الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شبح أختي يطاردني

شبح أختي يطاردني
4 ابريل 2013 20:18
(القاهرة) - شبَّت النيران في منزل «حمدان»، وارتفعت ألسنة اللهب، وأدت عيدان الذرة والحطب الجافة إلى انتشارها بسرعة لتمسك بكل أرجائه في لحظة بجانب أسطوانة الغاز التي انفجرت بسبب ارتفاع درجة الحرارة، وكذلك المفروشات والدهانات بالحوائط، فكان الدخان كثيفاً شاهده الناس من مسافات بعيدة ومعظم الرجال والنساء في هذا الوقت في الحقول، ففي وقت الضحى لا تجد من الفلاحين إلا قليلاً في البيوت، وهرع الموجودون من الشباب ينادون بأعلى أصواتهم لاستنهاض الآخرين للحضور، بينما النسوة لا حيلة لهن إلا الصراخ. النيران كانت أقوى من قدراتهم، ومن الدلاء الصغيرة التي كانت بحوزتهم، وخاصة أن المسافة التي يحضرون منها الماء بعيدة، علاوة على أن عددهم قليل، وقبل أن يحضر الباقون دمر الحريق المنزل كله ولم يعد يصلح للحياة، ولكن هل كان حمدان وزوجته الشابة بالداخل؟ وهل وقع لهما مكروه؟ كان هذا هو السؤال ولا أحد يستطيع أن يجزم بشيء، لكن بعد لحظات قليلة، جاء حمدان وزوجته من بعيد يصرخان والجيران يحاولون أن يخففوا عنهما المصيبة في احتراق البيت، وأن كل شيء يمكن أن يعوض إلا الإنسان، فألقى الرجل بالمفاجأة بأن طفلته الرضيعة بالداخل، وقد تركاها نائمة ومن المؤكد أنها ماتت. بعد إطفاء النيران اقتحم الرجال الغرفة ووجدوا جثّة الصغيرة وبعدها حاولوا أن يخففوا عن الرجل بأن هذا قضاء وقدر، فيسكت ولا يرد ودموعه لا تتوقف وتوجه أحدهم لإبلاغ مفتش الصحة لاستخراج تصريح لدفن الصغيرة، فإذا به يقرر أنه يشتبه في أن وفاتها غير طبيعية أي أنها لم تمت بسبب الحريق، وإنما قبله، فتم إبلاغ الشرطة وتحرير محضر وتحول الأمر إلى اتجاه آخر.. شرطة ونيابة وتحقيقات، لكن المفاجأة الأكبر فجرها الطبيب الشرعي الذي أكد أن الوفاة بسبب الخنق وليس الحرق أي أن هناك مجرماً وجريمة، فتم انتداب المعمل الجنائي الذي أكد خبراؤه بدورهم أن أسطوانة الغاز تم إشعالها عن عمد قبل إشعال النيران، ووقع انفجارها بعد ذلك. الرجل وزوجته لم يتهما أحداً بارتكاب الجريمة الشنعاء، فمن يمكن أن تكون له مصلحة في قتل طفلة رضيعة ولماذا؟ الوضع معقد والقرية صغيرة، والناس يعرفون بعضهم وتربطهم علاقات القرابة والمصاهرة والجيرة، وقد تكون هناك أحياناً بعض الخلافات أو المشاكل والمشاجرات، لكنها لا تصل إلى حد القتل والانتقام بهذا الشكل البشع الذي يدل على حقد دفين. ولم تجد التساؤلات ولا التحريات أي أجوبة عن تلك الأسئلة، لكن الإجابة جاءت وحدها بلا مجهود، عندما تبين أن ابنة حمدان وزوجته الأولى قد اختفتا من القرية. ولم يعثر لهما على أثر منذ شاع الخبر بأن هناك يداً آثمة وراء الحريق ومقتل الطفلة. هنا تنبه الجميع إلى هذه الحلقة المفقودة، فالرجل ليس على وفاق مع ابنته وزوجته، وبينهم