الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ترتيب العالم ... بالكلام

ترتيب العالم ... بالكلام
9 يونيو 2010 20:31
أطل علينا الشاعر المغربي الشاب محمود عبد الغني بديوان جديد نشرته دار توبقال، وأخرجته في حلة أنيقة، وقد أطلق الشاعر محمود عبد الغني على ديوانه هذا اسم “نحن النوافذ”، وهو العمل الشعري الخامس في رحلة محمود عبد الغني بعد دواوينه السابقة “حجرة وراء الأرض”، دار توبقال 1998، “أرض الصباح”، دار الجمل “كولونيا” 2001، “عودة صانع الكمان”، دار توبقال 2004، “كم يبعد دون كيشوت”، دار النهضة، بيروت، 2007. ويعتبر الشاعر محمود عبد الغني من أهم الأصوات الشعرية التي تصنع المشهد الشعري الحديث في المغرب من أمثال: عبد الدين حمروش، ياسين عدنان، لبكم الكنتاوي، كمال أخلاقي، يونس الحيول، فاطمة الزهراء بنيس، عبد الرحيم الخصار، عزيز أزغاي، وغير هؤلاء. بدءا من عنوان الديوان الذي يضم 39 قصيدة نشعر أن الشاعر يطلّ على القراء من خلال نوافذ متعددة وآفاق شاسعة، نلمس هذا حين نتوغل في نصوص وحدائق الديوان الشعرية لنجدنا أمام قصائد قصيرة كأنها شذرات قصيرة يكثف فيها الشاعر رؤاه على شاكلة كتّاب الهايكو أو القصة القصيرة جدا أو شطحات الصوفية لدى القدماء. أو شذرات الحكمة الصينية أو تلك التى كتبها وأبدع فيها الشهير إيميل سيوران. والشاعر يستحضر كل هذه التجارب وهو يفتتح عوالمه الشاعرية الساحرة. يكتب شطحاته بإنسياب صوفي وفي لغة شفافة عبارة عن مسارات حكائية يستعرض من خلالها تجربة غنية تصور لعهد جديدة من اللغة والصور والإيقاع. فوفرة القصائد القصيرة التي نجدها في هذا الديوان، تجعلنا ندرك أن الشاعر محمود عبد الغني يبحر في يم ممتد لا نهاية له باحثا عن اثر للسكينة التي لن يجدها رغم بحثه الطويل عنها يقول في نصه “نحن والنوافذ”: “رأيت الأسماك تقفز في الماء،/ مرحبا باللون السيئ./ طلبت الأذن/ كي أعبر الماء والغابة./ أثق بقرار/ كل شيء/ تطل من داخله أشجار./ هناك/ التربة/ تجيب عن أسئلتي./ أعود/ وينفذ الناس ما أقوله./ وكلما وقفت/ أمام الكوخ الذي استعمله،/ يسمعون الأصوات/ ويرون/ الدّواء الكثيف/ طلبت إذنا آخر/ بتربية حبري./ مال حامل الفانوس،/ وقال انه لم يسمع/ بالصخور من قبل./ النّار في أعلى الشّجرة/ والمطر لم يطفئها./ إنها فكرتي/ تقطر من قلمي/ الذّي تفوح منه/ رائحة كريهة. الشاعر هنا يسرد بلغة حركية تتبنى معنيين معنى واضحا وهو معنى خلفية، ومعنى مضمرا وهو ما ترمز إليه التجربة اللغوية الغنية والمتفردة في تجربة الشاعر ونصوصه. ففي قصيدته “خيالي الغريب يقول محمود عبد الغني: “قلت لخيالي الغريب:/ يمكن الاستغناء عنك،/ وبدونك يمكنني إعادة/ ما فعلته وما لم افعله./ يمكنني رسم بحّار السّفينة/ وهو يعمل في البحار البعيدة./ حتّى الغيمة الوضيعة، التّي لا تثير/ أحدا في السّماء أو على الأرض،/ يمكنني رسمها على ورقتي البيضاء،/ التّي لم اكتب عليها قطّ كلمة “خوف”./ يا خيالي الغريب،/ هل أنت من أكلة التّفاح؟/ هاك هذا الصّحن المغسول/ وهذه اليد التّي تحمله”. فالشاعر هنا يحاول ترتيب العالم حسب تصوره، وحسب ما يمليه عليه تصوره الشعري للأشياء والعالم، وهو تصور يؤدي بالشاعر إلى الإحساس بالوحدة والغربة والانكسار. تلك الأحاسيس تترسخ لدى الشاعر من خلال تجاربه اليومية، حيث يقول في نصه: “يا للسّوء الذي اقترفته!”: “لأجمع كلماتي/ واطو بلاغتي،/ فالقراء لا يقرؤون/ والشّعراء لا يكتبون،/ واللّصوص اصبحوا يُسرقون/ البقرات المريضة./ الكلمات اثبت فشلا كبيرا،/ لذلك فهي مثقلة بأقبح الذنوب./ لماذا ألوث قلبي بها إذن،/ رغم إيقاعها الجميل/ وآثارها الطّيّبة؟/ يا للسوء الذي اقترفته!”. يتساءل الشاعر في قصيدته “ كبد في سلّة الخبز”: “هل أكلتم من كبد القصيدة؟/ إنّها لذيذة،/ والرّيح لن تهبّ/ لإنقاذ ذلك الفم المائل/ الذّي يبتلع عواؤه كلّ الأرض،/ وكلّ الأزمنة، بلا ترخيص ولا إذن./ هذا الكبد الفالت،/ المتطاير كعصافير الصّباح/ يقع بين يديك أيها القارئ النّسر،/ خذه انّه في سلّة الخبز”. قصائد محمود عبد الغني في منجزه الشعري هذا تعكس غنى مرجعياته، وتجدد أدوات الكتابة لديه خلافا لتجاربه السابقة. إنه حريص على عدم تكرار ذاته خاصة أنه نموذج للشاعر الذي يقتحم عوالم جديدة في اللغة والتصوير، ويطرق أبوابا مسحورة بالغرابة والإدهاش. إن الشاعر محمود عبد الغني وهو يطل علينا من نوافذ هذا الديوان الجميل إنما يراقص اللغة وتراقصه بصور وإنزياحات شعرية زاهية تنطق بألوان الشباب والحيوية ومنفتحة على آفاق المستقبل المضيء للشعر الذي يصنعه جيل شعري مغربي متمرد عرف كيف يزاوج بلمسات في غاية الإبهار والشاعرية “نوافذ” وأدوات كونه الجميل والمتفرد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©