الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحمد راشد ثاني .. خيط الفجر

أحمد راشد ثاني .. خيط الفجر
16 ابريل 2014 20:21
علي أبوالريش أحمد.. أنت خيط الفجر الذي أفطرت به الشعر بعد صيام وقيام، عند مضارب وعيك، عند أحلامك الواعية، عند قسورة اللغة المتوهجة، ومثولك في غابة السرد، حارساً نابساً، قابساً، فارساً، تهش جواد المعرفة بفلسفة ما قبل الغيبوبة، ما بعد الحداثة متجرئاً كأنك الرابض في الخيلاء، الناهض من شطآن خورفكان، المنبعث قنديلاً مسربلاً بالضياء مسترسلاً في الفكرة الرائعة، ناصعاً كأنك القرص الذهبي، خيوطه كلمات تجري مجرى الدماء في الجسد، جسدك سيدي ذلك الخيط ذلك المحيط، موجاته هدير اللغة، وبياضه رغوة الصابون في تنظيف المراحل.. أحمد.. قديس على مشارف التأمل والأمل، والملل اللغوية، صوفي في مدارج التطور نحو فضاءات الفعل الإبداعي، واحتمالات ما يفضي إليه العقل في ساعة التنوير وتدوير الكلمات في حلقات الدرس، التأملي.. أحمد.. تمكث الآن في العزلة اللذيذة، في ورطة الغياب الصافي، في الوعي الحقيقي في الوجود الأمثل، مع نجمة في خلاء الكون، وتحت سقف غيمة تبوح بأسرارها بصمت.. صمت اللغة، صمت الوجود، صمت الحقيقة في ما وراء الضجيج، وما بعد الانثيالات الغيبية.. أحمد.. ترسم الآن، خارطة وعيك في الماوراء، وأنت تقتعد السكينة، والصفاء، متعافياً من صهد الجسد، مترامياً خلف سحابه شفيفة، بل أشف من قلبك الشفيف، هناك ترمي بصنارة الحلم وتلتقط حبّات الوجد الطفولي، وتعد النجوم الهاربة من زحام المراكب، أنت وحدك الذي تعرف كيف كانت الكلمة ثقيلة، ومدمنة على الكدر عندما لا تفتح عيونها على وعي الآخر، وعندما يكون الآخر مجرد كائن يجلس خلف مقعد التلاشي.. أحمد.. وحدك سيدي تسيّد الشعر عندما أيقظت مساميره على اللوح المحفوظ، ونسجت خيوطك، كأنك في صلاة القيام ساعة انبرى الليل يخب خبيبه باتجاه منفاه الأخير وساعة ودعت الشمس أحلامها الصباحية، واستدارت تطرح أسئلة الليلة الفائتة، تقول لشعراء التقليد: التعلق بالمأثور مثل تقلب الخنفساء على أرض وعرة. أحمد.. النوم هُناك، صحوة الأبد، ويقظة العقل، على حالة فضاء لم تغبشه تكهنات وتأويلات وتخرصات ما جاشت به ذاكرة الواهمين.. في وحشة السرد أحمد.. على السرير الأبيض، كنت تغفو واعياً، متداعياً، والجسد يحصد نذالة المرض اللعين، والقلب يرصد غياب الأصدقاء، كان عقب السيجارة يزمجر بين شفتيك، والدخان الرمادي يغسل بعض المشاهد الشائهة، وينسحب إلى التلاشي الأخير.. وعند شجيرات مستشفى خليفة، وضعت الكرسي الخشبي، وأبديت استغرابك من تهالك الأشياء، رغم الترميم وتعميم المساحيق على شفاه الكون، ثم تبتسم، وتحلم وتروغ عن كاهلك، حشرة بأجنحة شفيفة، وكنت تقول هذه طائرة صغيرة محملة بأوزار الأسئلة الكونية المروعة، ثم تغمض عينيك على سحابة دخانية اختارت جفنيك موطئاً، ثم ترفع رأسك تطالع الأغصان المهتزة، إثر تلاعب أجنحة العصافير بأوراقها .. تتلفّت يمنة ويسرة ترنو إلى البعيد ابتسامة شفيفة تنفرج عن شفتيك، وتقول، أنا لا أحب المرأة المكفهرة، جمال المرأة بشفتيها المتوردتين، بابتسامة ناهضة ثم تغلق الحديث وتستأذن للعودة إلى سريرك.. إلى مهد طفولتك وأحلامك، وسكينتك.. في الغرفة الداكنة المُتحشرجة إثر رائحة الدواء، ومناظر الممرضات العابسات تأخذ رشفة ماء ثم تستلقي على السرير، واهناً ضائعاً في حشر الآلام، وتيه الفكرة.. بعد مغادرة المستشفى وعودة القلب العليل إلى صباه، تعود والعود أحمد، تتسمر دوماً في الصباح، عند مدخل مبنى هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة