الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«إندابا يا أطفالي».. عبقرية الخيال

«إندابا يا أطفالي».. عبقرية الخيال
16 ابريل 2014 20:21
علي كنعان لا تزال أساطير الشعوب تخطفني إلى مداراتها الغامضة القصية، بكل روعتها وثرائها. وهذا كتاب يطرح على قارئه سؤالا فيصلا: “هل يمكن أن يكتب تاريخ بلد ما، بدقة وصدق وإخلاص والتزام، غير أبنائه؟ وهذا البوح يستدعي سؤالا آخر أشمل: “هل في وسع مؤرخ أجنبي أو مراكز بحث غريبة أن تستوعب حقيقة ذلك التاريخ وتستقصي مفرداته في أدق التفاصيل؟ عنوان الكتاب: “إندابا، يا أطفالي”، ونقرأ على غلافه عبارة لافتة تقول إنه “عمل عبقري”. هذا ما وصفته به صحيفة “صنداي تايمز” اللندنية. وتقول عنه صحيفة “صنداي تربيون” في ديربان، بجنوب أفريقيا: “كتاب ملحمي حقا” الكتاب من تأليف كْرِيدو موتْوَا الذي يطلقون عليه لقب فوسامازولو، أي “موقظ الزولو”. وإندابا تعني “مجلس” أو “ملتقى” أو “حلقة تعليمية” حيث يجلس أطفال القبيلة على الأرض، في نصف دائرة مقابل معلمهم، حول نار متوهجة في وسط الحقل أو الغابة، وهو يروي لهم فصولا وصورا من تاريخ الأسلاف الراحلين. ويمكن أن نترجم العنوان بشيء من التصرف: “لا تنسوا المدرسة، يا أطفال”. يقع هذا المجلد الضخم في حدود 700 صفحة، ويشتمل على أربعة كتب، الأول بعنوان “البرعم يتفتح رويدا”، وأنا هنا أوثر صيغة الجمع وأرى أن عبارة “البراعم تتفتح رويدا” أجمل وأوسع دلالة. وسأحاول في مقالتي هذه أن أتناول أهم النقاط الواردة في الكتاب الأول من هذا السفر الكبير. يتحدث المؤلف عن التاريخ القبلي لأبناء القارة السمراء، بأساطيرهم وحكاياتهم وعاداتهم ومعتقداتهم الدينية. عرض موسوعي مكثف، وخلاصة لتطلعات أجيال وتجاربهم ومكابداتهم في مراحل متعددة من تاريخهم المديد الذي ما زال في معظمه كامنا محفوظا في ذاكرات الأجداد وأعماق نفوسهم. وهو يذهب بعيدا في غياهب الزمن القديم، مشيرا إلى شعب موغل في القدم لم يبق منه غير نموذج واحد، وما من شاهد علمي على ذلك. لكن للأسطورة منطقها التخيلي، ولرواتها رؤاهم ومنطلقاتهم الفكرية الخاصة. ومن الصفحة الأولى المتضمنة إهداء الكتاب، يلفت كريدو النظر بصورة غير مباشرة إلى أهمية التعاون الإنساني، قائلا: إلى ألبرت س. واتكنسون، المعروف بيننا بـ”بيكا- بانْسِي”، أي (الحكيم الذي يحدق إلى الأرض)، وزوجته إيلين واتكنسون، المعروفة بيننا بـ “لُنْدِنِنْغي”، أي (الأم التي تؤوي كثيرا من الناس وتحميهم) لعونهما وإخلاصهما وتشجيعهما في جعل هذا الكتاب ممكنا. استهلال وفي مستهل الكتاب يشيد المؤلف بمعلميه الأجلاء من الرجال والنساء الذين اقتبس منهم نور المعرفة وزودوه بخلاصة من كنوز الأجداد ومعارفهم الفكرية، وهو يشعر باعتزاز أنه واحد منهم. ويبدو أن هؤلاء المعلمين والرواة الشعبيين ينعمون بذاكرات حاضرة وقوية استطاعت أن تحتفظ بما سمعوه من معلميهم السابقين، أولئك الرواد الذين صانوا تراث الأسلاف، ليعيدوا ما سمعوه كلمة كلمة، بالأسلوب المتوارث وبالنبرة ذاتها، وتلك هي أهم مزاياهم. وبهذه الطريقة تستمر الأجيال منذ سنوات الصبا الأولى، في الحفاظ على تراثها شكلا ومضمونا، دون أن يحتاجوا إلى الاستعانة بخبير أجنبي أو لغة مكتسبة من معلم غريب وبيئة مختلفة. لذلك يؤكد كريدو أن هذه هي القصص التي رواها الأمهات والآباء