الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

درس أكاديمي في صناعة الفيلم

درس أكاديمي في صناعة الفيلم
13 أكتوبر 2009 22:32
الإرصاد مصطلح في الرواية يعني الإشارة إلى ما سيقع لاحقاً من أحداث في القصة ويكون ذلك في مقدمة السرد، قبل أن تقع الحادثة ولا يهم مكانها بشكل عام. والإرصاد جزء من التضمين كما ورد في الاصطلاح ،إذ كل إرصاد تضمين. وبات معروفاً أن العمل السينمائي الخلاق هو الاشتغال على الطبيعة واستغلال إمكانات الموجود في عالمها دون أن تتدخل لتغيير هذا العالم أو صناعة ما يريد تصويره. في الفيلم الأسترالي «الجولة الأخيرة» تتجلى هاتان الملاحظتان بوضوح من خلال أولاً الإرصاد الذي نشهده في العنوان وتعني جولة/ رحلة وستكون هذه الرحلة أخيرة بالطبع، وكأن العنوان يكشف كل أحداث الفيلم، وفي متن الفيلم والقصة نجد فعلاً رحلة لأب هو الممثل «هيوجو ويفينج» وابن هو «توم راسل» الذي يبلغ من العمر 10 سنوات. في المعنى وربما يعد العنوان هذا تلخيصاً لكامل معنى الفيلم أو القصة وربما خان المترجم المعنى فترجمه بالجولة، وهذا كما أظن ليس دقيقاً وكان المفروض أن تستبدل بالرحلة الأخيرة، لأن الفرق واضح بين الجولة والرحلة إذ تعني الأولى حرية الاختيار في الذهاب أو الرفض بينما تعني الثانية الذهاب بلا تردد، كون الأمر مفروضاً وهذا ما حصل للمجرم الهارب الأب وهو يضطر لأن يأخذ ابنه هرباً من الشرطة بعد أن قتل صديقه «ماكس» لدواع سوف نقبل عليها. يمثل هذا الفيلم الذي تدور أحداثه في أحضان طبيعة الريف جنوب أستراليا لوحة غنائية في علاقة حب وكره بين أب وابنه وهو من إخراج جليندين ايفين وسيناريو ماك جودجيون وإنتاج نيكوي كول وانتونيا بيرنارد وتصوير خريج فريجر ومونتاج جاك هاتشينجز وموسيقى بول تشاربير. أما الممثلون فهم هوو ويفينج وتوم راسل وجوب برامبتون وميك كولتهارد وراتشيل فرانسيس واينتاهيج. كيف يمكن أن يصنع الأب من ابنه رجلا يتحدى الحياة الصعبة في أميركا. إنه اختبار ضروري لابد للابن أن يواجهه في أحضان الطبيعة البشرية والتداخل معها. استذكارات محببة الأب سجين سابق يخرج من السجن فتتركه زوجته ويبقى معه ابنه «تشاك» وحيدين إلا من صديق الأب الذي كان مجرماً وسجيناً أيضاً، ويهرب الأب وابنه بعد حادثة قتل الأب لصديقه «ماكس» أما الأسباب فتبدو غامضة في البدء إذ لا يفصح الفيلم عن حادثة القتل إلا من استذكارات الابن لماكس صديق والده الذي كما يقول الابن كان قد اعتنى به أكثر من أبيه، فيظل تشاك يتذكره طوال الفيلم ولأكثر من موقع. هذه الاستذكارات من قبل تشاك مجزأة على طول الفيلم وهي استذكارات محببة لديه، تخيلية، يجد فيها متعة، حتى الاستذكار الأخير الذي يقتل فيه الأب صديقه ماكس فيتأزم الطفل ليصرخ: لقد كان ماكس أكثر رحمة منك ـ ويقصد أباه ـ فقد اعتنى بي. الأمر الغريب أن هذا التذكر أي تذكر حادثة مقتل ماكس من قبل الأب جاءت في لحظة تجليات الابن رغبة في التشبه بالفتيات حينما أمسك أحمر شفاه كان موجوداً في السيارة التي سرقها الأب وبدأ يضع منه على شفتيه كالأنثى، وهنا يصاب المشاهد بالصدمة هل كان تشاك وماكس صديق الأب في علاقة شاذة؟ يمكن قراءة دلائلها من خلال «تشبه تشاك الأنثوي» و»مشهد اقتراب ماكس من فراش تشاك والرقاد معه واكتشاف الأب لذلك» وثالثاً عدم تطلع أو لنقل لامبالاة تشاك وهو يسمع ويبصر العلاقة الجنسية الحميمة التي قام بها الأب أثناء هروبه وابنه مع فتاة على الطريق وهي معلمة الأب في السجن والتي كانت صديقته. تحققت الرحلة عبر شرطين الأول مقتل ماكس ولابد من الهروب والثاني اكتشاف الأب لارجولية ابنه وتحققه من ذلك فيما بعد عندما وضع الابن أحمر الشفاه على شفتيه. درس أكاديمي حسناً هل يكتفي الفيلم بهذه القصة، وهل هذه القصة هي مجمل الفيلم أعتقد أن هذه الحكاية هي مفتاح لا أكثر لدلالات الرواية المتولدة فيما بعد وهي الأهم برموزها الرائعة. فيلم «الجولة الأخيرة» درس أكاديمي في صناعة السينما، هو رحلة في عالم لاستخلاص درس في كيفية أن ندير فيلماً بين أحضان الطبيعة حيث لاشيء هناك سوى الطبيعة، كيف يستطيع المخرج البارع مثل جليندين ايفين أن يستغل كل عناصر الطبيعة لتكون ديكوراً لفيلمه وكأنه يؤمن بأن الطبيعة تمنحنا عالم الصورة بدون التدخل في صناعتها. على بساطة الأب القاتل وهمجيته يكشف الأمر عن تناقضات وأفكار عميقة، حيث يحاول الأب أن يوازي بينه ووالده. وبينه وابنه.. فحينما كان أبوه يأخذه إلى أماكن في هذه البرية الواسعة وتلك الغابة المظلمة وتلك البحيرة المذهلة فإنه أخذ ابنه «تشاك» في هذه الرحلة. معتقداً أن أباه قد صنع منه رجلاً وها هو ينقل هذه التجربة بينه وبين ابنه «تشاك» فهل ينجح؟ في مقاطع كثيرة يقسو الأب على ابنه لحد تعذيبه بالضرب المبرح ولأن الدروس التي يريد أن يلقنها له الأب متعددة الطروحات فإن القساوة والشتائم والرقة والحنو تختلط في تناغم غريب حيث لم نستطع أن نكتشف شخصية الأب على حقيقتها ومدى وضوحها وهل كان قاسياً أم كان رحيماً؟ في رحلة الابن «تشاك وأبوه» يدخل الأب في علاقات نسائية أولها علاقته بمعلمته السريعة والتي أعطتنا إشارة بسيطة جداً على أن تشاك يحمل بذوراً أنثوية، وفي اختفاء الابن وابنه في بيت طبيبة هندية مسلمة واكتشافها لهما يقسو الأب على الطبيبة ويكتفها ويسرق مالها وسيارتها ليقدم لنا المخرج قراءة للعلاقة بين رؤية المجتمع الأميركي للإسلام وما يفصح عن قسوة وهدوء. بعد تهديد الطبيبة المسلمة وسرقة سيارتها تبدأ بذور شخصية جديدة تظهر في شخصية الابن حيث رغبته في سرقة أحد المتاجر على الطريق ومن خلال ذلك تتجلى روح الشخصية التي ستبنى، أو لنقل أن روح التغير بدأت تطرأ على شخصية «تشاك». البنية الاجتماعية المجهول الأميركي في البنية الاجتماعية وصراعاتها تجسده أو لنقل توازيه الطبيعة المترامية، جبال، سهول، وديان، مياه ضحلة في بحيرات ممتدة، غابات موحشة معزولة طرق ملتوية تمتد إلى آفاق واسعة، صحراء مقيتة قاتلة، ذلك هو عالم الطبيعة في تعدده وتوازيه لتداخلات اجتماعية أيضاً، ولكي تكون رجلاً ـ هكذا يفكر السجين والقاتل ـ فلابد من أن تدخل مع الطبيعة البشرية في صراع مقيت. المجهول الأميركي هو