الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ألبير قصيري ينظّر للكسل ويمجّد الفقر

ألبير قصيري ينظّر للكسل ويمجّد الفقر
7 أغسطس 2008 00:59
عاش الروائي المصري الأصل ألبير قصيري أطول فترة من عمره في العاصمة الفرنسيّة التي استقرّ بها منذ كان شابا يافعا، ومات في أواخر شهر يونيو الماضي عن سنّ تناهز 94 عاما، وحيدا في غرفة ضيّقة بفندق متواضع بالحيّ اللاتيني بباريس، أقام به على امتداد45 عاما بأكملها، دون أن يغيّر الفندق أو الغرفة، وهو ما يعدّ حالة نادرة مرتبطة بشخصيّة الكاتب المتفرّدة، وفي غرفته الضيّقة بفندق ''لويزيانا'' المتواضع الّف ألبير قصيري سبع روايات ومجموعة قصصيّة، وقد نشرت قبل وفاته بقليل كلّ مؤلفاته في جزأين· عاش البير قصيري عيشة الكفاف، مكتفيا بعائدات كتبه التي ترجمت إلى عدة لغات، والكثير من أصدقائه الرسّامين كانوا يهدونه، عطفا عليه، بعض لوحاتهم فيبيعها لينفق على نفسه، كما أنّه كتب بعض سيناريوهات الأفلام الفرنسيّة، وحصل على العديد من الجوائز الأدبية· كان شخصيّة محبوبة ومحترمة في الحيّ الفرنسي الذي عاش به طيلة حياته، ولم يكن يخف سعادته بأن يتعرّف عليه في الشارع عدد من الفرنسيين الذين يطالبون بالتقاط صورة معه، ولكنه لم يكن يستمتع إلا بمرافقة ومجالسة من بينه وبينهم قواسم مشتركة، وهم من يصفهم بالسعداء الذين لا يملكون صكوكا بنكية والآخذين مسافة من الأشياء· التزام بالحياة؟ ومن النقاد من وصفه بالكاتب الملتزم، لا بمعنى الانتماء السياسي والاديولوجي، أو الانتماء لحركة أو حزب، فهو يسخر في رواياته ممن بقوا متمسّكين بالعمل السياسي من أجل التغيير، ولكنه التزام بالحياة، فشخصيّات رواياته شخصيّات ثائرة، ترفض الخضوع إلى قوانين تراها جائرة، وهي جلّها مرتميّة في الرومانسيّة وسجينة الصورة التي تحملها عن نفسها، وأغلبها من اللصوص، والمومسات، والفقراء، والمهمّشين والمشرّدين، وهم أيضا من الوزراء والمقاولين، ورجال الأعمال، ورجال البنوك· وألبير قصيري، لم ينشر أكثر من رواية واحدة كل عشرة أعوام، وهو من دعاة الاستمتاع بالحياة والتخلّص من كلّ أنواع التبعيّة والتملّك، وانّ شقاء الإنسان في نظره هو الخوف الدائم من أن يفقد ما يملكه، ورغبته الدائمة والجامحة في المزيد من الملكيّة لاعتقاده أنّ في ذلك النجاة من الشقاء· والكاتب المصري المهاجر لم يكن من أنصار المثل الفرنسي القائل: ''العالم ينتمي إلى من يستيقظ باكرا''، لأنه لم يغادر سريره يوما قبل منتصف النهار، وكان في حياته وفي رواياته ينظّر للكسل والتخلي عن قيمة بذل الجهد، حتى أنه في إحدى رواياته صوّر عائلة بأكملها تعيش في منزل ولا تخرج منه وتقضي كامل وقتها في النوم، وهويشرّع للكسل بقوله: ''ألا تعمل شيئا فانك تقضي وقتك في عمل داخلي''، فالفراغ عنده فرصة للتفكير والتأمل قائلا:'' إني آمل من كل من يقرأ كتاباتي ألا يذهب في اليوم الموالي لعمله، وإنما يسعى ليحيا وينعم بأيامه ولياليه''، والكاتب البير قصيري ينظّر في رواياته أيضا للفقر، ويقدمه في شكل مثالي، وهو ما يعيبه عليه النقاد، فهو يرى أنّ الإنسان الذي لا يملك شيئا هو رجل حر وسعيد لانه لا يخشى من فقدان أي شيء، بل إنه يذهب إلى حد تصوير الفقر كمصدر للحكمة· بين الفرنسيّة والعربيّة لم ينل الكاتب ألبير قصيري