المتقدمون بالسن، وقد سمعها وتشربها منهم بلهفة أولئك الأولاد والبنات الجالسون حول مواقد النار في أحضان الطبيعة. خزانة الشعر لن أتوقف لدى أهوال التاريخ الدموي العنيف الذي عانت منه شعوب أفريقيا طويلا، وأفظعها اختطاف الفتيان والفتيات ليكونوا دمى بين أيدى النخاسين وسلعا رابحة في تجارة الرق، وأيدي عاملة مسخرة في مزارع العالم الجديد، فذلك عصر ولى. لكني سأبدأ باستعراض عدد من القصائد التي افتتح بها المؤلف كتابه، ويبدو أن الشعر نوع من التوابل أو المقبلات التي تفتح شهية القارئ للاستمرار في الجلوس إلى هذه المائدة الإبداعية الغنية، فكرا وفنا وجمالا، تاريخا وتقاليد وقيما إنسانية تشكل الأساس الجوهري لحضارة الإنسان في جنوب القارة السمراء. يضاف إلى ذلك أن الشعر يستوعب الكثير من الحكايات والأساطير بلمحات مشبعة بالكثافة والإيحاء، كما أنه يمتاز بجاذبية فنية ورقة جمالية مدهشة. يقول الشاعر في القصيدة الأولى، وهي بعنوان “هذا ما أختاره”: آه، لا تمنحني عويل شيطان عالي النبرة/ لصفارة بفلس أو جيتار كصندوق شاي/ ولا تعطِني حكايات أولئك الذين يمتطون القوافل موغلين في غرب أميركا القصية! هنا، في هذه القصص التي ما زال الكبار يروونها/ أستشعر روح سلالتي ونبض قلبها/ لذا، لا أحتمل قصصا يحكيها الغرباء../ فهذه ليس لها في قلبي أي مكان! الشجرة تنمو قوية ناضرة، يا أطفالي/ وجذورها تمتد عميقا في تربة الوطن/ هكذا واصلوا تمجيد سلالة أسلافكم/ وتقاليد الأرض التي ولدتم فيها! وفي قصيدة ثانية بعنوان “القصة المقدسة لشجرة الحياة” يتحدث عن أسطورة الخلق، وفق المفهوم البدائي لحكماء القبيلة وكما تحدرت وقائعها ومفرداتها على ألسنة الرواة عبر الأجيال، بدءا من حقبة ما يسمى الفوضى أو العماء حيث كانت حالة العدم، اللاشيء، أو الخواء.. تغشى كل ما في الوجود، وذلك قبل خلق الشمس والقمر والنجوم، البرد والحر، الموت والحياة... إلى آخر ما هناك من كائنات وأشياء. ويقف الكاتب أمام عظمة الخالق وجلال الكون وأسرار الحياة، ليعلن بوضوح وصراحة لا تخلو من رهبة أن هناك أسئلة لا يجوز أن نطرحها، فلا ينبغي لأحد منا أن يحاول أن يغامر بمعرفة سرمدية العدم الطافي على المياه اللامرئية لنهر الزمن، وهو نهر في المطلق لا منبع له ولا مصب. وفي يوم ما – إن صحت العبارة في غياب علامات الوقت، كما يقول، اشتهى نهر الزمن حالة العدم كما يشتهي حيوان من لحم ودم أنثاه. وكانت حصيلة هذا الاقتران الغريب ولادة شرارة بالغة الصغر من نار الحياة. ثم واصلت الشرارة نموها متحدية العدم الذي قاومها بالظلام والبرودة فازدادت توهجا وحرارة حتى فاقت أمها قوة وعنفا وضخامة فابتلعتها وهضمتها بأعظم كتلة من اللهب والضياء الوهاج. وهنا تنتهي حالة العدم وتتلاشى في هذا العملاق الناري الرهيب. لكن نهر الزمن شعر بالاستياء مما فعلته تلك الشرارة فواجه اللهب بروح البرودة، واحتدمت المعركة بينهما طويلا، فقد انتشر اللهب بألسنته العاصفة حتى عنان السماء، محاولا أن يذيب الجليد ويلتهمه، لكن روح الجليد تصمد أمام شدة الحرارة وتتحدى اللهب وتقاومه بضراوة حتى تحول جزءا منه إلى رماد أبيض بارد. ويستمر الصراع الضاري حتى يتوقف نهر الزمن عن الجريان، ولم تسفر المعارك عن انتصار أي منهما. ويروي حكماء القبائل أن اللهب لو انتصر يوما فسوف يتلف كل ما في الوجود، كما أن