الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلة البحث عن كنوز الأنكا

رحلة البحث عن كنوز الأنكا
13 أكتوبر 2009 22:27
هاأنذا أجلس على قارعة الطريق، في مقهى فندق لاس بالماس المطل على الشارع الرئيسي في هذه البلدة الواقعة في مكان ما جنوباً، قريباً من الحدود البوليفية البيروفية.. ثمة هاجس يدفعني بإلحاح للتوغل شرقاً بحثاً عن كنوز الانكا، بعد أن تلاشت فكرة البحث عن المدينة المحرمة، لأسباب غير مفهومة جعلتني اعتقد أن ذلك نتيجة اللعنة المزعومة التي تحمي تلك المدينة الأسطورية.. حصار الأمكنة لا يمكنني مغادرة هذه البلاد هكذا خالي الوفاض، من دون حتى محاولة أخيرة من أجل تحقيق أي شيء من أهدافي الاستكشافية.. غير أنَّه ليس باليد حيلة، رغم أنَّ ذلك الهاجس صار يراودني باستمرار لكثرة جلوسي في هذا المقهى، فلا توجد أماكن أخرى أذهب إليها في هذه البلدة البائسة، لا شيء غير الرتابة، أنزل كل صباح من غرفتي في الطابق الرابع من نزل لاس بالماس المتواضع جداً، أجلس على نفس هذه الطاولة، في نفس هذه الزاوية من هذا المقهى لأتناول القهوة والخبز المحمص وأطالع الصحف المحلية. تستمر جلستي هذه إلى ما بعد الظهر في كثير من الأحيان، وغالباً ما أعود مساء لأكمل الجلسة التي لا أفعل فيها أي شيء سوى مراقبة الناس وهم يمرون من أمام هذا المقهى محملين بالأكياس التي وضعوا فيها مشترياتهم من محل الفواكه الصغير في الجهة المقابلة من الشارع. صارَ محكوماً عليَّ أن أقيم في هذا النزل المتواضع والرخيص، لأن طائرتي غادرت وصرتُ مضطراً للانتظار أسبوعاً كاملاً، بانتظار الرحلة التالية التي يمكن أن أحصل فيها على مقعد.. ابتسم الآن كلما تذكرت تلك الليلة عندما عدت إلى الميناء عصراً، كنت حانقاً غاضباً، لأنني لم أجد مكاناً شاغراً في الباخرة التي ستقلني إلى مدينة (ليما) حيث سأركب منها طائرة تعيدني إلى الوطن.. وانتهى بي الأمر في هذه البلدة البائسة.. لم أجد مكاناً شاغراً ذلك اليوم في الباخرة، وحاولت جاهداً أن أجد من يبيعني بطاقة سفره، حتى لو اضطرني ذلك للعودة إلى مركز البلدة رديفاً على ظهر دراجة نارية، بحثاً عن صراف آلي يقرضني المال علني أغري أحداً بالتخلي عن تذكرته فيبيعها لي، وليس مهماً على أي درجة، المهم عندي أن أصعد على متن العبارة وأن أغادر ذلك الميناء البائس.. موعد مع البؤس لم تفلح محاولاتي لا مع المسافرين، ولا مع بائعي التذاكر، بل ولا حتى مع البحارة والعاملين على متن الباخرة، فقط تذكرة واحدة هي كل ما احتاج إليه حتى ولو كانت بأضعاف السعر.. جلست على رصيف الميناء بانتظار الباخرة التالية التي قد تصل في صباح اليوم التالي، فلم يكن أمامي أي حل آخر سوى الانتظار، وهنا لا بد أن تكون صبوراً في الانتظار، فالوقت لا يهم كثيراً، لا يهم إن كان عندك مواعيد أو عندك حجز على طائرة تحتاج للحاق بها، لا تملك سوى الانتظار.. مظهري بائس، لا يختلف كثيراً عن بقية الجالسين على هذا الرصيف. باعة متجولون وحمالون وأطفال بؤساء جاءوا مع أهاليهم وفقراء بانتظار حسنة من المسافرين وعابري السبيل.. لا يأتي إلى هذا المكان سواح أو أجانب كثيرون، لكن الحياة في الموانئ تكون ميسورة مقارنة بالقرى المنتشرة في الغابات والمرتفعات.. ونصحني أحدهم بأن احجز غرفة للمبيت قبل أن تمتلئ هي الأخرى بالمسافرين الذين يضطرون إلى قضاء الليلة في هذه البلدة البائسة.. ودلَّني على نزل لا يبعد كثيراً عن رصيف الميناء ناصحاً بأنَّه «من الأفضل المبيت فيه، فلا شيء يمكن أن تجده في مركز البلدة ولا تجده هنا، لكنك هنا ستوفر قيمة انتقالك من وإلى المركز...» موسيقى الفقراء سمعت النصيحة وذهبت إلى