مشاكل منذ أربعة أعوام، خاصة بعد أن تزوج للمرة الثانية وتركهما، ومع ذلك لم يستطع أحد أن يصدق أن يكون ذلك سبباً لكل هذا الانتقام، ولم تستطع الأجهزة ولا التحقيقات أن تصل لا إلى المتهم في الجريمة ولا معرفة مكان الفتاة وأمها، ونسى الجميع الواقعة إلا الأب والأم، قلباهما يحترقان على فلذة كبدهما، ولم يستطيعا النسيان وقيدت القضية ضد مجهول، فلا تكفي التوقعات والاستنتاجات والافتراضات لتوجيه اتهام إلى أي شخص. ثلاث سنوات مرَّت على وقوع الحادث واختفت «منى» وأمها في ارض الله الواسعة، ولم يعثر لهما على أثر في أي مكان، وقد تم البحث عنهما ومتابعة تحركات أقاربهما، حيث كان من المتوقع أن تذهبا إلى أي منهم، لكن يبدو أنهما كانتا تتوقعان ذلك، فقررتا الاختفاء بعيداً عن الأماكن التي يتوقع البوليس أن تذهبا إليها، وبعد كل هذه الفترة وفي فجر اليوم استوقف كمين الشرطة سيارة أجرة لمعرفة سبب سيرها ومن فيها في هذا الوقت ومن بينهم كانت «منى» التي لا تحمل بطاقة هوية، فتم ضبطها لحين التحري عنها ومعرفة شخصيتها، لكنها بمجرد أن تم فتح المحضر بادرت من نفسها بأنها تعبت من الهروب والتخفي، وضاقت بها الدنيا كلها، وكانت تفكر في تسليم نفسها بسبب عذاب الضمير، ولأن القتيلة الصغيرة تطاردها في صحوها ومنامها، ولم تكن قادرة على التخلص من تلك الكوابيس التي تقوم من النوم مفزوعة على أثرها كل يوم وتزيد ولا تنقص. الضابط لم يقاطعها وتركها تعترف وتدلي بأقوال بأكثر مما لو سألها أو استجوبها، فهي تتحدث عن قضية لا يعرفها وقالت: اسمي منى وعمري اثنان وعشرون عاماً الابنة الوحيدة لأب وأم، وكانت أسرتنا فقيرة تعيش على الكفاف رغم صغر عدد أفرادها، فأبي فلاح يعمل بالزراعة وأعاونه أنا وأمي منذ كنت طفلة، ونعاني دائماً شظف العيش، لكننا لا نشكو وليس لنا طموحات أو أمنيات غير الستر وملابسنا الصيفية هي نفسها الشتوية إلى أن اتجه أبي إلى تجارة الخضراوات بجانب عمله في الزراعة، وكانت تلك فاتحة الخير علينا، فقد استرحنا كثيراً من المعاناة التي كنا نغرق فيها. جرت الأموال في يدي أبي وظهرت النعمة على بيتنا وملابسنا، لكن ما لم أستطع أن أعوضه هو فقدان التعليم، فقد تركت الدراسة من قبل بسبب عدم قدرتنا على المصروفات المدرسية والكتب وغيرها، وأيضاً لكي أتفرغ لمساعدة أبي وكنت أقترب حينها من العشرين من عمري، فلم يكن لي إلى التعليم سبيل، فقد فات القطار ولن يعود وبالكاد أعرف القراءة والكتابة ولم يكن المال يحمل معه السعادة، وإن كان وحده الذي تقضى به الحاجيات، فقد بدأت المشاكل تدخل بيتنا وتزداد كلما ازداد المال حتى وصلنا إلى درجة أننا كنا نتمنى أن تعود أيام الفقر ومعها الاستقرار الذي كنا فيه. لا أحد يكره المال، ولكن ما جاءنا معه جعلنا نتمنى أن يزول، فقد تحول أبي إلى رجل آخر غير الذي كنا نعرفه لا يفكر إلا في نفسه أما الطامة الكبرى، فإن أمي التي جاهدت