تدخن وتقول متوجهاً بالحديث إلى الأصدقاء: المرأة الحمقى كالكأس المرّ شغبها يحييك ويميتك ثم تضحك مجلجلاً حتى تسفر السماء عن نبوءة جديدة عن وعي جديد لم يخالج سواك إلا ما ندر، لأنك سيدي في وحشة السرد، يداهمك عقل يقظ، يباغتك بانتباهة متجلية عالية الجودة، وتكتب ما استطعت تكتب ويبدو أنك مخلوق وجد لكي ينحت في صخرة الواقع، ويضع نقوشه السومرية على أرض تترعرع في شباب يافع.. أحمد.. وبعد الغياب بعد الإياب إلى باب الانفتاح على الماوراء، أجدك سيدي تغوص في خصم الفلسفة وتغرف من معين لا ينضب، كأنك عمر بن الفارض في هيامه، وغرامه، فيما بعد الموت. الموت الذي كان حياتك الجديدة عدمك الواعي، ويقظة نيتشة الفظيع.. أحمد.. لست أعرف لماذا يموت الشعراء ولولا الموت لما كانت الحياة الحقيقية.. سؤال يطرحه كائن آخر غيري، أنا فقط مجرد قرين يسجل ما تنطوي عليه الفكرة من خربشة في الغضون والمتون، والجنون... أحمد.. إن في الجنون عقلاً يوازي عقل الحقيقة، والمطلق. إن في الجنون وحياً كامن في صلب الأنا، وأنت في العقل، مطلق الشعر، وحقيقة القصيدة المترامية في أرجاء الأبد، ماذا يمكن أن يخلق الإنسان غير أناه اللاواعية، لكي يمكث في المعاني، جليلاً مجللاً مجلجلاً، مبجلاً، يطارد فكرة الموت، بأداة الفعل، ودواة العقل.. أحمد.. أنت سيدي في العقل، مطلق اليد واللسان، وأنت البيان، والتبيان، أنت إحسان ما قدمته اللغة من محسنات بديعة، أيقظت في العبارة معاني الألم اللذيذ.. أصابع خضراء كورق التوت أحمد.. عندما كنت تكتب، كنت تجلد ذاتك، وتمسد ذوات الآخرين، بأصابع خضراء كأوراق التوت، وتحبس الفكرة حتى تنضج والموقد قلبك، والجمرات تلك القراءات المتراكمة كأنها الطلقات الرحيمة.. أحمد.. في الغياب، يبرز المشهد الحقيقي وتبدو الهالة ناصعة كسحابة غسلت ذنوبها، من معين السماء.. أحمد.. في الغياب يندر أن نبكي، لأن البكاء في الخلود أمر مكروه، لأن البكاء على كائن أبعد من المطلق، لا يبدو إلا مدعاة سخرية.. أحمد.. عند مدخل مبنى الهيئة، هناك أعقاب سجائر، وأثر خطوات، وابتسامات لم تزل تلتصق بألواح الزجاج الصقيل، هناك فكرة ضائعة لم تكتمل حلقاتها بعد، لأنك نسجت بعض قماشتها، فعاجلك المرض، ولم يبق من الزمن سوى سويعات حتى انتشر النبأ الجلل.. هناك عند المدخل تدخل أنفاس، وتدخل صور ووجوه، شاحبة باهتة، ولا يبدو غير وجهك المدهون بسمرة صحراوية، يتوارى خلف أسئلتك القديمة. أحمد.. ما زلت في المكتب، ما زلت تنكب على تهافت التهافت لابن رشد، وترفع بصرك في الوجوه، ثم تعود ثانية لتحفر في الذاكرة، ما مادت به أرض الفلسفة قديمها وحديثها، ثم تستمع إلى حديث الأصدقاء، وأنت ساهم، غارق في غيابك الأخير نحو أنشودة جديدة للمطرب علي بن محمد، مستذكراً سيدي خورفكان، والبيت القديم، والشجرة المعمرة.. أنت في المكتب تسرد قصّة الرجل الذي غادر قريته ليقع بصره، على جبروت المدينة، وصخبها، وجمال نسائها، وروعة العطور المتناثرة، في دهاليز المكونات والأبنية والمولات.. تفرك جفنك وتستعيد الفكرة مرّة وأخرى، تستدعي زماناً هارباً من نفوذ اللحظة، وتقول بتأثر: لا أستطيع أن أكون بوذياً، وأعيش اللحظة فحسب.. أنا من سلالة تاريخ، وأنا وليد لحظة أيضاً، وأينما وجهت وجهي شاهد الزمن يفرط من بين أصابعي، فيحرق الجلد، كما يكوي القلب.. ثم تضع يدك على قلبك، وتأخذ حبّة الدواء اليومية، وتنهض قائلاً: تعالوا لندخن.. ولا يتجلى هم التاريخ ولا قلق اللحظة، لأنك سيدي ابن الفكرة المجلجلة.. ابن خورفكان، والشواطئ القلقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©