الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سنديانة صامدة في وجه كل التحولات

سنديانة صامدة في وجه كل التحولات
13 أغسطس 2008 23:36
بين رحيله الأول ورحيله الأخير·· بين عودته الأولى وعودته الأخيرة، رسم محمود درويش خريطة الوجع الفلسطيني· غادر الأرض المحتلة شاعرا يافعا حالما بالتحرير، وعاد إليها قامة شعرية تؤرقه الحرية، وبين التحرير والحرية كان مشوار شاعر الثورة الفلسطينية يتشكل بحسب منحنيات القضية· وحينما أراد محمود درويش أن يخلع العباءة الرسمية التي رافقته في رحلته، وأن يتجه ابداعيا، نحو تجارب جديدة، ظل شعبه يؤمن به كشاعر يعبر عن نبضه، ويستنطق حجارته، ويقف مع عجائزه عند حواجز القهر، ويرفع صوته مع أحراره ضد نعرات الانقسام ومتاهات الضياع الجديدة· هكذا هو محمود درويش عند الفلسطينيين: شاعر القضية في كل منحنياتها، وتحولاتها، السنديانة الشامخة الصامدة في وجه كل رياح·· هذا ما تعبر عنه شهادات كتاب ومثقفين فلسطينيين في الشاعر الراحل: يقول الباحث الفلسطيني نبيل علقم (رام الله): الشاعر الراحل محمود درويش قمة من قمم الإبداع في الشعر العربي، ليس المعاصر فقط، وإنما على مدى التاريخ العربي كله· أما على المستوى الفلسطيني فهو قمة الإبداع الفلسطيني دونما منازع· وفي الثقافة الفلسطينية فإن درويش واحد من أعمدتها، واحد من رواد أدب المقاومة الفلسطينية داخل الخط الأخضر· لم يلق سيفه الشعري حتى موته ليكون حامياً ليس للرموز التي تعبر عن الهوية الوطنية الفلسطينية فقط، وإنما ليكون هو نفسه رمزا من هذه الرموز الفلسطينية· على المستوى الشعري فإنه من القلائل الذين امتلكوا اللغة وطوعوها لتحمل أفكاراً وجمالاً فوق طاقة اللغة نفسها كما نألفها ونعايشها ونعرفها! ؟ ويقول الكاتب ناهض زقوت (غزة): لقد خسرت فلسطين والثقافة الفلسطينية شاعرا كبيرا من الصعب أن يجود به الزمان، فقد كان للمرحوم درويش أثر كبير في المشهد الشعري العربي عامة والفلسطيني خاصة· إن محمود درويش هو فخرنا وعزنا الثقافي والابداعي، وهو الذي علمنا أن نحب الأرض ونعشقها من خلال أشعاره الحماسية التي جعلتنا نعرف كيف نقاوم الاحتلال· المرحلة والتحولات ؟ ويقول الكاتب والناقد على أبو خطاب (غزة): يمكن أن نصنف الشعراء إلى شعراء مرحلة وشعراء تحولات، فالنوع الأول لا يخرج عن نطاق مرحلة زمنية أو توجه حزبي أو فكري معين، أما شاعر التحولات فهو الذي ينتقل من مرحلة لأخرى ومن منطقة ابداعية لأخرى مجرباً ومحاولاً الوصول لاكتشاف أكبر مساحات شعرية وفي ظني أن درويش كان يحاول ومنذ الستينيات وعلى امتداد أربعة عقود شعرية أن يجرب الجديد فأبدع في النثر كما في رسائله لسميح القاسم و''ذاكرة النسيان'' و''أثر الفراشة''، وفي الشعر الغنائي أبدع في الانشاد الوطني وربما أبرزها ''مديح الظل العالي'' وأبدع درويش في الأشعار الغنائية الانسانية كقصيدة الأم التي غناها مارسيل خليفة وكان ذروة ابداعه جداريته التي كانت المواجهة الأولى مع الموت بعد اجرائه العملية الجراحية الأولى، حيث خاض بعد ذلك تجارب أخرى انتصر في آخرها الموت على جسده إلا أنه انتصر على الموت في ابداعه الباقي إلى الأبد· ؟ ويقول القاص غريب عسقلاني (غزة): يعتبر محمود درويش قامة شعرية عالية، وأمير الشعراء المتوج بعد أحمد شوقي، فهو فارس شعر المقاومة الفلسطينية الذي لم ينافسه في هذا اللقب أحد، فهو قد احتل المرتبة الأولى في أدب المقاومة الفلسطيني، فقد أضاف للفكر الانساني أبعادا جديدة وجدد في القصيدة الشعرية وأخذها لأبعاد جديدة لم يسبقه إليها أحد· ؟ ويقول مدير تحرير جريدة ا''لأيام'' الفلسطينية ومدير معهد الاعلام في جامعة بيرزيت عبد الناصرالنجار: في لقائه الأخير مع جماهيره المحبة في مهرجان قصر ثقافة رام الله الذي أقيم قبل حوالي ثلاثة اسابيع، أيقن الجميع أن هذا هو اللقاء الأخير مع الشاعر الكبير حيث ألقى قصيدته الأخيرة ''حجر النرد'' أمام الحشود الغفيرة التي أحبته، والتي كانت في وداعه حيث تناقل الجمهور خبر خطورة الوضع الصحي للشاعر الكبير· رحل محمود درويش وهو الشاعر الذي لن يجود الزمن الفلسطيني بمثله، فقد ترجمت أشعاره إلى الكثير من اللغات، وهذا يدل على أن شعر المقاومة هو لسان حال كل الشعوب المقهورة وليس خاصا بشعب واحد، ولذا فإن خسارة درويش خسارة عالمية وليست فلسطينية أو عربية· ؟ ويقول الصحافي حسن جبر (غزة): محمود درويش كان زادي في معتقلات الاحتلال لسنوات طويلة، علمنا الصبر وكيف حين نحب نحتمل وننسى القيد، علمنا حب أمنا وهي تحت التراب، وعلمنا حب الوطن ونحن أسرى على ارضه، وأخيرا علمنا أن نرفع راية لا للاقتتال الداخلي· عنوان الإبداع ؟ ويقول وكيل مساعد وزارة الثقافة الكاتب مهند عبد الحميد: كانت وفاته صادمة لأنه ليس مثل أي حالة أو شخص، فهو عنوان الثقافة والإبداع المتجدد في الشعر وفي مختلف الحقول، لقد اعتدنا عليه في الأزمات كان يستخرج عناصر القوة التي يمتلكها الشعب بطرائق جمالية ليس بالخطابة أو المواقف، يستخرج هذه العناصر بأسلوب جمالي مقنع يتغلغل في أوساط الناس بكل الفئات وتحديداً النخب، كان يؤكد على تفوقنا ضد الاحتلال والعنصرية الإسرائيلية· في الجبهة الثقافية كان درويش في الخندق الأول منها، كنا ننتصر في كل معركة هو فيها، ننتصر بالمضمون ونرى عناصر التفوق لدينا وعناصر الضعف لدى عند الاحتلال والرجعية العنصرية الفاشية والبطش والاستباحة على عكس ما يظهر من التقدم والتطور· كان محمود في مفاضلاته وعروضه ونقده وأشعاره يقدمنا بهذه الصورة المتقدمة ويقدم العدو بطريقة أخرى وفي هذه الصيغة كنا نحن الأقوى على الاحتلال، هذا الشعور بالتفوق الأخلاقي والثقافي والنفسي والمعنوي يؤسس لحسم المعركة لصالح الشعوب المحتلة والمضطهدة· كان السباق المبادر المتجدد الذي يُعزّز فينا عناصر الصمود والقوة ويعطينا الأمل بطرائقه الخاصة وفي كل مرّة كان يفاجئنا بأسلوب جديد· كان في كل المراحل يأتي ويدخل على الخط ليقول كلمته، ليس بخطاب وليس بمعنى الشعر التقليدي الذي يطرح خطاباً سياسياً ينطلق من جماليات الشعر ويلتقي بالمضمون هذا هو الجميل حتى في تشخيص الأنا ومع الموت والحب كان يلتقي مع سر بقائنا على هذه الأرض· كان مانفستو مبدعاً، ففي مديح الظل العالي كان يدخل في التفاصيل الدقيقة، وفي أحمد الزعتر كان مانفستو عمل استقطاباً مع المخيم الذي حوصر ومع الذين اعتدوا عليه وحاصروه· ؟ ويقول الشاعر عبد الحكيم أبو جاموس: لقد فُجعنا بموت سنديانة فلسطين السامقة، وارفة الظلال، بغياب قامة شعرية منقطعة النظير، شاعر فذّ، ناطق باسم الشعب الفلسطيني قاطبةً، وباسم قضيته العادلة، رحل فارس الكلمة الشجاعة والجريئة ورائد الشعر المقاوم، مات أبوالشعر الفلسطيني· رحل متنبي العصر الحديث، الذي ضاق صدره بقلب مرهف نديّ، انقبضت عضلته التي لم تحتمل غول الاحتلال، وظلم ذوي القربى الذين نخرهم سوس الفرقة والانقسام والتشظّي، ذلك الشاعر الذي رثى نفسه حيّاً، مثل الشاعر العربي مالك بن الريب· حين استمعنا إليه الشهر الماضي، لما صدح في قصر رام الله الثقافي، كان يودّع الجميع، فعرفنا بموته المبكّر، حين حلّل اسمه الأفقي ذا الخمسة أحرف: ميم المستعد لموته وواو الوداع ودال الدليل الدرب والدموع، هذا الطائر الذي امتلأ بكل أسباب الغياب، وظل يبشر بالنصر والتحرير، لا زالت كلماته ترنّ وتدوّي في الآذان: واسمي وإن أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرفٍ أفقية التكوين لي: ميم المتيّم والميتّم والمتمّم ما مضى· حاء الحقيقة والحبيبة حيرتان وحسرتان ميم المغامر والمعدّ المستعدّ لموته الموعود منفيّاً مريض المشتهى واو الوداع الوردة الوسطى ولاء للولادة أينما وُجِدتْ ووعد الوالدين دال الدليل الدرب دمعة دارةٍ دَرَسَتْ ودوريّ يدللني ويُدميني وهذا الاسم لي ''محمود'' (م··ح··م··و··د )· سأصير يوماً ما أريدُ سأصير كرمة أنا الرسالة والرسول امتلأت بكل أسباب الغياب أنا لست لي أنا لست لي يستحق الحياة ؟ ويقول الكاتب تحسين يقين: استحق محمود درويش الحياة بعد الحياة، فهو حين أنشد يوما: ''سيدتي أستحق لأنك سيدتي أستحق الحياة'' إنما بشّر بخلوده كونه عاش لفلسطين، فلم يسكن الوطن شعر شاعر كما سكنت فلسطين شعره، لا خوف على الراحل الباقي، حيث ستطول قراءتنا لمحمود درويش، وسيمنحنا برحيله وقتا كافيا لتأمل شعره، حيث لم نكد من قبل نبتدئ تأملاتنا حتى يمطرنا بوابل شعره، الذي ليس كالشعر، مع الاحترام للشعراء والشعر· لقد استطاع محمود درويش ان ينقل غناءه عن فلسطين إلى العالم، إلى الأكاديميات التي جعل الاعتراف بفلسطين فيها يأتي عن اختيار، فسما فوق الإعلام الذي تحيز ضد القضية الفلسطينية· لقد احب درويش فلسطين، فاجتهد في شكله الشعري ليعظم فلسطين ويسمو بها من الصياح إلى التأمل، ومن خلال شعره عن وطنه عبر عن آلام الأمم والشعوب المقهورة في الماضي والحاضر من لاجئي الأندلس إلى عذابات الهنود الحمر· ؟ وتقول القاصة نبال ثوابتة (رام الله): محمود درويش علمنا حب الأرض وعشق الوطن، جميع أبناء هذا الجيل هم ممن تخرجوا على يديه، عشنا معه مرحلة النضال الفلسطيني، وعاش معنا ألم الشارع ورجل الشارع الفلسطيني· ؟ ويقول القاص زياد خداش (رام الله): أنا لا احتاج القهوة ولا الدخان، فكل أشجار البن في روح درويش، وكل دخان العالم في شعر درويش، محمود ظاهرة غير معتادة، لم يسمح لأحد ان يعتاده، فالعادة تولد النسيان وتشبه الموت، كان يفاجئنا كل يوم، بطريق التفافية جديدة نحو جمالنا، ورشاقتنا، كان رسول ينابيعنا وروعتنا وفضائحنا الجميلة وأخطائنا الرائعة· حصار الموت ؟ ويقول الروائي توفيق أبو شومر (غزة): يتحدث محمود درويش عن نفسه فيوجز وينجز حين يقول: ''أنا شاعر محاصر بالموت· قصة شعبي كلها قصة صراع الحياة مع الموت، وعلى المستوى اليومي كل يوم عندنا شهداء· الموت عندي ليس استعارة، ولست أنا من أذهب إليه كموضوع بل هو يأتيني كحقيقة· عندما كتبت الجدارية التي هي عن موت شخصي كان في نيتي أن أكتب عن الموت، حين قرأت القصيدة بعد كتابتها رأيتها قصيدة مديح للحياة· قد يجد بعض القراء عزاءً في شعري عن خسائر ما، لكن من الظلم أن تسميني شاعر عزاء''· هكذا كان محمود درويش وهكذا سيكون، فهو باق كما هي باقية الحياة بما فيها من مواقف متناقضة· ؟ ويقول الكاتب فراس طنينة (الخليل): شكل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش آخر أشكال الشعر العربي الرزين، وبموته تبدو الساحة الشعرية العربية خالية من العظماء، فهو كما قال عنه الأديب الكبير يوسف إدريس: محمود درويش أزال عن الشعر العربي عهره· فدرويش الإنسان والمناضل والثائر والشاعر والسياسي والفيلسوف انتهى جسداً، إلا أنه باق في عقولنا وروحنا ما حيينا، فهو الذي رفع من شأن القضية الفلسطينية، وهو الذي كان وزيراً للإعلام والثقافة الفلسطينية دون تنصيب، فقصائده التي ترجمت لكل اللغات تقريباً، جعلت العالم يعرف عن القضية الفلسطينية أكثر مما عرفه من خلال البندقية أو المفاوضات أو السلام أو حتى السفارات· فدرويش هو الذي صاغ القضية الفلسطينية بلغة رصينة، وجعل من نفسه