وكافحت معه طوال عمرها وأفنت شبابها بجانبه لم تعد الآن تعجبه، فقد اشترى قطعة أرض للبناء، ولديه أموال كثيرة في تجارته، وأخيراً أفصح عن نيته صراحة وقرر أن يتزوج والعجب كل العجب أنه اختار فتاة في مثل عمري، ولم يراع عشرة السنين، ولم تردعه دموعي أنا وأمي والأرض التي اشتريناها بدمنا وعرقنا بنى عليها منزلاً جديداً به كل الإمكانات والديكور والإضاءة الحديثة وأشياء أخرى لم نسمع عنها. ومضى أبي وهو في الخمسين في إجراءات العرس وشراء الأثاث والمجوهرات والهدايا للعروس الصغيرة التي توهم وأراد أن يستعيد بها شبابه ونار الغيرة تأكلني أنا وأمي ولم يكن ما يفعله يرضي أحداً مهما كان ووضع أصابعه في أذنيه ولم يستمع لأحد وسار في طريقه غير مبالٍ بنا حتى كان يوم العرس وجاء بالطبول والدفوف كأنه شاب في العشرين ويتزوج للمرة الأولى، وأنا أشعر بضرباتها كأنها طعنات في صدري وقلبي، فما بالكم بأمي كيف تشعر بها؟ ودموعها الغزيرة لا تخفف معاناتها كانت ليلة عرسه هي الأكثر سواداً في حياتي، كرهته بالفعل ولو استطعت يومها أن أقتله وأقتل العروس لفعلت، لكنني ضعيفة وما باليد حيلة. لم يقف تعسف أبي عند هذا الحد، بل حرمني أنا وأمي من المال الذي بين يديه وهو من حقنا، فنحن جمعناه معه وليس تلك الفتاة التي تستمتع به وتتمرغ في الخير الذي نحن أحق به وعدت أنا وأمي صفر اليدين ولم يستجب لكل الكبار الذين تدخلوا ليحدد لنا مبلغاً ننفق منه على طعامنا فقط، ورفض كل الوساطات وأعلن القطيعة واضطررنا للعمل مرة أخرى عند الآخرين. ولم نستسلم، ولم ننس لأن مأساتنا تتجدد كل يوم وعدنا إلى ما كنا عليه من الشظف والفقر وليتنا عدنا جميعاً، أبي مع زوجته في عسل دائم وقد رزقا بطفلة هي كل حياته تأكدت أنه يحبها أكثر من أي شيء في الدنيا كلها، وهي الآن نقطة ضعفه، وقد اقترب عمرها من العامين، فكرت كثيراً قبل اتخاذ القرار وعرضت الفكرة على أمي، لكنها رفضت، فقد اعتزمت أن أتخلص منها لأنتقم من أبي وأحرق قلبه كما أحرق قلبي وقلب أمي وليذوق بعضا مما أذاقنا. لم أتوقف عن التفكير، ولم أتراجع مع أن أمي حذرتني كثيراً من هذه الخطوة المدمرة للجميع كانت رغبة الانتقام داخلي أكبر وسنحت لي الفرصة عندما رأيت أبي وزوجته يخرجان وحدهما وقد تركا الصغيرة نائمة في الدار فتسللت خلسة ووجدتها مستيقظة قبلتها فأنا لا أكرهها هي ومع ذلك لم أتراجع ورغم أنها لا تفهم ولا تدرك وبادلتني بابتسامة بريئة إلا أنني اعتذرت لها وأطبقت على رقبتها حتى فارقت الحياة، وقمت بسرعة وفتحت أسطوانة الغاز وأشعلت النيران في الشقة وحدث ما حدث. منذ هربت وأنا في عذاب لا أجد ملجأ ولا مأوى ووجه أختي القتيلة يطاردني ويعاتبني ولو لم يتم القبض عليّ لسلمت نفسي للعدالة ولا يهمني الحكم مهما كان ومدت يديها ليتم وضعهما في القيود في طريقها إلى سجن النساء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©