انتصار الصقيع سيحول كل شيء إلى جليد موات. وهذا الصراع بين العنصرين المتناقضين، النور والظلام، البرودة والحرارة، الخير والشر، ليس أمرا جديدا ولم يكن فكرة استثنائية طارئة، بل نجد له نظراء في مختلف أساطير الشرق والغرب. والشاعر الذي يروي مشاهد من ذلك الصراع، يرجو من الروح العظمى، الرب القدير، ألا يمنح النصر للنار ولا للجليد. وبذلك يستمر الوجود ويستتب النظام، برغم التناقض والصراع، وتمضي مسيرة الحياة الإنسانية قدما، بكل ما يحيط بها من أجرام وكائنات. الأم الرحيمة نواصل مسار الأسطورة، فنرى أن الأم العظيمة الرحيمة “ما” تولد من جراح اللهب ورماده الحامي، وهي تمتاز بهيئة مشابهة للبشر تماما. إن هذا الكون المترامي بلا حدود، يمر بمراحل خيالية شتى، وتحاول الأسطورة الإفريقية أن تعود بالإنسان إلى الينابيع الأولى وهو يتأمل القوى الخفية التي تحيط به وبأبناء الجماعة التي يعيش معها، على مدار الفصول وتحول الأجواء والأحوال. ونرى أن ذلك التفكير البدائي يتلمس ظواهر الطبيعة من حوله ويسعى إلى فهمها أو تعليلها في إطار وعيه المحدود. وهكذا تكون قصة “شجرة الحياة” في مفهومهم القبلي شبيهة بقصة آدم، بينما تبدو الأم الرحيمة “ما” شبيهة بحواء، دون أن يشير الكاتب إلى ذلك صراحة. وهكذا نعود إلى ثنائية الحياة من ظلمة وضياء، رجل وامرأة.. الخ، ولكن بمفاهيم وصور مختلفة. وتوكل الروح العظمى إلى هذه الأم الرحيمة والخالدة معجزات متعددة، وتشاء أن يكون لها دورها وفاعليتها في كل ما يحيط بها من أشياء وكائنات. وهكذا تنبثق الشمس والنجوم وحتى الأرض التي نقف عليها من شرر اللهب. لكن الكمال لله وحده، والأمور لا تجري كما ترغب الأم، بل إن لعنة حاقت بتلك المخلوقة من جراء ما فيها من رغبات وأطماع وغرائز كامنة في كيانها كالأمراض، سرعان ما نقلتها إلى البشر والحيوانات معا، كالغضب والجوع والكراهية والشقاء والحسد والحب الشهواني ومختلف الأهواء والنزوات، وهذه رغبات ومشاعر تتنافى مع الكائنات الخالدة، كما يؤكد النص. ولهذا السبب فإن حكماء القبائل يرسمونها امرأة منقوصة لا تموت، حتى إن فناني الحفر على الخشب، عبر القارة كلها، يجعلون منحوتاتها دائما ممسوخة غير مكتملة: “إما بساق شوهاء/ أو بثدي أضخم من الآخر/ أو يدين غير متساويتين شكلا...” ويتابع أننا “نحن الأشخاص الفانين وإخوتنا من الحيوان/ قد ورثنا جميع نقائصنا/ من تلك الأم العظيمة “ما”/ فالبذرة المعطوبة لا تنتج إلا نبتات شوهاء”. وفي حين كانت الأم الرحيمة تنتظر تعليمات جديدة من الروح العظمى، شعرت بنوع من الوحشة وانفجرت في بكاء شديد حتى شكلت الدموع بحيرة عند قدميها ثم تحولت إلى جداول وأنهار، كما أدت حالتها المحزنة إلى الفوضى وتهاوت النجوم إشفاقا عليها. وأمرتها الروح العظمى أن تكف عن البكاء وتعيد ترتيب العالم من حولها، لكنها راحت تشكو من وحدتها راجية أن تبعث لها رفيقا يؤنس وحدتها. وتفاجأ بأن هذا الرفيق وزوج المستقبل هو “شجرة الحياة”، ولكي يستقيم الضمير المذكر سأطلق عليه مجازا “شجر الحياة”. وبعد أن تنفر الأم الرحيمة منه وتلوذ بالفرار يطاردها ويسدد عليها قذيفة، صاروخا.. يصيبها في رأسها ويرتد مشكلا هذا القمر الذي يدور في السماء. وتستسلم الأم.. فيسود الحب بينهما ويتم الاقتران ويظل القمر حارس الحب وسمير لقاء العشاق على مر الزمان. مخاض