ومن شعبه أنموذجاً نضالياً بأساليب حديثة لم يعرفها أحد من قبل، فكان حقاً شاعر القضية، بل والشاعر الفلسطيني الأول· لقد شكلت وفاته نهاية حقبة في الأدب الفلسطيني، وعلى الشعراء الآخرين أن يسعوا إلى ملأ الفراغ الذي تركه، وقد لا أجد أحداً يمكن أن يملأ هذا الفراغ إلا الشاعر الدكتور تميم البرغوثي، مع قرب الأسلوب الشعري، الذي يعتمد الفلسفة والأدب والميثالوجيا في النص الشعري· هو والمؤسسة ويقول الشاعر باسم النبريص (غزة): في هذه اللحظة المعتمة من تاريخ ومصير شعبنا، بل في هذه اللحظة الأقسى والأسوأ، يختار القدرُ أن يُغيّبَ محمود درويش· ما كان يحيّرني في شاعرٍ كبير بحجم درويش هو اقترابه من المؤسسة، وأحياناً، إن لم يكن غالباً، إندغامه فيها· فرجل بهذه القامة الفارهة، لم يكن بحاجة إلى أية مؤسسة، خصوصاً بعد أن صار هو نفسه مؤسسة· وبعد أن صار بمثابة ''رأس مال رمزي لكل الشعب الفلسطيني'' في الوطن والدياسبورا· لن نختلف على قيمة وقامة الرجل· فقط نشير إلى أنه، خسر من اقترابه من المؤسسة أكثر مما ربح· خدشته المؤسسة وهو يدري ولا يدري· لم يكن مع شعبه تماماً· ولطالما سكت في الأوقات الحرجة التي تتطلّب منه أن يقول كلمته· إنني حزين لوفاته على المستوى الشخصي، بل حزين أكثر مما يتصوّر البعض· وما كنت أظنّ، في زماننا الكافر هذا، أن أدخل بيتي، وقد كنت في مشوار، فأجد بناتي يبكين عليه وكأنه واحد من أفراد العائلة· ومع هذا، لن يمنعني حزني الشخصيُّ من قول ما يتوجب عليّ قوله حتى في هذه اللحظات· فدرويش كان شاعرنا الأول، وأحد أكبر الشعراء العرب في القرون الأخيرة، لذا ما كان بحاجة إلى المؤسسة السياسية الرسمية، حتى ولو ساهمت هذه كثيراً في صناعة اسمه ـ خصوصاً في البدايات· لقد ظلَّ وفيّاً لها حتى النهاية، رغم مرور طوفانات كثيرة تحت الجسر، وذلك هو خطؤه· فهو يقترب منها في حين يبتعد شعبه عنها يوماً بعد يوم· وعليه، فقد كان شاعراً رسمياً بمعنى ما، شاعر يحرص الرسميون العرب، على حضور أمسياته الشعرية والجلوس في الصفوف الأولى· وما من مرة رأيت فيها هذا المشهد إلا واستأت· ماله هو ومال الرسميّات والرسميين! شاعر بحجمه لم يكن بحاجة إلى أحد· وحتى على الصعيد المادي، بما أنّ الشاعر هو مواطن ويحتاج إلى مصاريف، كان ما أخذه من جوائز، في العشرين سنة الأخيرة، يكفيه لكي يعيش بشكل كريم جداً· لقد كانت المؤسسة بحاجة إليه· وللأسف، اقترب منها بشروطها هي وليس بشروطه هو كشاعر· كانت تريد أن تأخذ من رصيده الرمزي، لتحافظ على مصداقيتها المتآكلة أمام الفلسطينيين والعرب· وهو لم يقصّر في مسعى'' غير شعري'' كهذا· كان براغماتياً على نحو ما، رسمياً على نحو ما، وهذا ما كان يجعلنا نحتار فيه· كنا نريد منه أن يمارس دوره كمثقف، وبما يليق بمكانته: أن يقول كلمته في وقتها تماماً ودون حسابات· لكنه، شأنه في ذلك شأن معظم مثقفي منظمة التحرير، خذلنا· فهو كان، بأكثر من معنى، مثقفاً من مثقفي هذه المؤسسة· بل كان أحد أهمّ المقرّبين من رأسها السابق· وحين تحوّلت هذه المؤسسة إلى سلطة تتسلّط، كمثيلاتها العربيات، على الناس، لم يفه بكلمة أيضاً· كان يهرب، وكان يتوارى، وكان جيشٌ من حرّاسه الثقافيين، يتبارون في الدفاع عنه، كلما انتقده أحد، وكأنه العجل المقدّس! ؟ وتقول الكاتبة شيرين خليفة (غزة): بفقدان شاعر الوطن محمود درويش فقدنا كنزا لغويا هائلا، وأديبا مفوها، وكاتبا مثقفا، سعى دوما إلى تثقيف كل مفردات حياتنا، أثرى بذلك مادته المكتوبة فجاءت جزلة، مقنعة، سهلة الفهم راقية الأسلوب· ربما لا أبيح لنفسي إبداء رأي في كتابات أديبنا الفذ ومتنبي العصر الحديث، لكني أرى أن كتابته النثرية تميزت بالوضوح والصراحة ودقة التعبير، وطالما كان بلسما يعالج مفردات الواقع بطريقة مقنعة محببة إلى القلب تشفي الجراح وتلامس الإحساس وان لاقت آذانا مصغية فإنها تشكل ارتدادة للمقصود· اليوم وبعد أن انتقل إلى خالقه أقول ان الموت لا يعني شيئا مقابل هذا الكنز الذي أورثنا إياه، وتركه لنا آية نبصر فيه مرارة الواقع وزيف ادعاءاته· رحل ليس كغيره ممن رحلوا، فقد أورثنا مدرسة نثرية تهمس إلى حد الحديث الشخصي وتصخب إلى حد الضجيج في آن معا· أورثنا مدرسة نثرية بلاغية الأسلوب، فلسفية العرض والتحليل، واسعة الأفق، زاوجت ما بين متناقضات العلوم فيما بين سطور كلماتها الهادئة الرصينة· فهل تعلمنا الدرس؟· هزمتك يا موت وانت انتصرت محمود درويش مزج الموت في لغة النثر والشعر غيب الموت الشاعر محمود درويش الذي كتب ''في حضرة الغياب'' وكأنه بهذا الكتاب كان يستشرف مجيء القادم المجهول سريعا، وللغرابة حقا ان يكون استقبال درويش للموت شجاعا بقناعة الرحيل الذي ابصره كل يوم طوال حياته، اذ لم يعد الموت لديه مخيفا، ما دام قد اصبح رفيقه الأبدي في كل اعماله الشعرية والنثرية· في كتاب الشاعر عبده وازن ''محمود درويش·· الغريب يقع على نفسه'' يصل وازن إلى نتيجة مهمة هي ذاتها التي تثير الآن الكثير من التساؤلات في الأوساط الثقافية العربية وخلاصتها أن شعر درويش لا يمكن أن يوضع ضمن أي تصنيف ''نوعي'' أو ''مدرسي'' بسبب إيقاعاته المنفردة التي لا تميز بين وقع الحروف والمفردات والجمل ووقع التفاعيل والقوافي، هذا ناهيك عن رؤاه الإشكالية لبناء القصيدة الحداثية والتي أثارتها مجموعة دواوينه الأخيرة ''سرير الغريبة'' و''لا تعتذر عما فعلت'' وأخيراً ''في حضرة الغياب·· نص''· سلمان كاصد إنها ليست أعمالاً حديثة ـ حسب المفهوم الزمني والشعري معاً ـ إنها حداثية بمفهوم التجديد تؤكد حسب ''عبده وازن'' ترسيخ الحداثة بالرغم من أن درويش كان مصرا على كتابة التفعيلة الممتزجة بفضاء قصيدة النثر بلا انحياز لهذه أو لتلك وكأنه بذلك المنحى الأسلوبي يحرر قصيدة التفعيلة من الثقل والرتابة اللتين تطوقانها· يقول صبحي حديدي ''إن درويش جسّر الهوّة بين وزن الشعر ونثر الشعر وبالتالي بين تسميتين شاعتا واستقرتا رغم ما تعانيانه من تعسف اصطلاحي ومفهومي، أي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وقد جاء ذلك في حديثه عن كتاب درويش الأخير ''في حضرة الغياب·· نص'' الصادر عن دار رياض الريس في بيروت وثانية عن دار الشروق في رام الله·· كما يقول الدكتور فيصل دراج ''في حضرة الغياب ـ نص'' متساءلاً: هل في حضرة الغياب نص شعري أم نثري؟'' وكأنه بذلك يبتعد عن الإجابة التي لا بد أن تحيل إلى إحداهما·· لكي يقصي مرجعية الهوية المؤجلة عن هذا الكتاب الإشكالي الذي ينزاح عن كل ما هو مركزي، مستقر في بعد واحد وربما تستحضرني هنا ما جاء في استشهاد محمود دريش لنص عربي قديم في احدى أماسيه في مدينة الخرطوم عندما دعي لها في مستهل هذه السنة حين قال ''الشعر ابن أَمة والنثر ابن حرّة''·· وكأنه بذلك يحاول جاهداً تبني هذه المقولة كي يتحرر من عبودية التفعيلة وقوانينها الصارمة باتجاه النثر الحر المنطلق ·· إلا أنه ولكونه قد تربى على أنماطها فإنه لا يرى ضيراً من أن يخلخل هذه الأنماط بسبب قلقه الدائم من هجمة الحداثة، وعليه فإنه حسم ذلك بأن خاض تجربة النص الكتابي المفتوح، إذ كان ''درويش'' مصمما على أن يخوض في صميم الكتابة النصوصية المتعددة الإيقاع والنبرة واللغة وهو في كل ذلك يمزج بين روح الشعر وسردية النثر وتداخل الأزمنة في السيرة الذاتية، إنه خلق ملحمته الخاصة بعيداً عن هاجس أي قضية، فقط ليتأمل ما تبقى من الزمن الذي أراد ان