حيث أشار لي ذلك العابر، ووجدت عجوزاً تدير نزلاً صغيراً مكوناً من ثلاث أو أربع غرف في الطابق العلوي من منزلها الذي قسمته، فجعلت من الطابق الأرضي مطعماً شعبيا يطل بواجهته الواسعة على الشارع، وخصصت قسماً آخر لسكنها هي وزوجها، بينما جعلت الطابق العلوي برسم الإيجار لعابري السبيل والمسافرين من الميناء الذي لا يبعد عن نزلها سوى عدة أمتار.. ربما كانت الساعة السادسة مساء عندما صعدت إلى الغرفة لاستكشفها، فوجدت سريراً متنقلا في الشرفة المطلة على الشارع الرئيسي، رميت بجسدي المنهك عليه، وغرقت في نوم عميق في الهواء الطلق، أيقظني في وقت ما صوت موسيقى صاخبة كان يحدثها حفل ارتجالي في الشارع، وفي المطعم في الطابق الأرضي. لم أعر الموسيقى الصاخبة أي اهتمام، ولم أعدل من نومتي الهانئة على السرير العاري إلا من قماشة كتانية خضراء هي جسده.. لم أعرف سبب الموسيقى، لكنَّ الناس هنا يحتفلون كل ليلة، ويعزفون ويرقصون السامبا واللمبادا، إنهم يعيشون حياة سعيدة خالية من الهموم، حتى لو كان الفقر يحاصرهم وينهكهم الركض اليومي والتسابق على كسب لقمة العيش.. الناس هنا يترزقون من وراء عملهم في الميناء، أو من خلال تقديم خدماتهم للمسافرين، أو من بيع بعض المنتجات أو الأغذية المعدة في المنزل للمسافرين الجائعين الذين قضوا يومهم في السفر من مناطقهم البعيدة إلى هذا الميناء الصغير نسبياً.. اسم الميناء لم يعن لي شيئاً كثيراً، ولم أتذكره، فقد كنت حانقاً ومرهقاً من الطريق الذي كنت أسافر فيه طوال ذلك اليوم، خمس ساعات أو ست قضيتها ذلك اليوم في حافلة صغيرة بائسة، تراص فيها الركاب، لتقطع الطريق الممتد بين الغابات والسهول والهضاب من بلدة سانتا ماريا النائية لتصل إلى هذا الميناء البائس الذي يعتبر البوابة الوحيدة إلى العالم الخارجي. خارطة في الرأس في مقهى لاس بالماس، في ذلك المساء، كان هناك رواد أكثر من العادة، وسألت النادل الذي صار يعرفني بحكم ترددي اليومي عليه منذ ثلاثة أيام عن سبب هذا الإقبال على هذا الفندق المتواضع والمنعزل؟ فأخبرني بأنهم نزلاء جُدد نزلوا في نفس الفندق البارحة، وهم أميركيون في مهمة استكشافية.. والواقع أنني اعتقدت إنهم في مهمة استخباراتية أو عسكرية، لكنني رأيت بينهم شخصية عرفتها من صورها التي نشرت اليوم السابق في الصحف المحلية، إنه الدكتور إدوارد كريتشر ويبدو أنه يرأس فريقاً بحثياً، كنت قرأت مقالة عنه في صحيفة محلية تصدر بالإنجليزية لكنني لم أتصور أبداً أن ألتقيه.. الدكتور كريتشر يحظى بسمعة مرموقة في علم «الأركيولوجي» والحفريات، وهو يحظى بتمويل من جامعة جورج واشنطن الأميركية العريقة.. كان موضوع المقال هو مفتاح حديثي معه لأقنعه بفكرتي للانضمام إلى فريقه.. امتدحت شهرته الواسعة التي وصلت مشارق الأرض ومغاربها وأخبرته بأنني رحالة باحث عن المغامرة والاستكشاف قادم من الشرق وأنني سأفيدهم إذا سمحوا لي بمرافقتهم في رحلتهم خصوصا أنني عدت قبل أيام من تلك الأنحاء.. نظر إليّ الدكتور كريتشر نظرة استخفاف معتقداً إنني أُهلوس من فرط الشرب في هذا المقهى البائس.. لكنه رفض عرضي بشكل قطعي مبرراً رفضه بعدم الحاجة إلى مرافقين، فهم في مهمة علمية وليست سياحة أو مغامرة. وأنهم علماء وليسوا مغامرين مثلي، وإن التمويل الذي يحصلون عليه يأتي في الغالب من الجامعة فلا يمكنهم التفريط فيه أو إنفاقه جزافاً.. وأوضح كيف أن لديهم خطة محددة، وطريقا معروفا ومحددا سلفاً، وأن لدينا أجهزة اتصال وأجهزة تحديد المواقع باستخدام الأقمار الاصطناعية. وأن من بين الفريق الاستكشافي الدليل والخبير والحارس.. لكنني عملت على إيهامه بأنني أملك خارطة