عسير بعد الاقتران الغريب وانقضاء زمن الحمل الذي امتد ألف سنة أزف أوان الولادة، لكن المخاض كان عسيرا جدا، واستمرت الآلام المبرحة مدة طويلة، والزوجان حائران لا يعرفان شيئا عما يجري ولا كيف سيكون الخلاص، وخاصة أنها التجربة الأولى. وتنتهي المحنة، ليس بوليد واحد أو توأم، إنما بإنجاب أعداد لا حصر لهم من البشر. وفي المقابل تطرأ على شجرة الحياة بفروعها وجذورها تحولات عجيبة فترتفع الجبال وتتدفق الأنهار ويتشكل من شجرة الحياة جميع المخلوقات الحيوانية والنباتية، بما في ذلك الأسماك والطيور والحشرات. وهكذا تعمر الأرض بالحياة بعد أن كانت عقيمة لا حياة فيها. لكن الشاعر الذي يرى أن الحياة حافلة بالمفارقات، يشير إلى “إفا”، روح الفناء التي تحاول إبادة كل شيء، لكن برغم ذلك تظل ولو نسبة قليلة مستمرة في الحياة. وينهي الشاعر قصيدة الولادة هذه بقوله: “إن أغنية الحياة قد بدأت على الأرض-/ الأغنية التي ما زالت صداحة/ لكنها ستؤول يوما ما إلى النسيان/ تاركة وراءها رجع صدى خافت/ وشمس التاريخ طلعت وما تزال وهاجة/ لكنها لا بد أن تغيب يوما ما إلى الأبد”. وفي القصيدة الرابعة “العرق الذي مات” يروي عن الآباء المقدسين في القارة السوداء قولهم أن الناس الأوائل الذين عمروا الأرض كانوا متشابهين، لكن الانشقاق إلى عروق وأجناس حدث نتيجة إثم كبير اقترفه الرجال الأقدمون الذين عاشوا على هذه الأرض. ويلتمس الشاعر من روح آبائه أن تمنحه الشجاعة ليواصل إخبار العالم بما يقوله الآباء المقدسون عن أولئك الأقدمين، راجيا أن يحطم حاجز الكتمان المفروض على أسرار القبيلة، ليروي للعالم تلك القصة المحرمة التي احتفظ بها جميع الآباء المقدسين والأطباء السحرة في أغوار أرواحهم المظلمة. وهي قصة لا ينبغي أن تقال لأي غريب، لأن في إعلانها خيانة للوطن. وموجز القصة أن العالم كان يحيا بسلام غامر وسعادة مطلقة، بلا خوف ولا كراهية ولا عدوان، حتى الوحوش لم يكن مسموحا لها أن تقتل فرائسها إلا في حدود ضرورة الحصول على القوت. وحتى الموت كان صديقا للناس يستقبلونه برضا وابتسام. وذلك كان قبل عشرات الألوف من السنين، لكن السعادة لا تدوم. في أحد الأيام ولدت امرأة، اسمها “كيليسي” طفلا مشوها بالجسم والروح معا، وكأنه رمز الشؤم والفناء في العالم. إنه “زاهاريليل”، وقد نصحت طيور الحكمة أمه أن تتخلص منه، إكراما لبني البشر وحماية لهم، لأنه سيكون أداة الشر والدمار. لكن الأم – كما هو شأن كل أم - ترفض وتهرب بطفلها جاهدة لإنقاذه، وتطول المطاردة. وتعجز الطيور عن اللحاق بها. ثم يكبر الوليد ويبدأ في تشكيل وحوش معدنية لنشر الموت والخراب. ويتحقق نذير الطيور المقدسة، حماة البشر، ويقضي الفتى الشرير وأدواته المعدنية القاتلة على أمه بكل قسوة وإصرار، بعد أن تندم على ما فعلت في سبيل إنقاذه، ولكن فات أوان الخلاص. ولا يلبث هو وأعوانه من العمالقة الأشرار أن يخوضوا معارك طاحنة مع طيور الخير والسلام، إلى جانب كثير من ذلك العرق الطيب المسالم من البشر، حتى يقضوا على الملايين منهم، ويلوذ الباقون بالفرار متوارين في أقاصي الأرض، ليبقى الأشرار وعلى رأسهم زاهاريليل. وتنطلق من أحد الهاربين صيحة مدوية وهو يختفي بعيدا في الغروب: “ضاع كل شيء، الويل للبشرية، الويل للعالم”. وذلك هو ما يعرف بأنه الجنس الذي انقرض. الخطيئة القاتلة في القصيدة الخامسة “أماريري المشؤومة!”