يعيشه، انه احساس عميق بالموت أو هي قراءة لما بعد الموت وكأنه يراوغ الكتابة ليبتعد عن أمه الأمة ليعانق أمه الحرّة التي سوف تريه حياة أخرى جديدة ما بعد الموت· ''النص المفتوح'' يعيده صبحي حديدي إلى بول شاؤول، وقد نقول إن ''النص ـ العمل ـ المفتوح'' هو من تجارب امبرتو ايكو في كتابه المهم ''القارئ في الحكاية'' والذي يعتمد تداخل الأنماط الإبداعية لما لا يدع مجالاً لانتساب أي عنصر من عناصر هذه البنية الكلية (العمل) الى مركز مؤسس شعراً كان أو نثراً، فلم تعد لدى درويش الشاعر المفكر في قضية الشعر دوما وتجديده عمارة التفعيلة مغرية لأنه لم يكتب شعراً منظوماً إلا بروح الحداثة، ولم يخاطر بموهبته الفذة في أن يرتمي بأحضان النثر المطلق أيضاً، انه رحمه الله موهبة بحثت عن انماط جديدة لا تنتسب إلى الشعر أو النثر فقط وإنما للروح الحية التي اكتشفت فجأة أنها قريبة من نهاية الموت· محمود درويش الشاعرالذي استطاع أن يكثف تجربة الموت شعراً ؟ وان يكتشف أن انفراده بكتابة النثر الشعري خالصا، نقيا هو الذي يقوده حتماً إلى اختزال كل تجارب حياته لا في النثر الشعري فحسب بل بالنثر أيضا؟· انه الشاعر الكبير الذي استطاع أن يحيل أي نص لديه إلى نمط متجدد لا يدانيه أحد فيه، حيث يرى ان الشعر يجب ان يتحرر من المثال، لكن ما دلالة أن يستهل درويش كتابه ببيت لمالك بن الريب: يقولون: لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا تلك أسئلة مهمة افتتحها محمود درويش رحمه الله في حياته المناضلة في الشعر والحياة بعنصرين مهمين هما ''الموت'' و''المكان'' حتى أصبحت تجربة مالك بن الريب صورة حقيقية لصدى حياة درويش نفسه الموزعة بين الموت، والمكان الفلسطيني، يقول في أول الكتاب: ''سطراً سطراً انثرك أمامي بكفاءة لم أؤتها إلا في المطالع وكما أوحيتني أقف الآن باسمك كي اشكر مشيعيك إلى السفر، هذا الأخير وادعوهم إلى اختصار الوداع والانصراف إلى عشاء احتفالي يليق بك''· هناك عند مالك بن الريب يفعل الشطر والعجز فعله ضمن منظومة كلاسيكية قاسية هنا يفعل السطر الشعري لقصيدة التفعيلة فعله عند درويش ضمن حداثة آسرة في خطاب جليل للموت الذي يعيشه الشعب الفلسطيني كل يوم ·· الموت مشترك هنا وهناك والمكان الابتعاد والقرب بـ (لا تبعد) عند ابن الريب· يقابله عند درويش ''التوزع المتكافئ للجسد على المكان بأكمله كما توزع الأسطر في استهلالات قصيدة التفعيلة التي سحر بها درويش· المخاطب قاسم مشترك بينهما، خطاب موحد ''يقولون'' عند ابن الريب لغائبين بعد أن جرح في حرب ''ابن عفان غازيا'' وكأنه لا يخاطبهم (أهله) بل هو يخاطب ذاته، كذلك فعل محمود درويش (وكما أوحيتني أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك) انه الشاعر الكبير الذي يخاطب شخصيته (ذاته) في هذا النص وكأنه يخلق محاوراً آخر يبتدعه كما فعل ابن الريب لحظة الموت'' ''عُدْ طفلاً لأرى وجهك في مرآتك هل أنت أنا وأنا أنت فعلمني الشعر لكي ارثيك الآن الآن الآن كما ترثيني''· انه امتزاج بين ماهو ذاتي ووطني لمحنة الموت في مكان محدد وفي زمن قار· منذ العنوان ''الغياب'' و''نص'' و''حضرة'' هناك خوف من الموت/ الغياب وهنا رهبة/ ''حضرة'' وهناك لا استقرار قلق/ ''نص'' حيث التأرجح صار ينتاب الشاعر بل هو البحث عن نص مطلق مفتوح يوازي انفتاح الموت على المجهول في رؤى الشاعر الذي اختار الموت على ان يتعذب في الحياة وهو يعرف تماما ما وراء الغيمة انه المطر الذي أخذ يتكون بل يساقط كسنوات العمر· العابر من ليل الضوء إلى ضوء الليل أنشودة شاعر ملّ الوقوف في حضرة الغياب علي العزير ''سطراً سطراً أنثركَ أمامي بكفاءةٍ لم أؤتها إلا في المطالع/ وكما أوصيتني، أقفَ الآن بإسمكَ كي أشكر مشيعيّكَ إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع، والإنصراف إلى عشاء احتفاليّ يليق بذكراك/ ولنذهبَ معاً أنا وأنت في مَسارْين: أنتَ، إلى حياةٍ ثانية، وعدتَكَ بها اللغة· وأنا، إلى موعدٍ أرجأتُهُ أكثرَ من مرَّة، مع موتٍ وَعَدْتُهُ بكأس نبيذٍ أحمرَ في إحدى القصائد · بهذه الكلمات رثى محمود درويش نفسه في كتابه الأخير المعنون ''في حضرة الغياب''، لم يكن ينقص الشاعر سوى موت يليق بحياته الصاخبة حتى تكتمل الرؤية، ويصدق وعد الحروف المتناثرة ببهاء خلاّب، مات محمود درويش بعدما أتعبَ الموتَ طويلاً، وبعدما إختبر السفر على أجنحة الغيوم، حين توقف قلبه المفتوحة أقاليمه على مكامن الإدهاش، إبان عمل جراحي· اختراق الغياب يوم أنجز درويش كتابه الأخير بدا كما لو أنه يتقاعد من الشعر، وأمر مماثل لا يسعه أن يعني بالنسبة إلى شاعر مثله أقل من التقاعد من الحياة، الأرجح أن غصة غامضة تسللت إلى قلوب محبيه، وهم يقرأون بين سطور النص كيف يكثّف الشاعر مساحات حياته الشاسعة في صفحات معدودة، بدا كما لو أنه يستأذن ناسه، وهم جمهور عريض على إمتداد الوطن العربي، في إختراق حدود الغياب الذي وقف في حضرته طويلا، يعلن لهم رغبته في اكتشاف عوالم أخرى تثري قريحته الشعرية، وتمنح قصيدته أبعادا إضافية قصرت عنها حدود العيش· رسم الرجل أحلامه وهواجسه مستخدما كلمات مستفزة في عاديتها، وترك قرّاءه في حيرة محببة أن كيف لعبارات منسية على رصيف الذاكرة أن تنسج كل هذه التفاصيل المشحونة بالغرابة، كيف للبداهة أن تصير قرينة الدهشة، وكيف يتم إستيلاد الرقة المستحيلة من رحم الواقع الموغل في صلادته· هكذا أعلن اللاجئ نفسه حاضنة لكل ما يجدر بالوطن أن يكونه، وهكذا أمكن للغريب أن يصير ملقى الباحثين عن إلفة وأنس، وهكذا أيضا استطاع الفلسطيني التائه أن يتحول بوصلة للألم الإنساني الحقيقي· بعد ذلك كله لم بيق أمامه سوى أن يموت خلسة حتى يشعر الناس بصدمة الخاتمة، ويتبينوا أن كفاءته في النهايات لا تقلُ عن مثيلتها في المطالع· حياة للشعر منذ البداية هيأت الحياة لمحمود درويش كل متطلبات الشعر بقدر ما حجبت عنه أبسط مقومات العيش وضروراته، عندما حلت النكبة ببلاده عام 1948 كان في السابعة من عمره، لكنه ظل يذكر طوال حياته كيف طلبت القيادة العربية من أهل قريته البروة مغادرة قريتهم بعض الوقت لـ''يتسنى للجيوش العربية التخلص من عصابات الهاجاناه''، خرج الصبي مع عائلته بإتجاه لبنان، ولدى عودته تبين له أن قريته تحولت مستوطنة إسرائيلية بإسم أحيهود، وأنه قد أصبح لاجئا في وطنه، أيضاً صار البيت الطفولي على بؤسه حلما بعيد المنال، وكان عليه أن ينتظر قرابة نصف قرن ليصرخ في وجه جده عاتبا: ''لماذا تركتَ الحصان وحيداً؟'' لأنه لاجىء حُرم درويش من حقه في الحصول على جواز سفر، فإستبدله بقصيدة أعلن من خلالها إنتماءه إلى كل قلوب الناس، ولما سأله الضابط الإسرائيلي المكلف إصدار بطاقة هوية له عن جنسيته ردّ عليه ''أنا عربي''، فلما أعاد الضابط السؤال مستنكرا، أصر الشاعر على جوابه، قائلا للضابط: ''سجل أنا عربي''· وآل الموقف إلى قصيدة رددها الملايين، وكان على الشاعر في مرحلة لاحقة من عمره الإبداعي أن يسعى للتخلص منها، بعدما اكتشف ما يثير القلق: ''العلاقة بين الجمالي والإنساني اكثر إنسجاما من الشعر المباشر·'' هذا الاكتشاف الموجع دفع درويش لوأد ريتا، طفلته الشعرية المحبة، خشية أن تتحول إلى تيمة إبداعية تلاحقه كالشبح، وسيكون عليه بعد كثير من الشعر المتغزل بحب الوطن أن يصرخ في وجه منتقديه الكثر، ممن رأوا في تحول قوافيه نحو الحب خروجا عن طقوس الاشتعال