للوصول إلى المدينة المحرمة، لكنني احتاج إلى التمويل لتأمين وصولي إلى المدينة في مكان ما من تلك الغابات المطيرة، وأن الأمر لا يقتصر على المدينة المحرمة ثمة أشياء أخرى ربما يمكن أن نصل فيها إلى اتفاق.. هناك أسرار الصحراء العربية المليئة بالكنوز والآثار والمستحثات.. بل وأسرار الربع الخالي وربما أسرار عاد وثمود التي تعود حضارتهم إلى قبل الميلاد بآلاف السنين.. ضحك الدكتور كريتشر ضحكة ساخرة، وهو يطلب مني أن أريه ما عندي، لكنني أشرت إلى رأسي حيث احتفظ بالخارطة.. تلاشت بقايا الابتسامة الساخرة من على وجهه وكأن حديثي لم يعجبه واعتدل ليبدو جادا وحازما، ثم أبدى لي عدم تصديقه لكلامي وأنه لا يوجد شيء اسمه المدينة المحرمة إلا في الصين، وهي عبارة عن قصر آخر الأباطرة هناك. واستغرب ما علاقتي أنا بالصحراء العربية، وماذا أعرف عنها؟ فأوضحت له أن حديثه عن المدينة المحرمة في الصين صحيح، لكن هناك أيضا مدينة محرمة تقبع في مكان ما من هذه الغابات تعود إلى آلاف السنين وأقدم بكثير من المدينة الصينية المحرمة، وإن هناك أسطورة تقول إنها لم تكن محرمة وكانت عاصمة هذا الجزء من العالم، وإنها منارة الحضارة والذهب ويعتقد أن شعبها حكم العالم القديم يوما ما ولكنها انتهت عندما أصابتها لعنة الآلهة لأسباب غير معلومة، فأصبحت محرَّمة على كل البشر وسكنها الجن والأشباح والأرواح الشريرة وبقيت كل كنوزها وأثارها محفوظة تحت حراسة الشياطين والجن التي سيطرت عليها بعد أن تخلت عنها الآلهة.. أما بالنسبة لكنوز الصحراء العربية، فأخبرته بأنني خبير في تلك المنطقة من العالم لأنني جئت من هناك.. إنني يا سيدي من سكان تلك الصحراء، وأعرف كل تفاصيلها وأعرف كمية الأسرار المدفونة فيها.. البحث عن مدينة الذهب أثار حديثي اهتمامه وهو يتساءل عن سبب وجودي هنا بعيدا جداً عن بلادي، وقال إنه كان يعتقد أنني من سكان هذه البلاد، أو ربما قد أكون مهاجراً من مكان ما، وعندما أخبرته بأنني قادم من الشرق اعتقد أنني قادم من البرازيل، أو من مكان ما من هذه القارة الواسعة.. وأبدى أسفه وتعاطفه لاعتقاده أنني تكبدت مشقة كبيرة وقطعت مسافة بعيدة من أجل وهم وقصة أسطورية ليس أكثر.. وسألني إن كنت أقصد مملكة الذهب، أو ما أطلق عليه «الدورادو» التي روي أن بها قوة خارقة تكفي لتغيير العالم.. وضحك ساخرا وهو يصف تلك الرواية بالسخافة وبأنها رواية قديمة تناقلها الإسبان في القرن السادس عشر وكانت من مخيلة احد المستكشفين ليدهش البلاط الإسباني في ذلك الوقت.. فأوضحت له علمي بكل ذلك، وأن ما أبحث عنه ليس ذلك لكنه ليس بعيدا عنه.. وأخبرته بأن تلك الرواية ربما تكون خيالية، لكنها تصف حملة ذلك المستكشف التي قادته إلى قلب الأمازون حيث تجوّل لمدة ثمانية أشهر، غير إن البحث عن تلك الحضارة المجهولة أو القصة الخيالية التي رسمها ذلك المستكشف قادت إلى اكتشافات رائعة ومهمة في هذه القارة الشاسعة، منها اكتشاف مدينة ماتشو بيتشو عاصمة حضارة الانكا المخبئة في أعالي جبال الانديز، كما عثروا على مدينة المايا الضائعة، وعلى تماثيل وأهرامات.. كان يستمع وعلى وجهه ابتسامة خافتة وقد أسند ذقنه على يده متكأ على الطاولة، ومرت برهة صمت قبل أن يقول وقد بدا كأنه توصل إلى قرار حاسم بعد تفكير طويل: اعذرني يا سيدي لكن يجب أن أكون صريحاً وواضحاً معك رغم أن حديثك فيه شيء من التشويق، غير إن ذلك لا يعني أنني أستطيع أن أسمح لكَ بمرافقتنا في هذه البعثة العلمية، أما قصة الصحراء العربية فربما نتواصل يوماً ما، وحينها يمكن أن تكون أنت مرافقنا أو دليلنا إن شئت..
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©