الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اعترافات البدن

اعترافات البدن
2 مايو 2018 19:43
صدر مؤخراً، بعد عقود من الانتظار، كتاب «اعترافات البدن» - أو اعترافات اللحم - Les aveux de la chair، للفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو (1926-1984)، رابع أجزاء مؤلفه الفلسفي «تاريخ الجنسانية»، حيث يأتي هذا الكتاب الصادر عن دار غاليمار الفرنسية (2018) باعتباره الجزء الرابع - والأخير- من هذا المؤلف الضخم». يُعدّ ميشيل فوكو من أهم فلاسفة القرن العشرين، وأحد الوجوه البارزة في تاريخ الفكر والفلسفة الغربية، إذ استطاع هذا الفيلسوف أن يُوَقّع على نظريات فكرية طبعت منتصف القرن الماضي على وجه الخصوص. فقد اهتم بدراسة مفاهيم عدة عبر اسْتِتْبَاع مسارها التاريخي، بشكل مُمَنْهَج وفلسفي، يبتغي تحليل بُنى تطور تلك المفاهيم ودراسة أبعادها الأركيولوجية، من قبيل «الجنون»، و«العيادة»، و«السجن» و«المعرفة»، و«الجنسانية»... هذه الأخيرة التي أصدر حولها ثلاثيته الموسومة بـ«تاريخ الجنسانية»: إرادة المعرفة، استعمال اللذات، الانشغال بالذات، وذلك ما بين 1976 و1984. بينما ظل الجزء الرابع من «تاريخ الجنسانية» مجهولاً ومخزناً بين مخطوطات فوكو التي لم يكشف عنها إلا بعد ما يفوق 30 سنة، عندما كشفت دار غاليمار الفرنسية -بموافقة ورثة فوكو- عن المجلد الرابع «اعترافات البدن». وُضِع مخطوط هذا الكتاب -غير المكتمل- لدى غاليمار سنة 1982، ولم يُكْتَب له رؤية نور الطبع إلا سنة 2018. فقد توفي فوكو سنة 1984 قبل أن يتمكن من إتمام إصدار رابع جزء من كتابه الضخم «تاريخ الجنسانية»، والذي يسعى للتنقيب التاريخي والفلسفي في موضوع الرغبة باعتبارها فضاء للحقيقة والجنسانية التي مردها إلى الذات، وذلك ضمن التاريخ والعقلية الغربييْـن. أراضي الفلسفة الخصبة بشكل دقيق، اعتنى ميشيل فوكو بأراض خصبة ظلت الفلسفة تتجاهل خوض غمارها لزمن طويل. إذ تمحور طرح فوكو وهو يعالج مسألة الجنسانية، حول أسئلة أساسية من قبيل: في أي لحظة -بالتحديد- بدأ التساؤل حول الجنسانية؟ ومتى بدأنا نهتم بالعناية بتطبيقاتها، وتحديد السلوكات المقبولة وغير المقبولة جنسانياً؟ ولمَ صارت الجنسانية حاملة لرهان الحقيقة، للكشف عما نحن عليه؟ وكيف ربطها المفكرون المسيحيون الأوائل بالدين وبالأخلاق؟. حاول صاحب «اعترافات البدن» أن يعالج هذه الأسئلة وغيرها داخل نسق فلسفي متتبعاً الخيط التاريخي لتطور مفهوم الجنسانية، وخاصة في الغرب المسيحي، وذلك عبر تحليل البنية التاريخية التي تمخض عنها هذا المفهوم. ميلاد كتاب.. عودة كاتب كُتّاب كثر لم يُكتب لمؤلفاتهم أن ترى النور إلا بعد موتهم، سواء عن إرادة وتوصية منهم أو عن غير إرادة، كأنهم لا يرغبون في الرحيل، أو كأنهم يوقعون تلك الكتب من خلف قبورهم، إنهم بهذا يعودون إلى الحياة ليوقعوا ويصدروا كتبهم التي ظلت رهينة المخطوط والرفوف غير المكشوف عنها. وإن أعلن رولان بارت «موت المؤلف» فليس غاية في قتله وتناسيه وإهمال اسمه أمام ما خطه بيده وما رقنه وطبعه من كتب، وخاصة تلك التي ظلت رهينة عدم الطبع. فميشيل فوكو اليوم، بعد صدور مؤلفه «اعترافات البدن» -اعترافات اللحم (كترجمة حرفية)- قد عاد إلى الحياة، ومعه عاد الاهتمام بأحد أهم المؤلفات في القرن المنصرم: «تاريخ الجنسانية» الذي يعد جزءاً أساسياً من الأركيولوجيا المعرفية التي تبناها فوكو في دراسته للنظم السلطويّة والمؤسساتية (اللاهوت، الدولة، المجتمع، الأسرة، الخطاب، البيروقراطية...)