في حياته أو حتى بعد مماته اهتمام النقاد العرب، ولم تعره الصّحف السيّارة والمجلات العربيّة المتخصّصة ما يستحقّ من عناية ومتابعة، واكتفى أكثرها بنقل خبر وفاته كما ورد في وكالة الأنباء الفرنسيّة، في حين أنّ الصحافة الفرنسيّة خصّصت له حيّزا كبيرا للتذكير بمسيرته الأدبيّة، كما أن وزارة الثقافة الفرنسيّة نعته مبرزة مكانته وقيمته الأدبية· ولا شكّ أنّ إقامة الكاتب الدائمة في باريس، وانقطاع الصّلة بينه وبين الوسط الفكري والإعلامي العربي هي أحد أسباب هذا التجاهل، إذ لم يعد ألبير قصيري إلى مصر إلا مرّاّت معدودات، وكانت آخر زيارة له إلى بلده منذ ثلاثة عشر عاما بمناسبة وفاة أخيه، ورغم هذا الغياب المطوّل فانّ كلّ شخصيّات رواياته هي شخصيّات مصريّة· ولعلّ اقتصاره على الكتابة باللغة الفرنسيّة ساهم في تهميشه بالبلاد العربيّة، ولكنّ الطاهر بن جلون وأمين معلوف ـ على سبيل المثال ـ يكتبان هما أيضا باللغة الفرنسيّة، ورغم ذلك فانّ صيتهما ذاع في كل أرجاء الوطن العربي، ورواياتهم ترجمت واشتهرت· وانّ بعض روايات ألبير قصيري ترجمت هي أيضا إلى اللغة العربيّة مثل ''شحّاذون ونبلاء''، و''منزل الموت المؤكد''، وتمّ تحويل الرواية الأولى إلى شريط سينمائي أخرجته أسماء البكري من بطولة صلاح السعدني، وعبد العزيز مخيون، والمؤكد أن الشريط السينمائي اشتهر أكثر من الرواية التي تحمل نفس العنوان· كتب البير قصيري باللغة الفرنسيّة، ولكنه كان دائما ـ حسب تعبيره ـ يفكر باللغة العربية، وفي كل رواياته فانه يصوّر الحياة في المشرق العربي، وتدور أحداث كل رواياته في القاهرة، والإسكندرية ودمياط وفي إمارة في الصحراء، وهو في أحاديثه الصحفية، يمتدح الحياة في مصر، فالناس ـ كما يقول ـ لا يموتون جوعا رغم فقرهم، مثلما يحدث ذلك في الغرب، كما انه كان يشيد بقيم التضامن والتآزر والرحمة في المجتمعات الشرقية، فالفقراء ـ من وجهة نظره ـ سعداء، يضحكون ويمرحون ويطلقون النكت الساخرة· الجميلة الخائنة أطلق النقاد على الترجمة نعت: ''الجميلة الخائنة''، لاختيار الكثير من المترجمين تحرير النصّ المترجم بأسلوب جميل حتى ولو كان غير وفيّ للأصل، والمؤكّد أنّ ألبير قصيري لم يكن راضيّا عن الترجمة العربيّة لبعض رواياته لاعتقاده بأنّ الترجمة خانت الأصل فعلا، ليس لأسباب بلاغيّة أو أسلوبيّة، وإنّما بتعمّد المترجم استبدال بعض الجمل وتغيير المعنى أحيانا، إرضاء للرقيب، وقد اعترف محمود قاسم الذي ترجم بعض روايات ألبير قصيري أنه فعلا استبدل عند ترجمته رواية ''نبلاء وشحاذون'' ما جاء على لسان إحدى شخصيّات الرّواية، وهو ضابط الشرطة نور الدين، وهو الشاذ جنسيّا، في حديث له مع الشاب سمير· والحقيقة أنّ الجملة الأصليّة التي تمّ استبدالها تخدش الحياء لما تضمنته من مباشرتية في التعبير عن الشهوة الجنسية، ولكنّ السّؤال يبقى قائما: هل يحقّ للمترجم ـ مراعاة لقيم أخلاقيّة أو غيرها ـ تغيير النصّ عمدا عند الترجمة بدون استشارة المؤلف؟ قراءة في رواية شحاذون ونبلاء : البحث عن العادة في عالم البشاعة الشخصيّة الرئيسيّة في رواية ''شحّاذون ونبلاء'': جوهر، هو أستاذ فلسفة أصبح عن اختيار متسوّلا يطوف شوارع مدينة القاهرة وأزقتها، وفضّل أن يصبح شحّاذا على أن ينضوي في نظام اجتماعي يرفضه، فاختياره نابع من موقف إزاء المجتمع الذي ينتمي إليه، وتعبير عن استيائه من عيوبه، وهروب من شعوره بعبث العالم من حوله· لأنه يرى ''أن تدريس الحياة وتعليمها بدون أن نعيشها هي جريمة''· إنّ جوهر في رواية ألبير قصيري يحمل كرها للمجتمع لإحساسه المرهف باستغلال البعض للبعض الآخرة وهيمنة فئة على فئة أخرى· أمّا بقيّة أشخاص الرواية، فكلّ واحد منها يبحث عن شيء ينقصه، فالبعض ينقصه العمل، والبعض الآخر يشكو من عدم اعتراف المجتمع به، وآخرون يتألّمون ويتعذبون لأنّهم لا ينعمون بالحريّة· إنّ شخصيّات رواية نبلاء وشحاذون، هي شخصيّات تبحث عن السعادة، رغم بشاعة الواقع، وهي سعادة غير مرتبطة بالكسب المادي والملكيّة، وإنما هي سعادة مرتبطة بالحريّة· والرواية تصوّر بدقة أجواء القاهرة في عام 1945 بعين ألبير قصيري، فقد اختار الكاتب أن تجري الأحداث في الأحياء الفقيرة، وأن ينقل ويصوّر ما يدور بها دون رتوش معتمدا أسلوب السخرية من خلال شخصيّات تتسم بخفة الروح، سلاحها النكتة في مواجهة قسوة الحياة ومصاعبها، والمؤلف يقحم دائما أجواء الحياة الماجنة، العابثة والمستهترة لإبراز عيوب المجتمع المصري في فترة الأربعينيّات والخمسينيّات وأمراضه الاجتماعية والسياسيّة· وبطل الرواية جوهر ينام على الأرض مفترشا جرائد قديمة وقطرات الماء تغمر غرفته البائسة، يرتمي في عالم الحشاشين، ويقتل مومسا طمعا في أساورها الذهبيّة التي يتبين بعد ذلك أنّها أساور مقلّدة· ولا شك أن ألبير قصيري الذي اقترب من الكاتب الفرنسي ألبير كامو وتعرّف عليه عن كثب قد تأثر بالمذهب الوجودي في الأدب الفرنسي، وجسّد في بعض شخصيّات روايته معنى العبث، فهذه الجريمة التي ارتكبها جوهر من أجل أساور مقلدة فيها عبثية تذكرنا ببعض مواقف بطل رواية ''الغريب'' لألبير كامو· ورغم الأسلوب الساخر الذي كتبت به رواية ''شحّاذون ونبلاء''، فان الأجواء السائدة فيها تتضمن الكثير من التشاؤم· وقدا ختلف النقاد الفرنسيّون حول الرواية فهناك من أعجبته القصة التي تلقي نقطة استفهام حول معنى الوجود من خلال تصوير حياة شخصيات فقيرة حائرة، في حين أنّ نقادا آخرين رأوا في الرواية وفي أحداثها ما هو اقرب إلى الصور الفولكلورية للحياة المصرية منها للحياة الحقيقية، ثمّ إن أغلب الشخصيات تبدو سلبية تقودها الأهواء والشهوات، وليس لها رغبة أو طموح للاندماج في مجتمعها، وترفض الخضوع للقيم السائدة· ومن المآخذ على الروائي المصري الصورة التي تظهر بها المرأة في كلّ رواياته، فهي إما عاهرة أو راضخة، أو مريضة، وغالبا خبيثة وليست أبدا فاعلة· السخرية بخلفيّة سياسية تزخر رواية ألبير قصيري ''منزل الموت المؤكد'' التي صدرت عام 1945 بمشاهد السخرية المرّة، فالنجّار يصنع نعوشا للموتى لا تتّسع لمن يوضع فيها لصغر حجمها لانّ النجّار يقتصد في الخشب، ويمكن تصنيف هذه الرواية ضمن صنف الرواية الواقعية، فهي تصوّر حياة شخصيّات فقيرة في منزل آيل للسقوط في مواجهة لمقاول قوي، غني ومتجبّر· وفي هذه الرواية إدانة للأثرياء الجدد كالمقاولين غير الشرفاء وأصحاب البنوك غير النزهاء، ولا تخلو الرواية أيضا من خلفية سياسية إذ هناك من النقاد من ذهبوا إلى حد القول بان المنزل المتحدث عنه في الرواية يرمز لمصر بأكملها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©