمال الكاملة لفرناندو بيسوا والموزعة على عدد من المجلدات انفردت بنشرها وزارة الثقافة ووزعت على نطاق واسع ومنها ما نفد من الأسواق· آخر عمل شعري يترجمه الشاعر المغربي المهدي أخريف لفرناندو بيسوا هو: ''ديوان الأغاني وقصائد أخرى''، هذا العمل الشعري الذي انتظره عشاق بيسوا منذ سنوات طويلة· عرفت حياة هذا الشاعر العملاق الكثير من التقلبات والأحداث التي عصفت بحياته وتركت أثارها بارزة في قصائده، فقد ولد الشاعر ـ كما جاء في ''شذرات من سيرة'' كتبها المهدي أخريف توطئة للكتاب ـ يوم 13 يونيو عام 1888 في الطابق الرابع من المنزل رقم 4 بساحة سان كارلوس في لشبونة وتوفي يوم 30 نوفمبر 1935 في لشبونة أيضا· عاش طفولته الأولى مع والديه ومع جدته لأمه، ديونيسيا، التي كانت تعاني من نوبات جنون تتميز بعدوانية شديدة العنف· لقد عاين، وهو طفل، العديد من الأزمات الحادة لجدته تركت فيه آثارا عميقة، وجعلته يعاني منذ فترة مبكرة الخوف من الجنون، قبل أن يصبح هو نفسه عرضة لنوبات هستيرية حادة بين الفينة والأخرى، نوبات سماها هو ''الموجات السوداء''· والد بيسوا: خواكيم سيبرا بيسوا، كان موظفا ذكيا ومثقفا وله اهتمام بالنقد الموسيقي في ''يومية الأخبار''، وقد نشر بحثا صغيرا عن فاغنر· أما أمه، ماريا مادالينا نوغيرا، فقد درست في معهد انجليزي وكانت على ثقافة أدبية فنية وموسيقية واسعة، أعلى بكثير مما كان متوفرا لنساء عصرها، وكانت تتحدث وتكتب بتمكن تام، بالفرنسية والإنجليزية وعلى معرفة بالألمانية واللاتينية، كما كانت تؤلف أشعارا نيورومانطيقية متوائمة مع تلك الحقبة· لكن التأثير الحاسم في التكوين الأول لبيسوا يعود إلى جدته لأمه ماريا وكانت امرأة مثقفة، شكاكة دينيا، ارستقراطية وملكية وذات مواهب أدبية أفضل من أمه، وقد كانت هي دون غيرها من حمله على كتابة أشعاره الأولى· توفي والده وهو في الخامسة من عمره، فانتقل ليعيش مع أمه وزوجها الجديد الكومندان جواو ميغيل روسا في جنوب إفريقيا في مدينة دوربان التي عين بها زوج أمه قنصلا للبرتغال· هنالك عاش بيسوا في جو عائلي هادئ ما تبقى من سنوات طفولته ومرحلة مراهقته: ''لقد تلقيت، يقول، تكوينا جيدا··· غذائي الأدبي الأول تمثل في ما كنت أصادفه من روايات المغامرات لم تكن تستهويني الكتب الموجهة للأطفال بما تسرده من أحداث مؤثرة· لم تكن تجذبني الحياة السليمة والطبيعية· لم أكن أرغب في الممكن والمحتمل، بل فيما لا يصدق، في المستحيل بطبيعته''· ويضيف: ''منذ امتلكت الوعي بذاتي لاحظت وجود ميل فطري عندي إلى الخداع، إلى الكذب الفني، مضاف إليه، تعلق كبير بما هو روحي، ملغز ومعتم··· لقد صاحبتني مذ كنت طفلا منعزلا وما أزال، بعض الوجوه الأثيرة في أحلامي: القبطان تايبو، شوباليي دوباس، ووجوه أخرى نسيتها··· ولم يكن ذلك تخيلا طفوليا يتسلى بإضفاء الحياة على دماه· كان شيئا أكبر من ذلك بكثير: لم أكن بحاجة إلى الدمى لاستوعب بحدة تلك الوجوه· لقد