السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حاد وصاف وواضح·· كالسيف

حاد وصاف وواضح·· كالسيف
13 أغسطس 2008 23:50
ورد في الحوار أن أحمد أمين المدني ''حصل على دكتوراه في اللغة العربية''، ولعل ذلك حدث من باب السهو؛ لأن المدني بعد مرحلة بغداد الدراسية درس سبع سنوات في جامعة كمبردج ببريطانيا انتهت بحصوله على دكتوراه موضوعها ''فكرة التوحيد في الإسلام''· وكان ذلك سنة 1967 وهو أول حاصل على هذه الشهادة العليا في الإمارات· يطرح الصايغ قناعة أدبية قديمة جديدة لم تعد رائجة وتسبب عدم رواجها في اضطراب تقييم الجمال الأدبي ومفاهيم التجديد فيه· يقول الصايغ: ''أنا لا أكتب قصيدة المتنبي وأبي تمام بل أنا أكتب قصيدة حبيب الصايغ التي تستفيد من زملائه ابتداء من نازك والسياب مروراً بأدونيس ووصولاً إلى درويش''· إن موقف الصايغ هذا مؤسس جوهره على مفهوم التجديد في الشعر، ومفهوم التوليد الإبداعي للنص الجديد من النصوص القديمة· أما المفهوم الأول فقد غاب من شاشة التلقي الأدبي العام أو هو يكاد، بحيث أصبح المتلقي العام يطرب لقصائد تردد جماليات بلاغية يزيد عمرها على مئات السنين، وأصبح الشاعر في عرف هذا المفهوم ليس هو المجدد في اللغة والتناول بل هو القادر على الكتابة كما كتب الأقدمون الأفذاذ· وهذا التوجه تقابله مفاهيم فكرية نكوصية هي في غاية الخطورة؛ لأن بنيتها الذهنية والمخيالية انتقلت من تنظيرها للمجتمع إلى تنظيرها للنص الأدبي· الاستفادة ونتائجها يشير الصايغ إلى ''الاستفادة'' من زملائه الشعراء، وهذا موقف عقلاني؛ لأنه لايوجد نص أدبي ينشأ من الصفر، غير أن الجدير بالتركيز عليه هنا هو معنى''الاستفادة'' ونتائجها· ولعل أبرز مثال ينطبق على هذه العملية العقلية المعقدة لتداخل الوعي واللاوعي فيها هو القول: ''إن الأسد هو محصلة عدد كبير من الغزلان والبقر الوحشي، لكن الأسد لم يحدث أن تحول من حيث الشكل والطبع إلى غزالة أو بقرة وحشية''· يعني ذلك أن جسد الأسد يستقبل لحوم عدد كبير من الحيوانات لكنه يهضمها ويطبعها بطابعه فيظل بذلك أسداً ولا يشهد حالة مسخ· وهو الأمر نفسه الذي يحدث في العلاقة بين الشاعر ونصوص غيره· والشاعر الذي لا يتقن الهضم النقدي والجمالي لنصوص غيره في نصه يقدم نصاً ممسوخاً لا طبع فيه، هو خليط توابل لغوية وبيانية مجلوبة من دكاكين إبداعية معروف أصحابها بالاسم والعنوان· وهنا يمكن طرح السؤال التالي: إلى أي مدى تخلص الشاعر حبيب الصايغ من ذاكرته الشعرية وهيمنة المخيال اللغوي الموروث وهو يمارس العملية الإبداعية؟ ويمكن طرح السؤال بصيغة أخرى وهي: في أي مرحلة أو في أي نصوص استطاع الصايغ أن يكون الصايغ وليس غيره أو بعض غيره؟ أما أن يكون الصايغ هو الصايغ في جميع شعره، فهذا من الصعب تقبله؛ لأنه مستحيل الحدوث مع أي شاعر· وعلى الرغم من كون حبيب الصايغ من الشعراء المميزين فعلاً في الساحة الشعرية الإماراتية فإن غربال النقد لم يتعامل مع نصوصه بشكل جاد، ولا مع نصوص غيره من الشعراء المجايلين له· ثم إن عبارة ''التجديد الشعري'' ليست هينة حتى يتم التعامل معها في إطار سياق أحادي؛ لأن أسئلة كثيرة ستهطل لحظة الحديث عن هذا الضرب من التجديد من مثل: التجديد في ماذا؟ وبالنسبة إلى ماذا؟ وفي أي سياق جغرافي وشعري؟ ذوق الجمهور يقول الصايغ في مقام آخر من الحوار: ''أنا لا أؤيد مراعاة ذوق جمهور الشعر ولكن لا أؤيد القطيعة مع الجمهور'' هذا موقف شجاع من شاعر ذي ثقة في إبداعه، ذلك لأن الشاعر الحقيقي متفرد بذاته الإبداعية ولا يطلب الرضى من عامة الناس على شعره· غير أن كلمة جمهور غير دقيقة في ميزان العلاقة بين المتلقي والمبدع؛ لأنه أساساً لا يوجد جمهور، بل توجد قطائع من المتلقين، لكل قطيعة ذاكرتها الشعرية والنقدية وفلسفتها نحو الإبداع ووظيفته وعلاقته بالمجتمع· وإذا كان الأمر كذلك، فإن الشاعر لا يتعامل إلا مع قطيعة واحدة من القطائع، هي تلك التي تشترك معه في القناعات والرؤى الفكرية والجمالية· مع الإشارة إلى أن هذا التقسيم ليس صارماً إلى هذا الحد؛ لأنه يوجد تداخل قد يتسع وقد يضيق بين هذه القطيعة وتلك· فالقطيعة التي تأسس ذوقها الشعري على مواقف مدرسة الإحياء وجماعة الديوان في مصر مثلاً لا يمكن أن تستمتع بشعر صلاح عبدالصبور وأمل دنقل، والقطيعة التي تأسست ذائقتها على شعر أدونيس ومحمد الماغوط على سبيل المثال لا يمكن إلا أن تناصب شعرهما الازورار والنكران· يبدو حبيب الصايغ في موقف آخر من الحوار حاداً كالسيف وصافياً كالسيف وواضحاً كالسيف، وهذا طبع الصايغ الذي يلمسه كل من يعرفه عن قرب، إنه لا يجامل لا في الخير ولا في الشر· غير أن المتمعن في هذه الحدية والعرامة يستشف قلب شاعر حريص وصادق· يقول: ''ربما كان من التحامل إذا وصفنا الساحة بأنها فارغة، لكن يجب أن نحدد رأياً واضحاً في هذا الموضوع فالساحة الشعرية مكتظة بشعراء ومبدعين، لكن لاخصوصية هناك، اللهم إلا هذا الاكتظاظ''· يبدو هذا الموقف عدمياً، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالنص الشعري في الإمارات؛ لأن ما ينجزه عبدالعزيز جاسم وخلود المعلا وأحمد العسم وهاشم المعلم وإبراهيم محمد إبراهيم وإبراهيم الملا على سبيل المثال يشكل تطوراً نوعياً في الشعرية الكتابية في الإمارات، بل هو تجاوز إبداعي لافت قياساً بما كانت تمور به الساحة الأدبية المحلية في السبعينات وما قبلها· وهذا يعني أن وصف هذا الإنجاز بأنه لا يشكل أي خصوصية فيه شيء من الظلم ومجافاة الحقيقة؛ لأن المذكورة أسماؤهم لم يقلدوا أحداً من شعراء الإمارات، بل ''استفادوا'' من التنظير النقدي والفتوحات الشعرية في العراق لبنان على وجه الخصوص، واقترحوا على الساحة الأدبية المحلية بعد ذلك نصوصاً جديدة في مبناها وفحواها، حتى أن هذه الساحة لا تزال حتى اللحظة لم تبرم بعد معاهدة صلح مع متن وفضاءات هذه النصوص· لكن الصايغ يخرج من هذا الموقف العدمي في الحوار بعد سؤال ذكي من الدكتور سلمان كاصد ليقول: ''شعراؤنا في الأغلب الأعم ينصرفون عن الشعر إلى انشغالاتهم المعيشية أو الحياتية، شعراؤنا في الأغلب أيضاً، تجنباً للتعميم، لا يعيشون الشعر، ولا ينذرون له أعمارهم، وهذا لا يحقق مشروعاً شعرياً كبيراً، ساحتنا الشعرية مملوءة بالأصوات المتفاوتة في التفرد والجمال والجدة والجدية''· ها هي نسمة عدل تهب على السيف القاطع فيشير إلى أن التعميم غير جائز في الأحكام النقدية، ويؤكد ضمناً أنه يوجد شعراء في الإمارات يعيشون الشعر، ومن