، التي تحكم حياة الإنسان وتسيطر وتفرض سلطتها عليه. إذ سيكتب منذ سنة 1961 مؤلفاته حول تلك النظم السلطويّة، انطلاقاً من كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، حيث سيتناول الكيفيات والسبل التي تعاملت بها السلطة تجاه المرضى النفسيين... ثم سينتقل للحديث عن «السجن» كمفهوم وفضاء ظل رهين سلطة الدولة، وذلك في كتابه «المراقبة والعقاب» (1975). بينما سيبدأ في ثالث أهم كتبه الحفرية منذ تلك السنة بالتحديد إلى آخر حياته، إذ سيُصدر ثلاثة أجزاء من مؤلفه «تاريخ الجنسانية»، حيث يعالج بكيفية فلسفية وتحليل بنيوي وتاريخي، تلك التوجهات الطبية والدينية والمجتمعية التي اهتمت بالتفكير في مفهوم «الجنس»، مركزاً على تلك «السلوكيات الجنسانية في المجتمعات الغربية الحديثة»، عائداً إلى التقاليد المسيحية ليطرح عدة أسئلة حول الانشغال الأخلاقي بالجنس والجسد. الانشغال بالجسد لقد شغل موضوع الجسد بال وتفكير مفكرين وفلاسفة ما بعد حداثيين في القرن العشرين وصولاً إلى يومنا هذا. وإن كان هذا الموضوع قد عرف انعطافاً مهماً مع نيتشه، ما سيلقي ظله على الفلسفة الفرنسية والغربية، وما سنجده يتخذ بعداً شمولياً عند ميرلوبونتي. هذا الفيلسوف الذي يرى أن الوجود الإنساني وعلاقته بالعالم الخارجي هو رهين الجسد (أو بالأحرى البدن chair كمظهر خارجي)، فالإنسان لا يتعرف على العالم ولا يتعرف عليه العالم إلا باعتباره جسداً/‏‏‏‏‏ لحماً واعتبار العالم مجموعة أجساد. وقد سبق وأعلن نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» عن «موت المطلق»، هذا الإعلان الذي سيتخذ بعداً مادياً أكثر حينما سيتخذه الوجوديون كذريعة للانتصار للجسد على الروح، التي لم يعد لها دور في تحديد الوجود الإنساني، فنحن موجودون بصفتنا أجساداً لا أرواحاً في أجساد، وما سيدفع صاحب «ميلاد التراجيدية» -قبلهم- للقول: «إنما الجسد عقل هائل، تعددية ذات معنى واحد، حرب وسلم، قطيع وراع. أداة لجسدك، هو ذا يا أخي، عقلك الصغير الذي تسميه «روحاً» أداة صغيرة ولعبة لعقلك الكبير». لن يتوقف الإعلان النيتشوي عند هذا الحد، إذ سيأخذه فوكو إلى درجة أخرى أكثر صدمة، وذلك حينما سيعلن «موت الإنسان» أمام كل تلك السُّلط التي تطبق عليه وتحكمه وتتحكم حتى بجسده وتمتلكه (الدين، الدولة، المجتمع، الأسرة...). لقد كان فوكو فيلسوفاً ثورياً بكل المقاييس، لم يمنعه دوره الأكاديمي من الخروج إلى الشارع والتظاهر، والصراخ في وجه كل النظم والسلط، وحتى في وجه تلك التي تُخضع الجسد إلى بُنى نفسية وبيولوجية واجتماعية. التفكير بالجسد يسلط فوكو -في كتابه «اعترافات البدن»- الضوء على كيفية تعامل البابوات الأوائل المؤسسين للكنيسة (أوغسطين، أكليمندس الإسكندراني، الأسقف هيبو...) مع الجنسانية والجسد، وموقفهم نحو الجنس. إذ يعلن فوكو أن هؤلاء الآباء المسيحيين الأوائل كانوا أقل تزمتاً من «الوثنيين» والفلاسفة القدامى. إذ أن «تلك الممارسات تجاه الجسد ستنتقل بكيفية معينة إلى الفكر المسيحي والممارسة المسيحية عبر الممارسات الوثنية». كما أن هؤلاء الآباء الأوائل كانوا أكثر جرأة في الحديث عن مواضيع عدة مرتبطة بالجنسانية والجنس و«الجسد». بعدما وضع ميشيل فوكو مخطوط «اعترافات البدن» لدى غاليمار سنة 1982، قرر