، نرى طاغية الشر بعد انتصاره وإلى جانبه أعوانه من الحشرات والغيلان المعدنية التي اخترعها، يدعو الهاربين المختبئين من البشر إلى إمبراطوريته، واعدا إياهم بسعادة مطلقة، لا تعب فيها ولا خوف ولا حاجة للتفكير والعمل، ويحقق لهم ذلك بسحر ساحر، إذ يكفي أن تشتهي أي شيء وسرعان ما تجده في متناول يديك. وبعد جيلين، لا أكثر يتوصل الطاغية إلى سر الخلود والشباب الدائم. لكن حياة الخمول تؤدي برعاياه إلى فقدان أعضائهم، عضوا بعد آخر، حتى ينتهوا إلى موت شامل. ويستعيض عنهم بكائنات تشبه البشر ولكنهم أكثر سذاجة وغباء، وكأنهم مجرد آلات متحركة بأمره، حتى إنه إذا أمر أحدهم أن يشرب نهرا لا يملك إلا الطاعة فيشرب حتى ينفجر ويهلك. يتأمل “شجر الحياة”، الأب الأول، ما حل بالأرض وأحفاده فيقول لقرينته، الأم المقدسة “ما”: أي نوع من الكائنات أنجبنا؟/ ألا ترين أنهم يسلبون من الحياة مغزاها؟/ علينا أن ندمر كل ما فعلنا من قبل/ ونبدأ كل شيء من جديد”. لكن الأم تطلب منه الانتظار وتوجيه إنذار إلى طاغية الشر الذي أنجبته تلك المرأة البائسة التي لم تسلم من غدره، ما دام هو المسؤول عن ذلك الشر والضلال. يعلق الأب ساخطا: نعم، إنه يظن نفسه إلهاً، لكني سأعطيه درسا لن ينساه. وسرعان ما يغطي الأرض بالغيوم ويحجب الشمس فتنطلق البروق وتتدفق السيول وينهمر وابل من حبات البرد، حالة تذكرنا بما هو أشد هولا من الطوفان. لكن طاغية الشر يقاوم بما لديه من قوة الاختراع فيصنع أطوافا، كل واحد “بطول مئة ميل وعرض نصف ميل”، ويبني عليها مدنا من ذهب.. كما يخترع شمسا صناعية تشع تحت الغيوم. وفي يوم ما يطلق بوقه، متخذا أفظع قراراته رهبة وهولا، وذلك باختراع آلات معدنية هائلة من العبيد ذات أشكال بشرية تمتثل لأمره، وعلى رأسها أودو. وبذلك يحكم على نفسه بالهلاك، ولكن بعد حين. إن زهاريليل يشبه بطبيعته وأفعاله الشريرة شخصية الشيطان الرجيم، وتكمن علته الكبرى في غروره وتسلطه واستكباره، فضلا عن كثرة تقلبه واستمتاعه بنشر الأذى والخراب. لكن الحيل والألاعيب التي يحبكها ويواصل انتهاجها والاستفادة منها، تنقلب عليه وبالا في النهاية. وهذا ما تتحدث عنه القصيدة السادسة “إثم زهاريليل” أو “خطيئته القاتلة”. وذلك أنه يظن نفسه إلهاً خالقا، ويتمادى به الغرور والطغيان إلى الحد الذي يأمر أودو – رئيس الروبوتات- أن يقتل نفسه، لكن أودو يرفض ويهاجم سيده ويقضي عليه. وذلك في نهاية معركة التحدي بينه وبين الأم الأولى وقرينها شجر الحياة. لكن الشاعر يقول إن زاهاريليل مات جسدا لا روحا، لأنه سوف يتجدد في الشعوب الوليدة من نسل الأم الجديدة أمارافا، لأن الشر لا ينتهي من الحياة. بقيت الإشارة إلى أن الكتاب حافل بمئات الأسماء الخاصة بشخوص الأساطير التي يرويها، ويعجب القارئ كيف استوعبت ذاكرة الكاتب وحفظت كل هذه التفاصيل الدقيقة، بما فيها من أفعال ومحن وصراعات عديدة ومتكررة بين قوى الخير والشر، وكيف زاوج هذا المبدع الحكيم بين الشعر والنثر، فاكتفى بالتلميح والإيجاز في الشعر، واستفاض في مقالات النثر بسرد الحكايات وروايتها بإسهاب فني جميل، وفي النوعين كليهما حافظ الكاتب على أسلوبه الأدبي المرهف، وعمله حافل بوعي فكري واسع وعميق، وبنبرة شجية صافية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©