الثوري، أن يصرخ بالجرأة نفسها التي رفعها في وجه المحتل: ''أريد أن تتحرر فلسطين لأتحرر أنا من فلسطين''· منعطفات مباغتة حالت ظروف الفقر والتهجير التي عانتها عائلته دون إكمال الشاعر تعليمه، لكن الحياة مرة جديدة كانت تكمن له على منعطف الفجآة، فدخل القاعات الجامعية محاضرا في الشعر، ومتحدثا عن فراشات لوركا، وكيمياء نيرودا، بعدما كان العمر قد ضنّ عليه بمقعد جامعي· كان تعلقه بوالدته من النوع المرضي، وهي تقول مستعيدة تفاصيل الحياة القاسية: ''كان في الثامنة عشرة يوم ترك البيت ليسكن في حيفا، وقد منع من مغادرتها من مغيب الشمس حتى شروقها، لكنه كان يأتي يوميا ليقول لي: ''يما جاي أشوفك''· يمكث عندي دقائق ثم يعود، غادر بعد ذلك دون أن يخبرنا، وعرفنا من الإذاعة أن جمال عبد الناصر قد استقبله·'' ويوم كتب ''أحنّ إلى خبز أمي'' تساءل الناس عن سر هذه الوالدة التي أنجبت شاعرا ''تكبر فيه الطفولة''، ويقول درويش عنها أنه ورث منها سلاطة اللسان، وسرعة البديهة، وأنه كان يستفيد من تلك الخاصتين في الدفاع عن نفسه حيال خصومه المتفوقين عليه في بنية الجسد، هذا العامل الوراثي هو ما دفع درويش إلى قراءة طه حسين باكرا، ليكرس غلبة ذهنية على أقران يتخطونه في المقدرة الفيزيولوجية· الشاعر اللاجئ أقض باكرا مضاجع المحتل، وكانت الشرطة الإسرائيلية تطوق كل مكان يحيي فيه أمسية شعرية، لكنّ تمرسه في فن الإبداع الشعري، وبراعته في إستيلاد الأفكار المدهشة فرضته على الأعداء، بمقدار ما كرسّته ناطقا بإسم اللاوعي الجمعي لشعبه الجريح، في العام 2000 أعلن وزير التربية الإسرائيلي عزم حكومته على تخصيص خمس قصائد من أعمال درويش للتدريس في المنهاج التعليمي الإسرائيلي، وكان الإعلان محفزا على انبثاق مواقف رافضة من قبل العديد من الشخصيات الإسرائيلية، حيث بدا لافتاً أن يعلن إيهودا باراك أنّ بلاده ليست مهيأة لاستقبال شعر درويش، في حين كان عضو الكنيست اليميني بنيامين الون أكثر وضوحا إذ اعتبر أنّ ''وحده مجتمعا يريد الانتحار يضع درويش في منهجه الدراسي''· عشق اللغة منذ لقائه الأول مع اللغة أصيب الشاعر الراحل بلوثة عشق فائقة الغنى حيالها، وها هو يفصّل توطد صلته مع الحروف والكلمات بشفافية مذهلة: ''يا لها من لعبة، يا له من سحر· يولد العالم تدريجيا من كلمات···· كل ما لا تبلغه يداك الصغيرتان ملك يديك الصغيرتين إذا أتقنت التدوين بلا أخطاء· وستجذبه بعض الحروف أكثر من سواها: ''ويستهويك حرف النون المستقل كصحن من نحاس يتّسع لإستضافة قمر كامل التكوين· يرنّ ويحنّ إلى أي إمتلاء ولا يمتلىء، ولا يكفّ عن الرنين مهما ابتعد ومهما ابتعدت· سيكبر فيك وتكبر فيه، ويُحييك، ويُقصيك عن نفسك كحب ملحاح، ويدنيك من الآخرين···نون النسوة والجماعة والمثّنى وقلب ''الأنا'' وجناحا ''نحن'' الطليقان· ستأخذك سورة الرحمن إلى الإيمان المصحوب بالطرب، وتشفى من قلق السؤال الأول: من خلق الله''؟ لن يطول الوقت قبل أن يكتشف الشاعر أنّ شغفه بالحروف هو تعويض عن فقدانه الشعور بدفء المكان: ''وتسأل: ما معنى كلمة لاجىء سيقولون: هو من اقتُلع من أرض الوطن· وتسأل: ما معنى كلمة ''وطن''؟ سيقولون: هو البيت، وشجرة التوت، وقنّ الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز، والسماء الأولى· وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات·· وتضيق بنا''؟ بعد أقل من سبعة عقود وأكثر من خمسة وعشرين ديوان، وسوى ذلك كثير من المعادلات الرقمية التي أتقنها، قرر محمود درويش الولوج من برزخ الغياب نحوعمقه المضيء عابرا من ''ليل الضوء إلى ضوء الليل''·
المصدر: غزة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©