حقهم أن يؤسسوا رويداً رويداً مشروعهم الشعري الذي لا يمكن قطف ثماره إلا بعد أين ولأي· كما يشير الصايغ إلى أنه توجد أصوات متفاوتة في التفرد· وهذا التصريح في حده ذاته يشكل بشارة خير وعلامة تفاؤل وجسراً للحوار بين جيلين شعريين· الانحدار والتكرار غير أن الصايغ بتجربته الشعرية الواسعة والمتنوعة يصف الأشياء بمسمياتها حين يقول: ''أنا أعتقد أنه ليس هناك انحدار، ولكنه تكرار، هناك دوران في فلك عمودية الشعر الجديد، هناك قاموس مستهلك نفد ومازال الكثيرون ينهلون منه ولا يرتوون''· إن الشعر كأي فن من الفنون من السهل ممارسته ومصاحبته سنوات طويلة أما النجاح في الفتق والإبداع فيه فذلك أمر عسير· لقد أصبح عدد الشعراء مقارباً لعدد لاعبي كرة القدم، وكما أنه من السهل أن تشتري كرة من السوق وتختار مساحة وجماعة لممارسة هذه الهواية، فإنه من السهل أيضاً اللجوء إلى السوق لشراء قلم وباقة أوراق وممارسة الكتابة أناء الليل وأطراف النهار، وبعد ذلك من حق الناس أن يكون لهم موقف من ممارستك لكرة القدم وكتابة الشعر· والصايغ حين يصف الساحة الشعرية بالتكرار والدوران لا يقصد الساحة المحلية فقط بل هو يقصد الساحة العربية كلها· ولعل هذا ما حديث في جميع العصور، فكم من شاعر أكله المتنبي والمعري مثلاً؟ لقد جايل هذين العملاقين آلاف الشعراء، لكن أين هم الآن؟ ومن يتحدث عن شعرهم؟ إن غربال التاريخ قاس جداً وعادل جداً في الوقت نفسه· ومن الإجابات الطريفة التي وردت في هذا الحوار الممتع قول الصايغ: ''أنا لم أكتب الشعر في الثالثة، ولم أقل ذلك بل شعرت بأنني شاعر واكتشفت أنني شاعر في هذه السن''· يمكن قبول هذا التصريح والتعامل معه تعاملاً مجازياً أدبياً، أما على المستوى النقدي فلا يمكن ذلك؛ لأن الطفل في مثل هذه السن لا يملك القدرة على الاكتشاف، الذي هو سلوك واع ومتجاوز للبيولوجيا وضروراتها، كما أن طفلاً في هذا المقام لا يمكن لا أن يدرك أصلاً معنى الشعر ومعنى الشاعر· ولعل من بين أبرز الهموم الثقافية التي طرحها الحوار هو الإشارة إلى عقم ''حملة شهادات الدكتوراه'' في الغالب الأعم، وبالأخص أولئك المتخصصين في النقد الأدبي· فما ان يحصلوا على الدكتوراه حتى يضعوا حاجزاً قوياً بينهم وبين الكتابة والبحث ويتفرغوا لشؤون حياتهم الوظيفية والخاصة· وفي ذلك يقول الصايغ: ''هذه مصيبة مصائبنا، لا يوجد ناقد حقيقي ولا يوجد مشروع نقدي، وقد تكون هناك محاولات نقدية متفرقة ويستغرب المرء أن الإمارات جميعها لم تستطع أن تخرج ناقداً واحداً، لدينا أساتذة جامعات، أكاديميون متخصصون في النقد، أين هم من إنتاجنا؟ هل هو تقصير منهم؟''· هل فكر اتحاد كتاب وأدباء الإمارات أو أي مؤسسة ثقافية كبرى في الدولة في تنظيم يومين دراسيين يحضره حملة الدكتوراه في اللغة والأدب العربي وأبرز الفاعلين والمبدعين في الحياة الأدبية المحلية لدراسة مشكلات هؤلاء الدكاترة، ومطالب المبدعين في حقل الأدب؟ مع العلم أن الفكر النقدي الاجتماعي والأدبي والتاريخي وما شاكل ذلك لا يمكن أن يتأسس انطلاقاً من أيام دراسية؛ لأنه في جوهره نتاج مجتمعي يتطلب شروطاً تاريخية وسوسيولوجية حتى يظهر وينمو ويثمر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©