الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عَصْرُنا.. المذموم فلسفياًً

عَصْرُنا.. المذموم فلسفياًً
20 يوليو 2016 21:05
محمد سبيلا لم يكن بإمكان البشرية أن تشكل صورة شاملة عن ذاتها وعن العالم خارج التصورات الدينية المتوارثة إلا ابتداء من اندلاع العصور الحديثة وبخاصة من القرن الثامن عشر. ولم يكن بإمكان ذلك أن يحدث إلا لدى الشعوب التي حققت تقدما متميزا في تاريخ البشرية، تقدما علميا وتقنيا وثقافيا. لكن الخروج من دائرة التصور التقليدي وتبني تصور جديد لم يتم في كل البقاع الأوربية ولا في كل القطاعات والمستويات الاجتماعية. وقد كان للفلاسفة الألمان فضل التفكير الشمولي في الوضع الآني للبشرية وتحديد ملامحه الجديدة المتميزة عن السابق فكان لهم سبق الظفر بالوعي الشمولي لسمات الوضع التاريخي الجديد للبشرية. ربما كان كانط هو أول فلاسفة العصر الحديث الذي شخص الوعي الجديد بقوله إن البشرية هي في طور الانتقال والخروج من مرحلة القصور التي تمارسها السلط التقليدية بفرض الوصاية على الفرد عبر كل المجالات الاجتماعية نحو امتلاك الإنسان لوعي بذاته وبحريته وبذاتيته وبإرادته الحرة. وهذا الخروج يمكن أن يحرر الإنسان من سلطتين: قداسة السلطة وسلطة القداسة. تشخيص مماثل لهذه الأزمنة الجديدة نجده في فكر هيجل الذي طور نفس التشخيص، مبينا أن المبدأ الأساسي للعالم الحديث هو حرية الذاتية الإنسانية الذي يقتضي أن الكلية الروحية للمجتمع الجديد إنما تتجه نحو اكتساب الحقوق المجزأة المقابلة لهذه الوضعية الجديدة. كلاهما كانط وهيجل، استشعر جدة العصور الجديدة وثمن تميزها بالحرية الذاتية، كما ظل مستبشرا بهذه الجدة وإن لم ينفصل كليا عن البنية الثقافية التقليدية الشارطة إلا أن وعيهما بجدة العصور الحديثة تراوح بين الانعكاس اللاواعي في حالة كانط والوعي القلق المهموم بكيفية المصالحة بين الثنائيات والتمزقات التي حدثت في الوعي بين الذاتي والموضوعي في مجال المعرفة، وبين المتناهي واللامتناهي في مجال الدين، وبين الخاص والعمومي في مجال السياسة، وبين الحرية والضرورة في مجال الأخلاق لدى هيجل. غير أن ماركس نزل بهذه التناقضات من عليائها، وقلب المنظور تماما، حيث ركز على أن تناقضات العصر الحديث بكل إيجابياته المتمثلة في التقدم التقني والعلمي هي تناقضات ذات أسس اجتماعية واقتصادية، تناقضات بين رأس المال والعمل، بين الإنتاج والاستغلال وأن الخلاص لن يكون إلا بالانتقال من التأويل إلى التحويل، أي تحويل جذري لنظام الإنتاج وإحداث تلاؤم أكبر بين قوى الإنتاج (الطبقة العاملة) وعلاقات الإنتاج. قد وجدت رؤية ماركس ودعوته صدى قويا في العالم ابتداء من البشرية المتقدمة إلى أكثر فروع البشرية تخلفا بنكهات تتراوح بين السلمية والعنف. لكن فيلسوفا ألمانيا آخر رحب كليا بالعصور الجديدة باعتبارها عصورا تحررت من الأوهام الكبرى لكنها افتتحت عهودا لا تخلو من مهاوي وتناقضات. ففي الوقت الذي كان الجمهور العام يستلذ حلاوات الحداثة التقنية، ويستمرئ خدماتها المتمثلة في تقريب الأمكنة وتقليص الأزمنة وعلاج الأمراض الجسمية والنفسية المستعصية كان الفلاسفة (والأدباء) يستجمعون مَذَمَّات الحداثة ومرثياتها. وقد كان نيتشه سباقا إلى نقد الحداثة وإلى التبكير بذمّها. تميز نقد نيتشه للعصور الحديثة بكونه شموليا وجذريا. فهو قد انتقد الفلسفة عامة بأنها لاهوت مشوَّه، وعاب على الميتافيزيقا الحديثة أنها إجلال وعبادة للوعي وللعقل، واعتبر العلم الحديث مجرد عقيدة جديدة، وانتقد الاشتراكية باعتبارها مجرد تعبير عن الحسد الاجتماعي، والديمقراطية على أنها تعبير عن رأي الغوغاء وانتصار سياسي للعبيد والدهماء، واعتبر جهاز الدولة مسخا مشوها باردا، وانتقد التقدم على أنه وهم، وعاب على فلسفة التاريخ تصورها الخطي للزمن التاريخي... لم يترك نيتشه شيئا إلا انتقده ولم يمجد سوى ذاته وعبقريته وتميزه واعتبر نفسه ديناميتاً سيؤرخ به التاريخ. ترجع خطورة نقد نيتشه لكل ما هو حديث لا فقط إلى شموليته وإلى راديكاليته، بل إلى أنه افتتح عواصف نقد الحداثة وأصبح مرجعا لكل التيارات النقدية للحداثة والتي سميت فيما بعد بما بعد الحداثة. لكن هناك فيلسوفا آخر شكل بدوره، ارتكازا على نيتشه وفي أفقه، نقطة مرجعية لانتقاد العصر أو بالأحرى الأسس الميتافيزيقية والمفترضات الفكرية للعصر الحديث وهو هيدغر الذي يركز في نقده للعصور الحديثة على المعالم السلبية الأساسية التالية: * انظلام (من الظلام) أو انسحاب (من السحب) العالم وهو مرتبط بأفول القيم العليا أو بما يسميه اقتباسا عن الشاعر الألماني هولدرلين هروب الآلهة. * تحطيم الأرض ونهب مواردها وطاقاتها. * غَوغَأة أو قَطْعَنة الإنسان أي تحول الناس إلى جمهور أو قطعان من الحيوانات البشرية (عصر الجماهير). * التشكيك الحاقد تجاه كل ما هو خلاق ومبدع وتحول الفن إلى دائرة الذوق الذاتي. * اعتبار الثقافة أو الحضارة تعبيرا عن سياسة وفعالية الإنسان. إن لائحة إدانات العصر طويلة لدى هيدغر ومحورها هو نقد الذاتية الإنسانية كأساس فكري لكل ما حدث في العصر. لكن الطريف في الأمر هو كيفية توزع العبقرية الألمانية بين ريادة الإبداعات التقنية وريادة نقد الحداثة والدفاع عن وجهها الآخر المشرق من حيث إنها هجرة زمنية كبرى، ومشروع تحرري كبير للإنسانية حتى ولو لم يستكمل ولم يستوف هذا المشروع بعد كل مهامه ووعوده (هابرماس). لقد ظلت الحداثة محل ابتهاج واحتفاء كبير لكنها في الوقت نفسه ظلت محط نقد. لكنه نقد لم يستهدف رفض الحداثة بل تقويمها وترشيدها، انطلاقا من تصور ضمني لها كقدر (أو مصير أو أفق) للعالم الحديث، ومن حيث إنها تعني حتمية التدفق الهائل للفعالية الإنسانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©