المحرك في هذا الطريق المظلم حيث نجد ـ كمشاهدين ـ تحولات الليل والنهار بوضوح، فالأمر لا يخلو من متعة بصرية عندما نكتشف مثلما المخرج جمال هذا العالم الذي يذهب رجل وطفل في العاشرة لاكتشافه في مقابل الأب والابن كانت ذكريات «الجد» تأتي على لسان الأب المجرم باعتباره نموذجاً للمغامرة والرجولة التي نقلها إليه، حيث كان الجد مغامرا سائحاً صحراوياً مع الجمال وعالم التخيلات السحرية في أفغانستان التي يرغب تشاك في الوصول إليها، لذا يبتدع فكرة القميص السحري الذي وجده في بيت الطبيبة المسلمة بوصفه نموذجاً لعالم الشرق المسحور. يحاول الأب أن يعلم ابنه الرماية واستخدام البندقية، ولأن الرحلة لابد أن تنتهي بمأساوية فإن التذكارات تودع لدى الابن وهذا جانب تقليدي طرق في عشرات الأفلام العالمية شرقية وغربية إذ يودع الأب قلادة الأم لدى تشاك. ويسأل الابن أباه لماذا دخل السجن؟ وماذا سيحصل لهما بعد حين؟ ويخيم الأب المجرم وابنه تشاك في غابة كان قد خيم بها الجد وابنه المجرم هذا، وينقل الأب السجين تجربته مع أبيه إلى ابنه فيحاول أن يرغمه بأن يسبح في بحيرة صغيرة وسط الغابة ولكن الابن لم يفلح. ويلاقي الابن تشاك عقوبة الضرب القاسي من أبيه عندما يكتشف الأخير عدم قدرة تشاك في العوم في البحيرة ـ من هنا يتولد رمز النص برمته ـ مع ما وضع تشاك على وجهه من أحمر الشفاه الذي اضطر أخيراً أن يغسله بماء البحيرة نفسها. حب جارف يهرب الاثنان ثانية وعند محطة كهرباء وفي صحراء شوكية قاسية يكتشف الأب بحيرة أخرى ويسبحان معاً ولكن هذه المرة يستطيع تشاك أن يطفو بجسده فوق ماء البحيرة.. وبذلك قد تحقق رمز ودلالة القصة في الفيلم وهو أن تشاك أصبح قادراً على مواجهة الحياة وكأننا نبصر شخصيتين هما تشاك المهزوم وتشاك المواجه والبحيرة/ الحياة. تجلت مواجهة تشاك لقسوة الحياة عندما يستدعي الشرطة ليقبضوا على أبيه الذي استطاع أن يحصل على البندقية فيقتل نفسه بعد أن اكتمل الدرس الذي نقله إلى ابنه. حب جارف بين الأب وابنه وقسوة عارمة لا نظير لها بين الأب وابنه، ورحلة في خضم الحياة التي هي أشبه بالحيرة التي تحتاج إلى أن نتعلم كيف نخوضها ونبحر في طياتها. ذلك ما نعنيه بالإرصاد وهو أن عنوان «الجولة الأخيرة» قد تحقق في هذه الرحلة التي بدت أخيرة عند الأب كونه ودع الحياة وعند الابن كونه ابتدأ بالحياة. أما استغلال الطبيعة إخراجياً فكان فناً لا يضاهى، في روعته ودقته ، إذ الأمر مفتوح برمته أمام عيني المخرج، هذا التنوع المذهل في الطبيعة يمنح الكاميرا ما تشتهي أن تلتقطه حتى لأظن أن المخرج قد أوقع نفسه في كثير من الأحيان في حيرة الاختيار في زوايا المشاهد وذلك لكثرتها في الطبيعة، تلك الطبيعة التي هي ديكور هذه الصناعة منذ نشأة السينما. كان التمثيل رائعاً «توم راسل» الطفل قدم عرضاً في التمثيل وقيادة المشهد وفي التعاطف والرفض، أما هيوجو ويفينج فكان صاحب تجربة وظفها بكل أبعادها وتاريخها في هذا الفيلم الذي أجده درساً أكاديمياً في السينما.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©