أن يمهد له قبل صدوره بكتابيه «الانشغال بالذات»، و«استعمال اللذات»، بينما قرر بإيعاز من صديقه بول فيِين Paul Veyne، أن يعيد تصحيح المخطوط. إلا أن المرض حال دون ذلك، اذ ستسوء حالة فوكو يوم 3 يوليو 1984، ليتم نقله إلى المستشفى ليفارق الحياة بتاريخ 25 من نفس الشهر. فهذا الكتاب الذي لم يُكتب له النشر إلا بعد عقود من وفاة صاحبه، يصب في معالجة موضوع كيف نظر أوغسطين وباقي آباء الكنيسة الأوائل إلى «الرغبة»، و«اللذة»، إذ أن «نظام aphrodisia -اللذات الشهوانية المؤطرة»، يُحدّد بفعل الزواج، والإنجاب، واحتقار اللذة، كما بفعل علاقة من الود والاحترام والحدة بين الزوجين، بالتالي إن فلاسفة ومسؤولين غير مسيحيين هم الذين شكلوه، إنه المجتمع الـ«وثني» من منح الإمكانية لمعرفة قانون موجه متاح للكل -والذي لم يكن مطبقاً من الكل، إلى الدرجة التي تنبغي». منتقداً الـ«نظرية الردعية»، والتي من خلالها ردع المجتمع البرجوازي الرغبة، اختار فوكو أن يظهر، من خلال منظور «جينالوجي»، كيف نمت عند الأسياد الإغريقيين- اللاتينيين ومن ثم المسيحيين الأوائل، طريقة الحياة التي تسمح بالتعبير وبالتحكم -في الآن نفسه- بممارسات الجنس. بالتالي، فإن الرؤية المسيحية للجنس، ما هي إلا محاولة ثانية بعد الرؤية الوثنية الإغريقية للجنسانية والجسد؛ «فهذه المبادئ -بطريقة معينة- ترسخت في التفكير والممارسة المسيحية، انطلاقاً من الأوساط الوثنية»، كما يقول فوكو. فقد وضع فلاسفة إغريقيون قواعد لمحددات الجسد قبل المسيحيين، هذه القواعد التي ستجد صداها في التفكير المسيحي، عبر التأثر بها بطريقة من الطرق، وستصير ذات طابع قدسي بعدما ستجد لها مسوغات دينية داخل الكتب المقدسة. لكن -كما يؤكد فوكو- فالبابوات الأوائل لم يتخذوا الجنس أو الجسد كنوع من التابوهات، بل كان جزءاً من نقاشاتهم وطروحاتهم. بهذا حاول فوكو أن يضع الأصبع على جذور الأسئلة التي ترهق بال مجتمع اليوم من تحرش واغتصاب وتعنيف جسدي وجنسي. تعبير «اللحم» كما يتخذه فوكو، إحالة على «فضاء تجربة جديدة، وخاصة، موسومة بنوع من الغموض والعذرية، إنه مفهوم جديد للجنسانية بين زوجين، حيث يجب أن يعتني كل واحد باستمرارية الآخر، كما الامتناع عن تقصي الرغبات الخاصة للكشف عن أثر الإغواء الشيطاني»، كما يقول فريديرك غرو Frédéric Gros المشرف على إصدار الكتاب. فيصير بالتالي مفهوم اللحم تعبيراً عن الفضاء والحيز الذي يشغله الجسد، إنه إحالة خارجية عن الجسد ككل. إن كتاب «اعترافات البدن [اللحم]»، هو إعادة التأمل في النصوص المسيحية الأولى المحددة لقانون «الجسد» والجنسانية والتي «جعلت أجسادنا حزينة» -على حد تعبير غرو. والتي ما هي إلا صدى للأفكار الفلسفية والمؤسساتية الإغريقية التي سنت القوانين التنظيمية للحياة الجنسانية. ما يستدعي معه إعادة النظر في كل هذه النظم الحالية التي تتحكم في العلاقات الجنسانية. رهائن ميرلوبونتي: الوجود الإنساني هو رهين الجسد (أو بالأحرى البدن كمظهر خارجي)، فالإنسان لا يتعرف على العالم ولا يتعرف عليه العالم إلا باعتباره جسداً/‏ لحماً. فوكو و«البدن» فريديرك غرو: تعبير «اللَّحم»، كما يتخذه فوكو، إحالة على فضاء تجربة جديدة، وخاصة، موسومة بنوع من الغموض والعذرية، إنه مفهوم جديد للجنسانية بين زوجين، حيث يجب أن يعتني كل واحد باستمرارية الآخر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©