كانت واضحة ومرئية وما تزال في حلمي الثابت، كانت وقائع إنسانية تماما بالنسبة إلى، كانت أشخاصا''·استقر بيسوا في لشبونة ابتداء من ربيع 1905 سيواجه منذ البداية صعوبات جمة بسبب طبعه المتحفظ وميله إلى العزلة· إذ ما أن يقرر الالتحاق بجامعة لشبونة في أكتوبر من 1906 حتى نجده يتركها نهائيا شهر ماي من سنة ·1907 لقد تركها بسبب نفوره من المناهج الدراسية الرسمية للجامعة وليس بسبب مشاركته في مظاهرات 1907 الطلابية حسب رواية أخيه·في تلك السنوات كان بيسوا يشق طريقه بهدوء في عالم الأدب كانت معظم كتاباته بالانجليزية باسم سيرش تارة وآفون تارة أخرى··· كان يواظب على قراءة الكلاسيكيين الانجليز (شكسبير، بليك، بايرون، ملتون، كيتس···) ويكتشف بودلير والرمزيين الفرنسيين''· عاش بيسوا حياته متألما حزينا، وهذا ما نلمسه في عدد كثير من قصائد هذا الديوان· يقول في قصيدته ''هكذا'': عندما كنتُ شابا، كنت أقولُ لنفسي:/ كيف تمْضي الأيّام، يوما بعد يوم،/ بدونِ أنْ تَحصل على شيء أو تُحاول/ الحصول على شيء!/ لكننِّي، وأنا كبير، بنفس الغيْظ أقول:/ كيْف، يوما بعد يوم، لم يفْعل الجَميع/ شيْئا، ولا شيء يَنْوى فعله·/ هكذا، طبعا، وأنا شَيُخ، سأقول/ بنفْس الصوت ونفس المَعْنى:/ ذات يوم سيَأتي اليوم/ الذي لن أقول فيه شَيْئا·/ من لم يكن شيئا ولا هو بشيء/ لن يقول أي شيء· وفي قصيدته: ''زمن بعيد'' يقول بيسوا: أيَّتها الموسيقى الفقِيرة القديمة!/ لا أدري أيُّ فرح/ يملأُ نظري العاطل بالدموع!/ أتذَّكر استماعا آخر لك·/ لا أدري إنْ كنت سمعتك/ في الطفولةِ التي/ تذَّكرنِي بك·/ بأيِّ التيِّاع مغتاظ/ أهوى ذلك الزمن البعيد!/ هل كنت سعيدا؟ لا أعلم:/ في زمن قدِيم كنت الآنَ· وفي نصه: ''آلامنا'' يصرخ بيسوا: يا شمسا باطِلة في أيَّام فارغَة،/ مفعمة نشاطا وهدأة،/ دفئِي بالأقل اليدينِ،/ يدي من لا تنفذين/ إلى روحه!/ ولتقنع اليد/ العزيمة المثلجة،/ محتكة باليد المارة بجانبها/ بحرارة خارجية لينة!/ يا الاهي، إن كان الألم/ مصحوبا بالجبن الأقصى نصيبنا،/ فلتمنحنا شجاعة/ ألا تظهر لأحد آلامنا· أما في قصيدته: ''طحلب'' فيقول: في الليل الساكنِ/ يهبّ صمت النسيم···/ أشياء غير واضحة/ تحدث لي في الروح/ بابٌ مُوارِب/ ابتسامة متشككة/ قلق لا يتواءَمُ/ مع ما يحدث·/ يحلم، يتشكك، ارفَعه/ إلى من أظنٌني إياه·/ فيحتك صوْته الذي من دخان/ بالنٌعاس الذي بداخلي·/ يدٌ مباغتة لشبح خفي/ تهزٌني فيما أحلامي تخترقُ الليل،/ تهزني فأصحو، لكن، مغمى علي·/ لا أجد في الليل أي شبح أو علامة·/ لكن رعبّا قديما لم يدفن،/ احمله في القلب، كما لو نازلا/ من عرش، يؤكده إلا هي/ بلا أوامر، بلا إشارة ولا شتيمة·/ وأنا أحسٌ فجأة حياتي/ مشدودة بحبل لا وعي ما/ إلى يد ليليّة هي دليلي/ لا أحسٌني أحدا/ عدا ظلّ شبح لا أراه يُفْزعني/ وأنا موجود لأجل لا شيء/ مثل ضباب بارد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©